فرنسا وطالبان شبيهتان، ولكن الفارق بينهما أن إحداهما يجاملها العالم.
فلقد انتفض الإعلام والنشطاء في الغرب على القيود التي يتوقع أن تفرضها حركة طالبان على السيدات في أفغانستان، لاسيما فرض الحجاب، بينما لم تقابَل القيود التي فرضتها فرنسا على الحجاب، بردود فعل مماثلة، بل أحياناً تحولت إلى مَثل يحتذى به في أوروبا تحديداً.
فلماذا يتم تجاهل ما تفعله فرنسا والتركيز فقط على ممارسة طالبان؟
بداية يجب تأكيد أن الحريات بصفة عامة وحريات النساء بصفة خاصة، أصبحت من الثوابت في العصر الحديث، والتي لا يجب المساس بها تحت أي مسمى، وأن فرضية الحجاب الدينية التي يؤمن بها أغلب المسلمين لا تعني أن يفرض من قبل الدولة، كما فعلت طالبان من قبل خلال فترة حكمها الأولى، وإيران حالياً، والسعودية إلى حد ما، قبل صعود الأمير محمد بن سلمان إلى منصبه كولي عهد للبلاد.
ولكن حريات النساء ليست حريات في اتجاه واحد، هي حرية في السفور والحجاب على السواء، وإلا أصبح هذا تمييزاً وعنصرية في حد ذاته، والأهم أن ردود فعل العالم على القيود التي تفرض على حريات النساء يجب ألا تميز بين دولة عظمى كفرنسا أو الاتحاد الأوروبي برمته، وحركة منبوذة كطالبان، ولكن يبدو أن الناشطات النسويات مثلهن مثل أغلب البشر يتعاطفن أكثر أو فقط من مع من يشبهن.
ولكن يفترض أنه على العكس عندما تأتي القيود من دولة كفرنسا تقدم نفسها كبلد للحريات، فإنها تصبح أكثر استحقاقاً للوم من حركة دينية متطرفة خرجت من بيئة ريفية جبلية في مجتمع محافظ كالمجتمع الأفغاني، وتتلمس طريقها في الحياة الطبيعية وليس حتى في العمل السياسي فقط.
طالبان وفرنسا شبيهتان، فأيها يلحق ضرراً أكبر بالنساء؟
الواقع أن ما تفعله فرنسا أكثر ضرراً بكثير مما تفعله طالبان، لأن المجتمع الأفغاني في الأصل مجتمع شديد المحافظة وأغلب النساء بما فيهن كثير من الناشطات والمسؤولات والمتعاونات مع الاحتلال الأمريكي يرتدين شكلاً من أشكال الحجاب لأسباب اجتماعية أكثر منها دينية.
وفي ذروة السيطرة الأمريكية والغربية على أفغانستان، كانت أغلبية النساء ترتدي شكلاً من أشكال الحجاب، وكثير كنّ يرتدين النقاب الأزرق الذي فرضته طالبان خلال فترة حكمها الأولى، رغم أنه لم يعد إجبارياً بعد إسقاط الأمريكيين لحكم الحركة.
بل إن مذيعة شبكة "سي إن إن" الشهيرة مراسلة قناة "سي إن إن"، كلاريس وورد، ذكرت في معرض ردها على الانتقادات لارتدائها الحجاب بعد سقوط كابول في يد طالبان، أنها في أغلب فترات تواجدها في أفغانستان حتى قبل سيطرة طالبان على السلطة، كانت ترتدي الحجاب، وفعلت الأمر نفسه في العديد من البلدان الإسلامية المضطربة التي عملت بها.
والمفارقة أن مشاهد النساء الهاربات من حكم طالبان إلى قواعد الجيش الأمريكي في الولايات المتحدة ذاتها تظهر أنهن يهبطن من الطائرات وهن يرتدين أنواعاً مختلفة من الحجاب، مما قد يجعلهن يشعرن بظلم أكبر من طالبان إذا ذهبن لفرنسا على سبيل المثال.
وبالتأكيد، إنّ فرض طالبان قيوداً على النساء أكثر من طالبان أمر مرفوض وغير مبرر إنسانياً ولا دينياً، ولكن المقارنة بين الحالتين تشير إلى أن الضرر على النساء المسلمات في فرنسا أكبر من الضرر الذي سيلحق بالنساء في أفغانستان جراء قيود طالبان.
فطالبان أعلنت أنها ستسمح للنساء بالعمل، وكذلك الدراسة مع فرض قيود تتعلق بالملابس تتضمن ارتداء الحجاب وليس النقاب، وهو أمر مرفوض، ولكنه واقعياً لن يغير من الوضع الحالي كثيراً، لأن الأغلبية الكاسحة من النساء في أفغانستان محجبات بشكل أو بآخر كما سبقت الإشارة.
أما حديث طالبان عن الفصل بين النساء والرجال في التعليم، فرغم أنه تفكير عفى عليه الزمن حتى بالنسبة للمسلمين المتدينيين وأغلب الإسلاميين الحركيين، فإن الفصل بين الجنسين موجود في العديد من الدول الإسلامية، ومنها دول عدد من دول الخليج الحليفة للغرب، كما أنه مازالت له بقايا بالغرب في عدد من المؤسسات التعليمية، خاصةً الدول الأنجلوساكسونية.
ولأسباب لوجستية، فإن طالبان في الأغلب سيكون لها قيود مادية تمنع تنفيذ الفصل بين الجنسين وهم يحكمون دولة على شفا الإفلاس، وسرعان ما سيتبين لهم أن هناك أشياء أولى بالاهتمام فور المضي قدماً في حكم بلد فقير ومحاصر ودولاراته القليلة مجمدة، ومؤسساته الإدارية كانت تعتمد على المعونة الغربية.
كما أنه يعتقد على نطاق واسع أن ممارسات طالبان سوف تختلف حسب الإقليم بين محافظ وأقل محافظة، إضافة إلى مدى تشدد القادة الإقليميين للحركة.
في المقابل، فإن الضرر الواقع على النساء في فرنسا جراء القيود على الحجاب، أكبر بكثير في فرنسا التي لديها ملايين المسلمين، بينهم نسبة لا بأس بها من المتدينين، والنساء المحجبات اللاتي لن يُمنعن فقط من العمل والدراسة بالحجاب، بل إن الأمهات المحجبات يمنعن من مصاحبة أولادهن في الرحلات.
يعني ذلك أنه بينما واقعياً أن القيود المحتملة التي ستفرضها طالبان لا تختلف عن الواقع ولا عن العادات الأفغانية وأن أغلب الأفغانيات يلتزمن بها بشكل طوعي إلا قلة ضئيلة جداً، بينما القيود الفرنسية على الحجاب قد تتأثر بها أقلية من المجتمع ولكن نسبة ليست بالقليلة على الإطلاق.
ولكن الأثر المعنوي للقيود على حريات النساء في فرنسا أكبر بكثير من الأثر المعنوي لقيود طالبان على النساء.
فطالبان تفرض هذه القيود من منطلق فهم محافظ للدين، يحول فرضية الحجاب من علاقة بين المرأة وربها أو بأسرتها، إلى قواعد تفرضها الدولة، وهو فهم يختلف فيه المسلمون فبعض التفسيرات المحافظة ترى له حجية مثلما الحال في إيران وكذلك السعودية لوقت قريب.
أما القيود الفرنسية، فهي تنطلق من أن الحجاب سلوك خاطئ، وبالتالي هي تقول لمئات الملايين المسلمين في العالم وملايين المسلمين في فرنسا إن المشكلة في عقيدتكم وليس سلوككم الشخصي فقط.
وبطبيعة الحال فإن التبرير الفرنسي الشائع لفرض القيود على الحجاب هو أنه لمنع الرموز الدينية في مؤسسات المجتمع، ولكن إضافة إلى أنه منطق مغلوط، لأن الحريات يجب ألا تستثني حتى الحريات الدينية، غير أنه وفقاً لهذا المنطق حتى فلماذا لم تثر هذه المسألة إلا مع تزايد ظاهرة الحجاب في فرنسا، كما أنه من المعروف أن للدولة الفرنسية تستثني مناطق في شمال شرقي البلاد مثل"الإلزاس واللورين من القيود على الرموز والتعليم الديني"، بل المفارقة إن المدارس الكاثوليكية في البلاد تسمح للطالبات المسلمات بارتداء الحجاب.
الأهم أن المسلمات لا يرتدين الحجاب لإظهار أنهن مسلمات، بل ببساطة لأنهن يؤمنّ بأن دينهن أمرهن بالحجاب أمام الأجانب.
ومما يشير إلى مخاطر القيود الفرنسية على حريات المسلمين، أنها توسعت لتشمل فرض قيود على بيع الطعام الحلال في محال السوبر ماركت وفي مقاصف المدارس، بحيث بات على الآباء المسلمين أن يقبلن احتمال أن يأكل أبناؤهم من التلاميذ في المدارس لحم الخنازير.
الأخطر من ذلك أن قيود فرنسا على حريات المسلمين عامة ومنهم النساء، وصلت إلى حد منع حقهم من الشكوى من التمييز، فالقوانين الفرنسية الأخيرة ضد المسلمين منعت المنظمات المعنية بالإسلاموفوبيا من ممارسة نشاطها بدعوى أنها تمارس التمييز وبالفعل حظرت الحكومة الفرنسية بعد سن هذه القوانين أشهر المنظمات الإسلامية التي تفضح الإسلافوبيا.
ويمكن تخيل ردود فعل العالم، لو منعت طالبان الناشطات من الجأر بالشكوى من قيود طالبان.
المفارقة هنا أنه بينما تحاول طالبان ببطءٍ التراجع عن بعض تشددها، فيما يتعلق بالنساء، رغم أن ذلك يمكن أن يشكل مخاطر حقيقية على وحدة الحركة جراء الغضب المتوقع من الجناح المتطرف بها من مثل هذه التراجعات، تغولت فرنسا في ممارساتها التمييزية ضد المسلمين، لاسيما النساء المحجبات.
فرنسا تزعم أن هدفها المساواة
إن قيود فرنسا على حريات المسلمين لا تنطلق من المزاعم عن تحقيق المساواة، وتحييد الدين من الحياة لمنع التمييز، بل العكس تستغل شعارات العلمانية المتطرفة لتطبيق أجندة قومية فرنسية ذات جذور كاثوليكية بالأساس تستهدف المسلمين دون غيرهم، ووصلت إلى حد التدخل في الآيات القرآنية التي يتلوها الأئمة في المساجد.
إن العالم يجب أن يتعاطف مع بضع مئات من النساء الأفغانيات غير المحجبات أو اللاتي يرتدين التنورات القصيرة، ويجب أن يحاول الضغط على الحركة الأفغانية للتوقف عن هذه الممارسات.
ولكن عليه أيضاً التعاطف مع مئات الآلاف إن لم يكن الملايين من النساء الفرنسيات ذوات الأصول المهاجرة، اللاتي لا يواجهن فقط التمييز جراء أنهن من أصول غير فرنسية، بل يتعرضن للطرد من المسابح لارتداء البوركيني أو يمنعن من مصاحبة أطفالهن في الرحلات المدرسية، أو يفقدن فرصة الحصول على عمل لائق.
المنظمات الحقوقية تدين فرنسا والاتحاد الأوروبي يدعمها ضد المسلمات
وتجدر الإشارة إلى أن منظمات دولية عدة انتقدت قيود فرنسا على حريات المسلمين والمسلمات، ولقد سبق أن وصفت منظمة العفو الدولية القوانين الفرنسية المقيدة لحريات التعبير، وتلك الخاصة بمكافحة الإرهاب بأنها تثبت أن فرنسا ليست بلد الحريات.
كما سبق أن قالت العفو الدولية إنّ حظر النقاب بفرنسا تراجُع كبير في الحريات.
واللافت أن الاتحاد الأوروبي بدلاً من أن يكون رقيباً على فرنسا مثلما يفعل مع أعضائه الصغار وتركيا، فإنه يتأثر بها، مثلما ظهر تأييد المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان الحظر الذي فرضته فرنسا على النقاب في الأماكن العامة سنة 2010، بعد أن تقدمت شابة فرنسية ترتدي النقاب بدعوى تطعن فيها ضد هذا القانون.
وسبق أن انتقد الرئيس الأمريكي الأسبق، باراك أوباما، قيود فرنسا وعدد من الدول الأوروبية على الحجاب، كما أن صحفاً أمريكية وإنجليزية انتقدت هذه القيود الأمر الذي استدعى رداً من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، معتبراً أن بلاده لديها نموذجها الخاص للحريات والليبرالية الذي يفرض هوية واحدة على المجتمع عكس النموذج الأنجلوساكسوني المتقبل والمتعايش مع التنوع الديني والإثني.
فرنسا تدّعي أنها نموذج متفرد وطالبان وإيران كذلك
والمفارقة أن الادعاء بتفرد النموذج الفرنسي لتبرير فرض قيود على الحريات، هو الادعاء نفسه الذي تستند إليه طالبان وإيران والمحافظون المسلمون عامة في فرضهم قيوداً على حريات النساء، والفارق أن طالبان وإيران وغيرهما من المسلمين المحافظين يستندون إلى فهم غير دقيق للشريعة الإسلامية، بينما فرنسا تستند إلى ما تعتبره فهمها الخاص للعلمانية وهو فهم في حقيقته بعيد عن العلمانية أو الحرية، بل هو بالأساس هو نتيجة هوس الدولة الفرنسية ونخبها منذ الثورة الفرنسية بإذابة ومسح أي اختلافات في المجتمع ومسح الهوية الدينية بعدما قمعتها هذه الثورة بوحشية، والأهم القضاء على الهويات الإثنية في الأقاليم الفرنسية وهي السياسة التي أدت إلى اختفاء اللغات الإقليمية وفرض اللغة الفرنسية على البلاد، بعدما كان المتحدثون بالفرنسية يمثلون أقل من 12 % من السكان عشية الثورة الفرنسية ونصفهم عشية الحرب العالمية الأولى.
سياسات فرنسا تجاه المسلمين ليست نتيجة الغيرة على حقوق المسلمات، اللاتي يرتدين الحجاب، وحمايتهن من خداع رجال الدين، كما تقول باريس، بل هي امتداد لسياسات النخب الفرنسية بعد الثورة الفرنسية في احتقار المختلف في تقاليده أو لغته، ومحاولة مسح مكونات الاختلاف، وهو سلوك لا يختلف كثيراً عما تفعله الصين بالمسلمين الإيغور والذي ينتقده الغرب.
والدليل على أنها ليست قضية حريات ولا علمانية أن هذه السياسات تأتي من الأحزاب اليمينية والوسطية التي بحكم تركيبتها أقل علمانية وأكثر حماسة للقومية الفرنسية ذات الجذور الكاثوليكية، بينما اليسار الفرنسي يرفض هذه القوانين، واليسار بطبيعته أكثر علمانية وارتباطاً بالحريات والحقوق الفردية، ورفضاً للتمييز.
وقد دافع الزعيم اليساري جان-لوك ميلانشون، زعيم حزب "فرنسا الأبية"، عبثاً عن اقتراح أخير ضد القانون الذي يستهدف ما يسميه ماكرون "الانفصالية الإسلامية"، لأنه معادٍ للإسلام"، على حد قوله.
كما أنه من المعروف أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، هو نفسه وصل للرئاسة بدعم من المنظمات الإسلامية، التي يناصبها العداء الآن، بل كان يطالب وهو مرشح رئاسي، بتخفيف غلواء العلمانية وقبول الإسلام في الحياة العامة.
ولكن بعد سلسلة من الأزمات والإخفاقات السياسية لماكرون خلع وجه الوسطي، وعاد للعبة ساسة فرنسا المفضلة بمغازلة المشاعر اليمينية المحافظة والمتطرفة عبر التحريض على المسلمين، علماً أن هناك تراجعاً واضحاً في فرنسا عن الجريمة بصفة عامة وضمنها الإرهاب.
لماذا تستحق فرنسا اللوم أكثر من طالبان؟
المفارقة هنا أن طالبان الحركة المتطرفة تخاطر بوحدتها لمحاولة التعايش مع العالم، حتى لو تصل لدرجة مُرضية للغرب ولأغلب المسلمين، في المقابل فإن ماكرون يخاطر بوحدة فرنسا الاجتماعية عبر حقن الغضب في نفوس المسلمين، مما يهدد مستقبل البلاد ليبقى في الحكم.
لا يمكن إنكار أن هناك بعض الانتقادات لقيود فرنسا على حريات المسلمين وضمنهم النساء في الغرب، ولكنها انتقادات قليلة جداً تتركز في أوساط اليسار الفرنسي الراديكالي وجماعات حقوق الإنسان الأكثر مهنية وبعض الأوساط الليبرالية والإعلامية الأمريكية، بينما فعلياً تتحول سياسات فرنسا إلى نموذج يحتذى لكثير من الأوروبيين.
ولكن الواقع أن فرنسا تستحق اللوم أكثر من طالبان، لأن الحركة الأفغانية المحافظة لم تدعِ يوماً أنها تحمل لواء الحرية، بينما فرنسا تقدم نفسها منذ قرنين باعتبارها بلد الحريات، ولكن يبدو أنها حريات في اتجاه واحد.