أعلنت طالبان النصر على قوات المعارضة في وادي بنجشير وإحكام سيطرتها على أفغانستان، بينما تعهَّد أحمد مسعود في تسجيل صوتي من مكان آمن بمواصلة القتال ضد الحركة، فماذا يعني ذلك؟
منذ أن استولت طالبان على العاصمة كابول منتصف أغسطس/آب الماضي، باتت الحركة العائدة إلى حكم أفغانستان بعد 20 عاماً من الغزو الأمريكي، تسيطر على ولايات البلاد الأربع والثلاثين، باستثناء بنجشير ومطار حامد كرزاي الدولي، الذي كان مسرحاً لعمليات الإجلاء الأمريكي والغربي.
وسيطرت الحركة على المطار بالكامل الإثنين 30 أغسطس/آب بعد مغادرة آخر طائرة أمريكية، لتتبقى فقط منطقة وادي بنجشير، التي كان مقاتلو طالبان يحاصرونها من جميع الجهات، بينما تتحصن فيها قوات معارضة للحركة بزعامة أحمد مسعود، نجل الزعيم الأفغاني السابق أحمد شاه مسعود الملقب بـ"أسد بنجشير" منذ مقاومة الغزو السوفييتي، ومعه أمر الله صالح، نائب الرئيس الأفغاني الهارب أشرف غني.
طالبان تعلن النصر في بنجشير
وبعد أن فشلت المفاوضات بين طالبان وأحمد مسعود في بنجشير، اندلع القتال بين الجانبين واستمر لمدة 6 أيام، وسط تقارير متباينة عن الخسائر في الجانبين. وفي ظل التاريخ السابق لبنجشير أو "وادي الأسود الخمسة" الذي استعصى على القوات البريطانية في القرن التاسع عشر ثم الغزو السوفييتي في ثمانينات القرن الماضي، وفشلت طابان نفسها في السيطرة عليه أثناء حكمها أفغانستان أول مرة (1996 حتى 2001)، شككت تقارير كثيرة في قدرة طالبان على دخول الوادي بالقوة.
لكن اليوم الإثنين 6 سبتمبر/أيلول، أعلنت طالبان الانتصار والسيطرة التامة على وادي بنجشير بعد 6 أيام فقط من القتال. وفي صور على مواقع التواصل الاجتماعي، ظهر أعضاء من طالبان واقفين أمام بوابة مقر حاكم إقليم بنجشير، وقال المتحدث باسم طالبان ذبيح الله مجاهد خلال مؤتمر صحفي: "سقطت بنجشير، آخر معقل يختبئ فيه الأعداء الفارون".
وفي وقت سابق، قال مجاهد: "بهذا الانتصار والجهود الأخيرة خرجت بلادنا من دوامة الحرب وسينعم شعبنا بحياة سعيدة في سلام وحرية في جميع أنحاء البلاد".
وأكدت طالبان لسكان بنجشير أنه لن يكون هناك "تمييز ضدهم". وينحدر سكان بنجشير من عرق الطاجيك (طالبان تنتمي لعرق البشتون)، وقال مجاهد: "هم إخواننا وسيعملون معنا من أجل غرض مشترك ورفاهية البلاد".
كان بنجشير آخر جيب للمقاومة المسلحة ضد طالبان، وللإقليم تاريخ من الصمود في مواجهة الأعداء. وما زال يتناثر في أرجاء الوادي الجبلي الوعر حطام دبابات سوفييتية مدمرة وأثبتت الأحداث عبر العقود صعوبة السيطرة عليه. والقتال في بنجشير هو أوضح مثال على المقاومة لحكم طالبان لكن مدناً أخرى شهدت أيضاً خروج احتجاجات محدودة العدد دفاعاً عن حقوق النساء أو عن العلم الأفغاني.
ماذا عن أحمد مسعود؟
اعترف أحمد مسعود ضمنياً بسيطرة طالبان على بنجشير، دون أن يعلن انتهاء الحرب. إذ قال مسعود، الذي يقود قوة مؤلفة من فلول الجيش الأفغاني النظامي ووحدات من القوات الخاصة وميليشيات محلية يسميها "جبهة المقاومة الوطنية الأفغانية"، في رسالة على تويتر إنه في أمان، لكنه لم يدلِ بمزيد من التفاصيل عما إذا كان لا يزال في بنجشير أم غادرها.
وفي هذا السياق، قال ذبيح الله مجاهد إنه جرى إبلاغه بهروب مسعود ونائب الرئيس السابق أمر الله صالح إلى طاجيكستان المجاورة.
بينما قال علي ميسم نظاري، رئيس العلاقات الخارجية في "جبهة المقاومة الوطنية الأفغانية" إن زعم طالبان الانتصار زعم كاذب وإن قوات المعارضة مستمرة في القتال. وقال على صفحته على فيسبوك "قوات جبهة المقاومة الوطنية الأفغانية موجودة في جميع المواقع الاستراتيجية في أنحاء الوادي لمواصلة القتال".
لكن ذبيح الله مجاهد، خلال مؤتمر صحفي عقده بالعاصمة كابول، عقب إعلان الحركة سيطرتها على إقليم بنجشير، أكد أن "الحرب انتهت، ونأمل في استقرار أفغانستان، وكل من يحمل السلاح يعد عدواً للشعب والبلاد"، مضيفاً: "يجب أن يعلم الجميع أن الغزاة لن يعيدوا إعمار بلادنا أبداً، ومن مسؤولية شعبنا أن يفعلوا ذلك بأنفسهم".
هل تم حسم الأمر وانتهت الحرب فعلاً؟
وجَّه أحمد مسعود رسالة إلى المعارضين لطالبان، مطالباً إياهم بالاستمرار في القتال، كما ناشد المجتمع الدولي عدم الاعتراف بحكومة طالبان، رغم أن تلك الحكومة لم يتم الإعلان عنها بعد، مما يثير تساؤلات حول مدى استقرار أفغانستان التي تعاني من حروب مستمرة منذ ما يقرب من نصف قرن الآن.
ويرى كثير من المحللين والمراقبين أن حسم طالبان لمعركة بنجشير تحديداً يعد مؤشراً لا يمكن تجاهله على مدى الشعبية التي تتمتع بها طالبان هذه المرة، وهذا ما تؤكده تصريحات قادة الحركة أنفسهم بشأن "هبَّة سكان بنجشير" ضد مقاتلي المعارضة في الوادي؛ مما ساعد مقاتلي طالبان على حسم الأمور بتلك السرعة، عكس ما كان متوقعاً.
والعامل الآخر الذي يراه المراقبون يصب في صالح طالبان هو الإرهاق الذي حل بالشعب الأفغاني من الحروب المستمرة ورغبة الغالبية العظمى في تجربة العيش بسلام ومحاولة إعادة إعمار البلاد، وهو ما يفسر أيضاً السهولة التي اكتسح بها مقاتلو الحركة جميع الولايات الأفغانية واستسلام غالبية القوات الأفغانية المدعومة من الغرب.
وكانت معركة بنجشير تنال تغطية مكثفة من وسائل الإعلام الأمريكية خصوصاً والغربية عموماً، ونقل تقرير لشبكة CNN تصريحات لفهيم دشتي المتحدث باسم جبهة المقاومة الأفغانية في الولاية مساء الأحد 5 سبتمبر/أيلول قال فيها إن "السماح بدخول مقاتلي طالبان إلى بنجشير كان تكتيكاً متعمداً من جانب جبهة المقاومة بغرض محاصرتهم والقضاء عليهم".
لكن عضو مجلس قيادة "حزب الجمعية الإسلامية" نور رحمن أخلاقي، أكد في منشور عبر حسابه بموقع "فيسبوك"، مقتل صديقه "دشتي" المتحدث باسم المجموعات المعارضة لطالبان على ولاية بنجشير خلال الاشتباكات مع حركة "طالبان"، وذلك مساء الأحد 5 سبتمبر/أيلول.
كان دشتي متحدثاً باسم "جبهة المقاومة الوطنية" التي تسيطر على ولاية بنجشير، وكان أحد المصادر الرئيسية لإعلان آخر تطورات القتال في المنطقة، مع مواصلة طالبان ضغطها على قوات المعارضة، وأصدر سلسلة بيانات قوية على تويتر متعهداً بمواصلة المقاومة.
وكان مسعود أيضاً في نفس التوقيت تقريباً قد قال في منشور على فيسبوك إن "جبهة المقاومة الوطنية الأفغانية توافق من حيث المبدأ على حل المشكلات الحالية وإنهاء القتال على الفور ومواصلة التفاوض"، وأضاف: "ومن أجل التوصل إلى سلام دائم، فإن الجبهة مستعدة لوقف القتال بشرط وقف طالبان أيضاً هجماتها وتحركاتها العسكرية في بنجشير وأنداراب"، في إشارة لمنطقة مجاورة تقع في إقليم بغلان.
هل الكرة الآن في ملعب طالبان فقط؟
لكن التطورات السريعة التي كشفت عنها أحداث الإثنين 6 سبتمبر/أيلول تؤكد أن طالبان استولت بالفعل على بنجشير، وبالتالي أفغانستان بأكملها للمرة الأولى، وهو ما لم يحدث طوال حكم طالبان السابق، لكن من السابق لأوانه اعتبار ذلك مؤشراً نهائياً على فرض الاستقرار في أفغانستان وإسكات صوت الرصاص أخيراً.
وربما يكون شكل وتشكيل الحكومة التي ستعلنها طالبان في أي وقت الآن سيمثل المؤشر الأبرز على السؤال الأهم: إلى أين تتجه الأمور في أفغانستان؟ وفي هذا السياق، نفى المتحدث باسم طالبان وجود أي خلافات داخل الحركة حول تشكيل حكومة جديدة، قائلاً إنها ستعلن قريباً لكنه لم يحدد موعداً.
موقف القوى الغربية المعلن هو أنها مستعدة للتعامل مع طالبان وإرسال مساعدات إنسانية إلى النازحين بسبب الجفاف والحرب، لكن الاعتراف الرسمي بالحكومة والمساعدات الاقتصادية الأوسع نطاقاً سيعتمد على ما سيتم تنفيذه من إجراءات- وليس مجرد الوعود- لحماية حقوق الإنسان.
ويمثل الموقف الإنساني تحديداً عامل قلق ضخم، في ظل الاقتصاد المحطم ووباء كورونا، لذلك قالت الأمم المتحدة إنها ستعقد مؤتمراً دولياً للمساعدات في 13 سبتمبر/أيلول للمساعدة في تجنب ما وصفه الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بكارثة إنسانية تلوح في الأفق.
ويبدو ملف حقوق الإنسان في أفغانستان- من جانب القوى الغربية- مركزاً بشكل أساسي على حقوق المرأة، وكان ذلك حاضراً في المؤتمر الصحفي للحركة اليوم؛ إذ قال مجاهد إن النساء عُدن إلى العمل في قطاعي الصحة والتعليم وإنه "سيتم توفير مجالات أخرى، واحداً تلو الآخر، بمجرد وضع نظام لهن".
كانت طالبان قد فرضت- خلال حكمها الأول قبل عقدين – عقوبات قاسية ومنعت النساء والفتيات الأكبر سناً من الدراسة والعمل، لكنها سعت إلى إظهار وجه أكثر اعتدالاً هذه المرة. وتقول الحركة الآن إنه سيتم السماح للنساء بالعمل في قطاعات مهمة من المجتمع، بما يتماشى مع الشريعة الإسلامية، وستتم حماية حقوقهن.
وبالتالي فإن ما يحدث في أفغانستان في الفترة المقبلة رهن إلى حد كبير بمدى شمول الحكومة التي ستؤلفها طالبان للمكونات العرقية المتعددة في البلاد من ناحية، ومدى الحفاظ على تماسك الجبهة الداخلية وتحسين الظروف الاقتصادية، في مقابل حجم الضغوط التي تمارسها القوى الغربية والإقليمية على الحركة، إذ يحذر كثير من الخبراء من أن فرض ضغوط شديدة على طالبان لاتباع شكل محدد من أشكال الحكم قد يكون له أثر عكسي في مدى استجابة الحركة.