تبدو فرص إعادة إحياء الاتفاق النووي الإيراني في طريقها للتلاشي تماماً، بعد انتقادات وكالة الطاقة الذرية لطهران بـ"المماطلة" بشأن التحقيقات في أنشطتها النووية، وتعبير واشنطن عن "نفاد الصبر".
كانت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن وباقي أطراف الاتفاق النووي الإيراني قد بدأوا في فيينا مفاوضات إعادة إحياء الاتفاق، الذي كان الرئيس السابق دونالد ترامب قد انسحب منه بشكل أحادي عام 2018، وأصبح التفاؤل سيد الموقف بشأن العودة للاتفاق، في ظل رغبة واشنطن وطهران لتحقيق تلك العودة.
وبعد أن أجريت بالفعل ست جولات من المفاوضات في فيينا، بدا أن مسألة إعادة إحياء الاتفاق النووي مسألة وقت، لكن تلك المفاوضات توقفت منذ يونيو/حزيران الماضي تزامناً مع فوز إبراهيم رئيسي -المحسوب على التيار المتشدد- بالرئاسة في إيران. ورغم مرور أكثر من شهر على تنصيب رئيسي رسمياً وتشكيل حكومته، لا تزال المفاوضات بشأن الاتفاق النووي متوقفة.
التفتيش على الأنشطة النووية الإيرانية
وعلى الرغم من أن الاتهامات المتبادلة بين طهران وواشنطن فيما يتعلق بالمسؤولية عن فشل إعادة إحياء الاتفاق النووي ليست أمراً جديداً، بل تعتبر جزءاً من عملية التفاوض في حد ذاتها، إلا أن تطورات الأسابيع الأخيرة ربما تشير إلى قرب نهاية مسار فيينا والإعلان رسمياً عن "وفاة" الاتفاق النووي لتبدأ مرحلة جديدة من الصراع، بحسب كثير من المراقبين.
وتأتي عمليات مراقبة الأنشطة النووية الإيرانية من جانب الوكالة الدولية للطاقة الذرية في القلب من مفاوضات إحياء الاتفاق النووي برمتها، على أساس أن الهدف الرئيسي من ذلك الاتفاق الذي وقعته إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما هو ضمان عدم امتلاك طهران سلاحاً نووياً، من خلال البروتوكول الإضافي الخاص بعمليات التفتيش والمراقبة.
وينص هذا البروتوكول الإضافي الذي وافقت إيران عليه على السماح بمفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية بدخول مفتشي الوكالة الدولية إلى أي منشأة نووية إيرانية، أو حتى منشآت أخرى غير مدرجة كمنشأة نووية، في أي وقت ودون إخطار مسبق، إضافة إلى تركيب عشرات الآلاف من كاميرات المراقبة تعمل على مدار الساعة في المنشآت النووية.
وبعد أن انسحب ترامب من خطة العمل الشاملة المشتركة -أو الاتفاق النووي كما يعرف إعلامياً- في مايو/أيار 2018، ظل الاتفاق سارياً لأن باقي أطرافه رفضوا الخطوة الأمريكية. وباقي الأطراف هم، بالإضافة لإيران بالطبع، بريطانيا وفرنسا وألمانيا وروسيا والصين، لذلك يعرف الاتفاق أيضاً باتفاق 6+1.
وبدأن طهران منذ مايو/أيار 2019 في التخلي تدريجياً عن التزاماتها بموجب بنود الاتفاق الأصلي، دون أن تنسحب منه بشكل كامل. وكان قرار إنهاء عمليات التفتيش والمراقبة الإضافية لمواقعها النووية التي تجريها الوكالة من بين الخطوات التي اتخذتها إيران في فبراير/شباط الماضي لتقليص التزامها بالاتفاق النووي.
ونظراً لأن تلك الخطوة تحديداً تمثل حجر الزاوية في الاتفاق النووي، وإيران تدرك ذلك بالطبع، فقد وافقت طهران على تمديد عمليات التفتيش تلك ثلاث مرات حتى الآن، كانت المرة الثالثة فيها أواخر يونيو/حزيران الماضي.
ماذا قالت الوكالة الدولية للطاقة الذرية؟
لكن الوكالة الدولية للطاقة الذرية وجهت انتقادات علنية لإيران الثلاثاء 7 سبتمبر/أيلول الجاري، بسبب رفض طهران التعاون في تحقيق تجريه حول أنشطة سابقة وتعريض أعمال المراقبة المهمة فيها للخطر.
وقالت الوكالة في تقريرين للدول الأعضاء راجعتهما رويترز إنه لم يتحقق تقدم في قضيتين رئيسيتين، هما تفسير آثار اليورانيوم التي عُثر عليها العام الماضي وقبله في العديد من المواقع القديمة وغير المعلنة والوصول على وجه السرعة لبعض معدات المراقبة حتى تتمكن الوكالة من مواصلة تتبع أجزاء برنامج إيران النووي.
وبينما يجري التحقيق في آثار اليورانيوم منذ أكثر من عام، يقول دبلوماسيون إن الوكالة الدولية للطاقة الذرية في حاجة ماسة للوصول إلى المعدات اللازمة لاستبدال بطاقات الذاكرة حتى لا تصبح هناك ثغرات في مراقبتها لأنشطة مثل إنتاج أجزاء أجهزة الطرد المركزي وهي آلات تتولى تخصيب اليورانيوم.
وبدون تلك المراقبة وما يسمى استمرارية المعرفة، يمكن لإيران أن تنتج وتخفي كميات غير معلومة من هذه المعدات التي يمكن استخدامها لصنع أسلحة أو وقود لمحطات الطاقة.
وجاء في أحد التقريرين: "ثقة الوكالة في قدرتها على الحفاظ على استمرارية المعرفة تتراجع بمرور الوقت، وقد تراجعت الآن تراجعاً كبيراً"، موضحاً أنه بينما تحتاج الوكالة للوصول إلى المعدات كل ثلاثة أشهر فإنها لم تصل لها منذ 25 مايو/أيار. وقال التقرير: "هذه الثقة ستستمر في التراجع ما لم تصحح إيران الوضع على الفور".
وقال دبلوماسي كبير لرويترز إن ثقة الوكالة بأن المعدات ما زالت تعمل بشكل مناسب تتراجع سريعاً بعد ثلاثة أشهر وأنه بينما يجب أن تستمر بطاقات الذاكرة في العمل لفترة أطول قليلاً فإن المفتشين في حاجة للوصول لها على وجه السرعة.
كيف ردت أمريكا على هذا التطور "النووي"؟
الرد الأمريكي على تقرير الوكالة الدولية للطاقة الذرية لم يتأخر، إذ حذر وزير الخارجية أنتوني بلينكن الأربعاء 8 سبتمبر/أيلول من أن "الوقت ينفد" أمام إيران للعودة إلى الاتفاق النووي، مذكراً الصحفيين، أثناء زيارته لألمانيا: "لن أحدد موعداً لكننا نقترب من مرحلة تصبح معها العودة الصارمة للامتثال لخطة العمل الشاملة المشتركة، لا تعود بالفوائد التي حققها الاتفاق".
ومن جانبها، قالت ألمانيا أيضاً إن تلميح إيران إلى أن محادثات إنعاش الاتفاق لن تعاود قبل شهرين أو ثلاثة أشهر "مهلة طويلة جداً" حسب ما أكد وزير خارجيتها هايكو ماس.
وأوضح الوزير الألماني أنه اتصل بنظيره الإيراني الجديد لحمله إلى "العودة بسرعة أكبر إلى طاولة المفاوضات"، إلا أن ماس قال إن برلين لا تزال تتوقع أن تواصل الحكومة الإيرانية الجديدة دعمها للنتائج التي توصلت إليها المحادثات حتى الآن.
وعلى الرغم من أن عنصر الوقت لم يكن يمثل عاملاً ضاغطاً فيما يخص الاتفاق النووي الإيراني منذ تولى الرئيس جو بايدن مهامه رسمياً في 20 يناير/كانون الثاني، فإن التطورات الأخيرة جعلت فجأة عنصر الوقت هو سيد الموقف.
فبايدن، الذي كان نائباً لأوباما وحاضرا للمفاوضات والتوقيع على الاتفاق عام 2015، وضع العودة للاتفاق النووي هدفاً له حتى قبل أن يفوز على ترامب ويبعده عن البيت الأبيض. ورغم ذلك لم تبدأ مفاوضات إعادة إحياء الاتفاق في فيينا إلا يوم 6 أبريل/نيسان الماضي، وشاركت فيها إدارة بايدن بشكل غير مباشر، أي دون الجلوس على طاولة المفاوضات وجهاً لوجه مع الوفد الإيراني.
وحتى عندما انتهت آخر جولة من تلك المفاوضات، بعد إعلان فوز رئيسي رئيساً لإيران خلفاً لحسن روحاني الإصلاحي، أبدت واشنطن تفهمها لتأجيل استئناف المفاوضات حتى يتسلم رئيسي مهامه رسمياً، وهو ما حدث بالفعل مطلع أغسطس/آب الماضي.
هل بات امتلاك إيران قنبلة نووية مسألة "وقت"؟
يرى كثير من المراقبين والمحللين أن إدارة بايدن، الراغبة في إعادة إحياء الاتفاق، لم تكن تريد الظهور بمظهر "المتلهف" حتى لا تستغل طهران ذلك لفرض مزيد من الشروط للخروج بأفضل صفقة ممكنة، لكن الموقف تغير الآن بشكل جذري والسبب تلك الفجوة الغامضة التي باتت تزداد عمقاً في أنشطة إيران النووية.
والمقصود هنا هو أن الهدف الرئيسي من الاتفاق النووي، من وجهة نظر إدارة بايدن، هو منع طهران من امتلاك سلاح نووي من خلال المراقبة الدقيقة لجميع أنشطتها النووية، وبالتالي فإن وجود "غموض وأنشطة مجهولة" يعني أن الفترة الزمنية التي قد تحتاجها إيران لامتلاك سلاح نووي -رغم نفي طهران سعيها لذلك- أصبحت "مجهولة".
وهذه النقطة بالتحديد هي ما أشار إليها بلينكن بقوله إن الموقف "يقترب من مرحلة تصبح معها العودة الصارمة للامتثال (الإيراني) بخطة العمل الشاملة المشتركة، لا تعود بالفوائد التي حققها الاتفاق"، فهل وصلت الأمور إلى هذه النقطة بالفعل؟ خصوصاً أن تلميحات طهران بأن العودة لطاولة المفاوضات قد لا تتم قبل شهرين أو ثلاثة فتحت باب التكهنات على مصراعيه.
فالمدة الزمنية التي تحتاجها إيران لامتلاك سلاح نووي كانت ولا تزال قضية مطروحة للنقاش طوال الوقت، وسط تقديرات غربية تراوحت بين "أقل من عام و3 أعوام"، وكان ذلك قبل التوقيع على الاتفاق النووي عام 2015.
لكن منذ انسحاب إدارة ترامب من الاتفاق عام 2018، أصبح الحديث عن فترة زمنية تتراوح بين "عدة أشهر وعام واحد" هو السائد في قصة امتلاك إيران لسلاح نووي، وبالتالي فإن تقرير الوكالة الدولية للطاقة الذرية الأخير الذي يتهم إيران بـ"المماطلة" والسعي لإخفاء بعض من أنشطتها الخاصة بتخصيب اليورانيوم وأجهزة الطرد المركزي، قد يعني أن محاولات إنعاش الاتفاق النووي من خلال مفاوضات فيينا قد أوشكت على الفشل ومن ثم "دفن الاتفاق نهائياً"، وهو ما يفتح باب التكهنات بشأن "ما هو قادم" على مصراعيه.