ربما أصبح السؤال الأبرز الخاص بلقاحات كورونا يتعلق بالفترة الزمنية التي يوفر خلالها الحماية لمن يتلقاه، خصوصاً مع التوجه نحو توفير جرعات تنشيطية من اللقاح، فماذا يقول العلماء حول أسباب ذلك؟
وحالياً تسابق جميع دول العالم الزمن لتوفير لقاحات كورونا لمواطنيها، في ظل أفضلية ضخمة لصالح الدول الغنية مقارنة بالدول الفقيرة، بينما بدأت بعض الدول، مثل كوبا، في تطعيم الأطفال الصغار من سن عامين فقط.
وتعتبر لقاحات كورونا السلاح الأبرز في محاربة الجائحة التي أصابت العالم بالشلل منذ تفشيها خارج الصين في فبراير/شباط من العام الماضي، إذ تساهم في خفض معدلات الإصابة بأكثر من 80%، وحتى من يتعرضون للعدوى بسلالة دلتا الأكثر خطورة، لا يحتاجون في أغلب الحالات إلى دخول المستشفى.
أما بالنسبة لمسألة المدى الزمني الذي توفر خلاله لقاحات كورونا الحماية لمن يتلقاها، فقد تناولت صحيفة Wall Street Journal الأمريكية هذه النقطة في تقرير لها بعنوان "بعض اللقاحات تدوم مدى الحياة.. إليكم لماذا لا تدوم لقاحات كوفيد-19؟".
لقاحات توفر الحماية مدى الحياة
بشكل عام، هناك لقاحات وأمصال توفر الحماية ضد فيروسات بعينها مدى الحياة. فلقاحات الحصبة، على سبيل المثال، توفر الحماية لمن يتلقاها مدى الحياة دون التعرض للإصابة بالمرض، بينما يوفر لقاح الجدري المائي الحماية لمدةٍ تتراوح من 10 إلى 20 عاماً.
ويستمر تأثير لقاح التيتانوس لعقدٍ أو أكثر. لكن على الجانب الآخر، يدرس مسؤولون أمريكيون حالياً ما إذا كانوا سيصرِّحون باستخدام جرعات تنشيطية من لقاحات كورونا للبالغين الذي تلقوا اللقاح في أقرب وقتٍ بعد ستة أشهر من التطعيم الأوَّلي.
ويتمثل الهدف من اللقاح في توفير الحماية التي تقدِّمها العدوى الطبيعية، ولكن دون التعرُّض لخطر الإصابة بمرضٍ خطير أو الوفاة نتيجة له. وقال رستم أنتيا، أستاذ علم الأحياء بجامعة إيموري الأمريكية، والذي يدرس الاستجابات المناعية، للصحيفة الأمريكية: "اللقاح الجيِّد حقاً يحمي صاحبه من الإصابة بالعدوى حتى لو تعرَّضَ للفيروس. ولكن ليست كلُّ اللقاحات مثالية".
وقال إن مستويات الدفاع الثلاثة تشمل الحماية الكاملة ضد العدوى وانتقالها، والحماية من الأمراض الخطيرة وانتقالها، أو الحماية من مرضٍ خطيرٍ فقط. وتعتمد الفاعلية على حجم الاستجابة المناعية التي يحفِّزها اللقاح، ومدى سرعة تحلُّل الأجسام المضادة الناتجة عنه، وما إذا كان الفيروس أو البكتيريا أكثر ميلاً للتحوُّر، وموقع الإصابة.
ماذا تعني "عتبة الحماية"؟
أما عتبة الحماية، فهي مستوى الحصانة الكافية للحماية من المرض. ويختلف الأمر في كلِّ مسبِّبٍ للمرض، كما تختلف طريقة تحديده. وقال مارك سليفكا، الأستاذ في جامعة أوريغون الأمريكية للصحة والعلوم: "الأمر يتوقَّف بالأساس على مستويات الأجسام المضادة أو الأجسام المضادة المعادلة لكلِّ ملليلتر من الدم"، علماً بأن الخلايا التائية تساهم أيضاً في الحماية، لكن قياس الأجسام المضادة أسهل.
أُكِّدَت عتبة الحماية عند 0.01 وحدة دولية لكلِّ ملليلتر لمرض التيتانوس في عام 1942، عندما قام باحثَان ألمانيَّان بتعريض نفسيهما عمداً للتيتانوس بغرض اختبار نتائج الدراسات السابقة التي أُجرِيَت على الحيوانات.
وقال سليفكا: "أعطى أحدهما لنفسه جرعتين قاتلتين من التيتانوس في فخذه، وراقب مدى نجاته، فيما حَقَنَ شريكه نفسه بثلاث جرعاتٍ قاتلة"، ولم يمرض أيٌّ منهما.
أما الحصبة، فقد حُدِّدَت عتبة الحماية الخاصة بها في عام 1985 بعد أن تعرَّضَ سكنٌ جامعي للمرض بعد فترةٍ وجيزةٍ من التبرُّع بالدم. فَحَصَ الباحثون تركيزات الأجسام المضادة في تبرُّعات دم الطلاب، وحدَّدوا عتبة 0.02 وحدة دولية لكلِّ ملليلتر من الدم، على أساس أنها المستوى المطلوب لمنع العدوى.
مع هذه الأمراض، يؤدِّي حجم الاستجابة للقاحات، جنباً إلى جنبٍ مع معدَّلات تحلُّل الأجسام المضادة، إلى استجاباتٍ مناعية دائمة، حيث تتحلَّل الأجسام المضادة للحصبة بصعوبة، وتتحلَّل الأجسام المضادة للتيتانوس بسرعةٍ أكبر، لكن اللقاح يجعل الجسم ينتج أكثر بكثيرٍ مِمَّا يحتاج، مِمَّا يعوِّض الانخفاض.
قال سليفكا: "نحن محظوظون بالتيتانوس والدفتيريا والحصبة واللقاحات عموماً. لقد حدَّدنا ما هي عتبة الحماية، ويمكننا تتبُّع انخفاض الأجسام المضادة بمرور الوقت. وإذا كنَّا نعرف عتبة الحماية، يمكننا حساب قوة هذه الحماية. لكن في حالة كوفيد-19، لا نعرف ذلك".
كيف يتم تصنيع اللقاحات؟
ومن المهم هنا التوقف عند حقيقة أن التساؤلات بشأن فاعلية اللقاحات بشكل عام في الوقاية من الإصابة بسلالة دلتا على وجه الخصوص قد أثيرت بشأن جميع اللقاحات، سواء الصيني منها أو الروسي أو لقاح فايزر الأمريكي وأسترازينيكا البريطاني.
فرغم توصل العلماء، في زمن قياسي بلغ أقل من عام واحد، لعدد من اللقاحات، وبدأت دول العالم في حملات تطعيم مواطنيها، منذ ديسمبر/كانون الأول الماضي، وهو ما مثل بارقة أمل في أن الحرب البشرية ضد الوباء القاتل قد أوشكت على نهايتها، فإن ظهور سلالات وتحورات لفيروس كورونا بدأت تلقي أحياناً بالشكوك حول مدى فاعلية بعض تلك اللقاحات في الوقاية من العدوى بتلك السلالات.
ومن الناحية التاريخية، استُخدِمَت أكثر اللقاحات فاعلية في تصنيعها فيروسات مماثلة، والتي تولِّد بشكلٍ أساسي مناعةً مدى الحياة، وتستخدم لقاحات الحصبة والجدري فيروسات مُكرَّرة.
لا تدوم اللقاحات غير المتكاثرة واللقاحات القائمة على البروتين (مثل لقاح التيتانوس) لفترةٍ طويلة، ولكن يمكن تعزيز فاعليتها بإضافة مادة مساعدة -وهي مادة تعزِّز حجم الاستجابة. بينما تستخدم لقاحات التيتانوس والتهاب الكبد أ مادةً مساعِدة.
وتستخدم لقاحات جونسون آند جونسون، وأسترازينيكا، 19 فيروس غُدِّي غير متكاثر، ولا تتضمَّن اللقاحات مادةً مساعِدة، بينما لا يحتوي لقاحا فايزر وموديرنا، اللذان يعملان بشكلٍ مختلف، على أيِّ فيروسٍ على الإطلاق.
ومِمَّا يزيد الأمور تعقيداً أن الفيروسات والبكتيريا التي تتحوَّر لتتملَّص من الاستجابة المناعية للجسم يصعُب التحكُّم فيها.
الفيروسات المتحورة أكثر صعوبة في التعامل معها
نادراً ما تتحوَّر الحصبة والحصبة الألمانية والجدري المائي، لكن عُثِرَ على ثمانية أنواع على الأقل من فيروس سارس-كوفيد-2، وهو الفيروس المسبِّب لمرض كوفيد-19، تتحوَّر، وفقاً لدورية British Medical Journal.
وقال سليفكا لوول ستريت جورنال: "يجعل عمل اللقاحات الأمر أكثر تعقيداً. فأنت تطارد أهدافاً متعدِّدة بمرور الوقت. يتحوَّر فيروس الإنفلونزا أيضاً. بالنسبة للإنفلونزا، عدَّلنا ذلك من خلال صنع لقاحٍ جديد للإنفلونزا كلَّ عام يتطابق قدر الإمكان مع السلالة الجديدة من الإنفلونزا". ويمكن أن توفِّر لقاحات الإنفلونزا الحماية لمدة ستة أشهر على الأقل.
وبصرف النظر عن تعقيدات صنع لقاحٍ فعَّال لمكافحة فيروس متحوِّر، كان هناك بعض الأمل حول إمكانية هزيمة فيروس كوفيد-19 من خلال الوصول إلى مناعة القطيع، ولكن وفقاً للدكتور أنتيا، فإن الطريقة التي تصيب بها فيروسات كورونا الجسم تجعل ذلك تحدياً كبيراً.
قال أنتيا: "من غير المُرجَّح أن تؤدِّي اللقاحات إلى مناعة قطيع طويلة الأمد، نظراً للعديد من التهابات الجهاز التنفُّسي. تدوم مناعة القطيع فقط لفترةٍ محدودةٍ من الزمن. ويعتمد ذلك على مدى سرعة تحوُّر الفيروس، وعلى سرعة تضاؤل المناعة". جزءٌ من المشكلة هو أن فيروسات كورونا تتكاثر في كلٍّ من الجهاز التنفُّسي العلوي والسفلي.
قال الدكتور سليفكا: "لدينا دورةٌ دموية حيوية في رئتنا وجسمنا، ولكن ليس على أسطح أنوفنا، ولهذا يمكن منع المرض الشديد لأن هناك أجساماً مضادة في الجهاز التنفُّسي السفلي". لكن خطر الإصابة بالتهاباتٍ منخفضة المستوى في الجهاز التنفُّسي العلوي قد يستمر.
للمضيّ قُدُماً، سيجري تحديث لقاحات كوفيد-19 لمكافحة الفيروس، ووفقاً للباحثين في كلية لندن الإمبراطورية، قد يركِّز الجيل التالي من اللقاحات أيضاً على تعزيز المناعة في الأسطح الرطبة للأنف والرئتين. وفي غضون ذلك، قد يتطلَّب تجنُّب الفيروس المتحوُّر جرعةً أخرى.