جاء وقف إطلاق النار في درعا ليلقي الضوء على أهداف روسيا في هذه المنطقة الواقعة جنوب سوريا؛ وهي أهداف لا تتفق بالضرورة مع ما يريده حليفها بشار الأسد.
وليلة الثلاثاء 31 أغسطس/آب الماضي، أُعلنت اتفاقية لوقف إطلاق النار بين ما يُعرف باسم "المتمردين المتصالحين" في الأراضي الخاضعة لسيطرة المعارضة المسلحة بمدينة درعا البلد وبين حكومة الرئيس بشار الأسد. وأدت الاتفاقية للقوات الحكومية لرفع الحصار الذي فرضته لأشهر على المدينة التي هاجمتها مؤخراً؛ في محاولة لفرض سيطرتها عليها.
تُعتبر مدينة درعا الجنوبية مهد الثورة السورية، لأنّها المكان الذي اندلعت فيه أول مظاهرة معارضة للنظام عام 2011. وبعد سبع سنوات، وبعد تحوّل الاحتجاجات السلمية إلى حربٍ مُدمّرة، نجحت القوات النظامية المدعومة من روسيا في إعادة السيطرة على درعا، ورفع علم النظام، واستحداث برنامج "المصالحة" مع مقاتلي المُعارضة.
لكن المعارضة استمرت داخل درعا، حتى مع انتقال القوات النظامية بمعاركها إلى جبهات أخرى. وصارت الاضطرابات التي شهدتها خلال الأسابيع الأخيرة بمثابة أحدث التحديات لسلطة الأسد، التي ترسخت بالفعل تحت ضغوط الأزمة الاقتصادية الخانقة وتزايد الخلافات في صفوف حلفائه التقليديين.
وتصاعدت التوتّرات في درعا الشهر الماضي، بعد أن هاجم مسلّحون سيارة زعيمٍ بارز في المعارضة، لأنّه واصل التعبير عن معارضته للنظام حتى بعد أن استعادت قوات الأسد السيطرة على المنطقة.
وبلغت أحداث درعا ذروتها، عند لقي القائد السابق أدهم الكراد، وأربعةٌ من مرافقيه، مصرعهم في حادثةٍ أدّت إلى اندلاع أسابيع من العنف وفقاً لتقارير وسائل الإعلام المعارضة التي أكّدتها جماعات المراقبة والمحللون ومنشورات الشبكات الاجتماعية.
ومنذ نهاية يوليو/تموز، شهدت المدينة تصعيداً عسكرياً بين قوات النظام ومجموعات مسلحة محلية، بعد ثلاث سنوات من تسوية استثنائية رعتها روسيا. وتفاقمت الأوضاع الإنسانية مع حصار فرضته قوات النظام على درعا البلد، أي الأحياء الجنوبية للمدينة حيث يقيم مقاتلون معارضون، تصدوا لمحاولة قوات الأسد التوغل في مناطقهم.
وقال سكان ومسؤولون محليون إن أغلب سكان درعا البلد، وعددهم نحو 50 ألفاً، فروا بعد قصف استمر لأسابيع منع خلاله جيش نظام الأسد دخول الغذاء والدواء والوقود، لكنه فتح ممراً للمدنيين للمغادرة.
شروط اتفاق وقف إطلاق النار في درعا
وتسمح بنود اتفاق وقف إطلاق النار في درعا للشرطة العسكرية الروسية مع لجنة أمنية مرتبطة بالنظام السوري أن تُسافر إلى المنطقة لفرض وقف إطلاق النار.
وطوال الشهر الماضي، قادت موسكو مفاوضات للتوصل إلى اتفاق بين الطرفين، تم خلالها إجلاء نحو سبعين مقاتلاً معارضاً إلى مناطق سيطرة فصائل معارضة في شمال البلاد.
وفي السياق، صرح مدير المرصد السوري لحقوق الإنسان رامي عبد الرحمن: "بدأ تنفيذ الاتفاق الأخير الأربعاء الماضي بدخول الشرطة العسكرية الروسية إلى درعا البلد". وحسب المرصد، ينص الاتفاق على وضع قوات النظام ثلاثة حواجز في درعا البلد، على أن يسلم المقاتلون المعارضون الراغبون بالبقاء أسلحتهم، فيما يُرجح أن يتم إجلاء رافضي التسوية".
وفي هذا الصدد، صرح عمر الحريري الناشط المعارض من مكتب "توثيق الشهداء في درعا" بأن "ما حصل هو إلغاء استثناء حازت عليه درعا قبل ثلاث سنوات". مضيفاً: "من المتوقع أن تتجه قوات النظام الآن إلى مناطق يتواجد فيها مقاتلون معارضون في ريف درعا الغربي، بهدف التوصل إلى النتيجة ذاتها".
وقال مفاوضون إن الفصائل المسلحة في المنطقة بدأت بموجب الاتفاق تسليم الأسلحة الخفيفة، بناء على تطمينات بأن الشرطة العسكرية الروسية هي التي ستنفذ الدوريات وتحرس نقاط التفتيش لمنع جماعات مسلحة مدعومة من إيران من الدخول، بما يمنع حدوث عمليات انتقامية.
وقال الجيش السوري إن الاتفاق أعاد أخيراً سيطرة الدولة على منطقة لم تنعم بالأمن منذ فترة طويلة.
الأسد يقدم مزيداً من المطالبات مدفوعاً من إيران
في الوقت نفسه يمكن للمطالبات الجديدة التي قدمها نظام الأسد يوم الجمعة 3 سبتمبر/أيلول الجاري، والتي رُبما قُدمت تحت ضغط من إيران، أن تتسبب في اشتعال الموقف مرة أخرى، حسبما ورد في تقرير لموقع Almonitor الأمريكي.
وكان ممثلون للنظام السوري قد طالبوا بالتسليم الكامل للأسلحة، وإقامة حواجز أمنية في المناطق السكنية، وتفتيش كامل للمنازل. غير أن المعارضة رفضت تلك الشروط، وأصرت على إجلاء السكان إلى تركيا أو الأردن.
مع ذلك يمكن افتراض أن روسيا ستواصل جهودها للإبقاء على الوضع الراهن، إذ إن المسألة مسألة هيبة بالنسبة لموسكو.
وفي أعقاب عملية عسكرية جنوب غربي البلاد ضد جماعات معارضة محلية في صيف 2018، وافقت روسيا على أن تضمن لأولئك المتمردين، وأغلبهم من الجبهة الجنوبية، اعتبارهم حالة خاصة. انتهى المآل أثناء التشاور مع دبلوماسيين من روسيا، وأمريكا، والأردن، وإسرائيل في عمّان إلى تصورات مفادها أن وحدات المعارضة المسلحة قد تبقى، ولن تُنزع أسلحتها بالكامل، حتى قبل بدء هجمات 2018.
رأت الأطراف أن وجود قوات معارضة في تلك المنطقة، ولو بشكل مخفف، يخلق منطقة عازلة من نوع ما على طول الحدود مع إسرائيل والأردن. حينها لم تعد الكلمة العليا حول مصير تلك المنطقة في يد سوريا ولا حليفتها إيران، بل في يد روسيا، التي لم تسمح بنشر قوات تعمل لصالح إيران بالوكالة على طول الحدود مع إسرائيل.
يريد نشر التشكيلات الموالية لطهران في المنطقة
وقد كانت روسيا قادرة على فرض ذلك القرار والدفاع عنه أمام دمشق، برغم الاعتراضات الشديدة من نظام الأسد. نتيجة لذلك حاولت السلطات السورية مراراً وتكراراً أن تستعيد سيطرتها على المنطقة بغرض تحويلها تالياً إلى تشكيلات موالية لإيران، لكن روسيا كانت تحول دون ذلك في كل مرة. بالتالي، وخلال السنوات الثلاث الماضية، ظل الوضع في تلك المناطق الخاضعة لسيطرة المتمردين على ما هو عليه.
في الوقت نفسه، وعلى الرغم من أن موسكو تمكنت من فرض أجندتها الخاصة في النهاية، فإن الوصول للاتفاقات الحالية مع دمشق لم يكن سهلاً.
يضغط الأسد من جهة على القيادة الروسية حيال الحاجة لاستمرار العمليات العسكرية في إدلب. غير أنه بالنسبة للجيش الروسي، فإن بدء عمليات عسكرية جديدة، سواء في الشمال الشرقي السوري أم الشمال الغربي، أمرق شديد الخطورة؛ بسبب احتمالية وقوع اشتباكات عسكرية مباشرة مع تركيا أو الولايات المتحدة، اللتين لديهما قوات مسلحة في المنطقة.
ثم حاولت دمشق نقل عملياتها إلى الجنوب السوري؛ بُغية التأكيد على أنها لا تنوي أن تتراجع عن خطة "تحرير سوريا حتى آخر شبر" التي أعلن عنها الأسد. لكن هناك أيضاً لم يجد النظام السوري دعماً روسياً. لم يُساعد الجيش الروسي قوات النظام السوري في شن هجمات على درعا البلد. بل على العكس كانت موسكو في كل مرة تُحاول إجبار الأطراف على الجلوس إلى طاولة المفاوضات، حسب الموقع الأمريكي.
رغم أن تقارير أفادت بأن الروس هددوا في بعض الأوقات قيادات درعا بالمشاركة في الهجمات مع الأسد عبر القصف الجوي إن لم يستجيبوا لطالباتهم.
ثأر شخصي للأسد مع درعا
الأسد من جهته لديه ثأر شخصي يدفعه لمحاولة السيطرة على تلك المناطق في الجنوب؛ فأهلها رفضوا المشاركة في إعادة انتخابه في مايو/أيار 2021، بل لم يوافقوا حتى على فتح لجان انتخابية. ذلك يُعقد، بلا شك، موقف موسكو في مطالبتها بتوفير معاملة خاصة لأهالي تلك المناطق.
عناد موسكو مع دمشق مدفوع كذلك بحاجة الكرملين لبيان قدرته على الوفاء بالتزاماته تجاه الدول الأخرى في المنطقة: وهما الأردن وإسرائيل تحديداً. لذلك فالمسألة مسألة هيبة بالنسبة لروسيا، حسب الموقع الأمريكي.
في ذلك السياق، كانت لزيارة العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني لموسكو في 23 أغسطس/آب المنصرم ولقائه بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين أهمية قصوى، فكان أحد المواضيع الرئيسية التي ناقشاها هو الوضع في درعا البلد. وتدعي بعض المصادر أنه في أعقاب المباحثات المشتركة اتفق الأردن وروسيا على الحاجة إلى حل النزاع بين الجنوبيين وبين القوات الحكومية التي تحاول إخضاعهم، وذلك عبر حل الأزمة الإنسانية في المقام الأول. وفقاً لتلك المعلومات، فإن عمّان مستعدة لتقديم مساعدات اقتصادية لائقة للمناطق التي عادت سابقاً لسيطرة دمشق عام 2018 لكنها فعلياً ظلت تحت الحكم الذاتي.
علاوة على ذلك، لن ترغب موسكو في المخاطرة بعلاقاتها مع إسرائيل. تواجه روسيا حالة من عدم اليقين بشأن كيفية بناء تفاعل مع الحكومة الإسرائيلية الجديدة. في حال نقل مناطق الجنوب السوري تحت السيطرة الكاملة للأسد، ستظهر فوراً تشكيلات موالية لإيران، وهي في الواقع القوة الحقيقية وراء العملية في درعا.
وسيؤدي ذلك إلى تصعيد جديد في المنطقة وهجمات للجيش الإسرائيلي على مواقع القوات الموالية لإيران بالقرب من حدودها. لا ترغب روسيا بالطبع في فتح صفحة جديدة في العلاقات مع إسرائيل بهذه الطريقة.