"أينما نظرتُ أرى عماد.. لا أستطيع التوقف عن انتظار عودته، على الرغم من أنَّني ودعته وأعلم أنَّه ميت.. إنَّنا نعيش في ألم سيستمر إلى الأبد"، بهذه الكلمات عبرت أم فلسطينية عن مأساة قرية بيتا بالضفة الغربية.
فلقد اختفى علاء دويكات (38 عاماً) الذي لديه ابن يبلغ من العمر ثلاثة أشهر الآن من حياة أسرته إلى الأبد، بعدما قتلته القوات الإسرائيلية في بلدة بيتا بالضفة الغربية المحتلة، حسبما ورد في تقرير لموقع Middle East Eye البريطاني.
ففي السادس من أغسطس/آب 2021، كانت أسرة عماد تنتظر عودته إلى البيت لتناول الغداء، وبدأت هواتفهم ترن. قيل لهم إنَّ عماد قُتِل برصاص جنود إسرائيليين كانوا يتصدون لسكان بيتا المحتجين بمنطقة جبل صبيح القريبة جنوبي نابلس.
وهو واحد من بين سبعة فلسطينيين قُتِلوا منذ اندلعت حملة احتجاج ضد مستوطنة إسرائيلية غير شرعية في ضواحي البلدة في مايو/أيار الماضي، بينهم مراهقان. كان ثلاثة من هؤلاء آباء، تركوا وراءهم 15 ابناً.
واحتلت إسرائيل الضفة الغربية والقدس الشرقية في 1967. وتعد جميع المستوطنات الإسرائيلية فيها غير شرعية بموجب القانون الدولي، ولكن المستوطنة المجاورة لقرية بيتا تعد غير شرعية، وفقاً حتى لقوانين الاحتلال الإسرائيلي.
ويعيش حالياً أكثر من 470 ألف إسرائيلي في مستوطنات في الضفة الغربية.
أهالي قرية بيتا يتظاهرون سلمياً فيجابَهون بالرصاص
يتظاهر فلسطينيو بيتا ضد التوسع الإسرائيلي بوسائل سلمية. لكنَّهم يُقابَلون بالرصاص الحي وقنابل الغاز، ما أسفر عن سقوط عشرات الجرحي، الكثير منهم أُصيب بالرصاص في الساق.
أدَّت عمليات الاعتقال الجماعية إلى احتجاز 30 فلسطينياً من البلدة في السجون الإسرائيلية.
لقد أصبحت هذه البلدة التي كانت وادعة سابقاً في الضفة الغربية مركزاً للمقاومة الفلسطينية.
تقول آلاء، أكبر بنات عماد، إنَّها تحلم بأن تصبح عاملة إسعاف حتى يمكنها منع الوفيات مثل تلك التي شهدتها أسرتها.
وتقول لموقع Middle East Eye البريطاني: "أفكر كل يوم في أن أسأل أمي متى سيعود والدي من العمل؟ ثم أتذكر أنَّه مات وأنَّه لن يعود أبداً.. هذا صعب جداً.. أفتقده كل يوم".
ومثل معظم الشبان في بيتا، كان عماد يذهب إلى جبل صبيح كل يوم جمعة للمشاركة في الأنشطة الجماهيرية السلمية للدفاع عن أرضهم ضد استيلاء المستوطنين عليها.
ومنذ مقتله، لم يعد بإمكان والدته، فتحية (77 عاماً)، النوم ليلاً. تنجح أحياناً في الحصول على بضع ساعاتٍ من النوم، قبل أن تستيقظ مذعورة وتجلس عند الباب الأمامي بانتظار عودة عماد المستحيلة.
قتلوه لأنه جلب المياه للبلدة
يجلس سعيد دويكات أمام منزله المُطِلِّ على بيتا وهو يشرب القهوة.
تبدو البلدة هادئة، لكنَّ سكانها يتعرَّضون للعنف يومياً. ولدى كل بيت صلة بشخص قُتِلَ في الاحتجاجات. يُمرِّض الكثير من السكان المصابين أيضاً، وتعرَّضت الكثير من البيوت لمداهمات واعتقالات متكررة.
يتناول سعيد قهوته عادةً مع أخيه شادي، لكنَّ شادي أُصيب بالرصاص في 27 يوليو/تموز، ليس أثناء مشاركته بالاحتجاجات، بل أثناء تطوعه لمساعدة بلدية بيتا في فتح مضخات المياه عند مدخل البلدة. يزعم الإسرائيليون أنَّه كان مسلحاً بقضيب معدني، وكانت تلك في الواقع أدوات السباكة الخاصة به.
وقد ترك وراءه خمسة أطفال.
يقول سعيد والدموع تسيل على خدّيه: "يسألنا أطفاله أين والدنا، ونقول لهم إنَّه في الجنة. ويردون: (لا نريد الجنة، نريد أباً). لم يعد بإمكاني الرد على أسئلتهم بعد الآن، الأمر مؤلم جداً".
وكأن الموت ليس صعباً بما يكفي، فقد احتجز الإسرائيليون جثمانه لأسبوعين بعد قتله، ما أضاف ألماً وغضباً إلى الحزن الذي كانوا يحسونه بالفعل.
مستوطنة تظهر فجأة وتستولي على جبل صبيح
بدأ التاريخ القريب من العنف والمقاومة في بيتا في 2 مايو/أيار الماضي، حين رصد السكان بعض الأضواء اللامعة عند قمة جبل صبيح.
كان المستوطنون، برفقة الجيش الإسرائيلي، يبنون بؤرة استيطانية غير شرعية دون حتى إخطار مسبق بمصادرة الأرض.
ليست هذه هي المرة الأولى التي تحاول فيها إسرائيل السيطرة على التلة. ففي عام 1978، بنى الجيش الإسرائيلي نقطة عسكرية هناك، ما أجبر مُلَّاك الأراضي الفلسطينيين على اللجوء إلى المحاكم الإسرائيلية لاستعادة أراضيهم، وهو ما نجحوا في تحقيقه عام 1994.
أُزِيلَت النقطة العسكرية، قبل أن يُعاد بناؤها خلال الانتفاضة الثانية 2000-2005، ثم أُزيِلَت مجدداً.
يقول حذيفة بدير، الذي يمك أرضاً على التلة، إنَّ السكان بدأوا يلاحظون تقدمات المستوطنين في المنطقة قبل أربع سنوات، وكان يجذبهم موقعها الاستراتيجي.
يضيف حذيفة: "وقعت هبّة شعبية بمشاركة كل السكان، وتمكنّا من إخراج المستوطنين من المنطقة".
لكنَّ المستوطنين عادوا هذا العام إلى بيتا. وأقاموا خلال ستة أيام فقط 40 منزلاً متنقلاً ومهَّدوا شارعاً يقود إلى التلة.
الجيش الإسرائيلي يزيل المستوطنة لتحقيق هدف خفيّ
وفي 9 يونيو/حزيران، بدأ الجيش الإسرائيلي إزالة البؤرة، قائلاً إنَّها بُنيت خلال وضع أمني متوتر ودون تقنين مسبق، لكن بعد فترة قصيرة، صادر الجيش الإسرائيلي البؤرة لنفسه، وأعلن جبل صبيح منطقة عسكرية ومنع الفلسطينيين من العودة إلى أراضيهم.
اتضح أنَّ المستوطنين أبرموا اتفاقاً مع الحكومة الإسرائيلية، بحيث يغادرون منازلهم المتنقلة على التلة ويرعاها الجيش، إلى أن يتم إعلان الأرض ملكية تابعة للدولة الإسرائيلية، وحينها يمكنهم العودة.
يمتلك حذيفة وثائق ملكية خمسة دونمات من الأرض على جبل صبيح. وتمكنت خمس أسر أخرى من بلدة بيتا من تقديم وثائق قانونية تثبت ملكيتها للأرض، إلى جانب أسر من قريتي قبلان ويتما المجاورتين.
وعلى الرغم من ذلك، رفضت المحكمة العليا الإسرائيلية، في 15 أغسطس/آب، النظر في طعن تقدَّم به مُلَّاك الأرض ضد البؤرة، وهو الحكم الذي أدانه مركز القدس للمساعدة القانونية وحقوق الإنسان، الذي قدَّم الطعن نيابةً عن الفلسطينيين.
أجَّلت المحكمة العليا أي حكم نهائي بشأن مدى قانونية البؤرة واتفاق المستوطنين مع الحكومة إلى حين مسح المنطقة واتخاذ قرار نهائي بشأن إعلانها "أرضاً تابعة للدولة".
المقاومة بطرق جديدة تشمل مكبرات الصوت إلى الليزر
طوَّر شبان بيتا على مدار الأشهر القليلة الماضية وسائل إبداعية لمقاومة المستوطنين ورصاص الجيش الإسرائيلي، في حملة يسمونها "حالة الإرباك".
وهي عبارة عن مزيج من وسائل المقاومة التقليدية، مثل إلقاء الحجارة وحرق الإطارات، وأساليب جديدة مثل استخدام الليزر ومكبرات الصوت وأجهزة الإنذار وأصوات الانفجارات الخادعة.
ونظَّم المحتجون والمشاركون الآخرون في حماية الأرض أنفسهم من خلال تشكيل مجموعات تعمل في مناوبات ليلية ونهارية، ولكل منها مهمة خاصة. فالمنطقة تشهد تواجداً للسكان باستمرار، ويقوم سكان بيتا بجولات منتظمة إلى هناك.
ويقول الشباب إن احتجاجاتهم شعبية مستقلة لا تتلقى التعليمات من الطبقة السياسية الفلسطينية المنقسمة بشكل كبير.
قال أحد المتظاهرين، يبلغ من العمر 25 عاماً، للموقع البريطاني: "في يوم الجمعة، نخرج نحن الشبان بالمقاليع، في حين يخرج كبار السن حاملين الأعلام الفلسطينية، ونستخدم أيضاً حرق الإطارات والألعاب النارية والبالونات".
وأضاف: "ونراقب الصحف الإسرائيلية على وسائل التواصل الاجتماعي ونرى ردات فعل المستوطنين. ووجدنا أنَّنا نجحنا في الضغط عليهم وإجبارهم على مغادرة المستوطنة، وشعروا أيضاً أنَّهم ليسوا بأمان في ظل الرفض الجماهيري المستمر لوجودهم".
تشتهر بيتا بمقاومتها، وقد اضطرت لمواجهة الجيش الإسرائيلي عدة مرات على مدى السنوات بسبب موقعها الجغرافي الذي يطل على الطريق بين نابلس وأريحا.
يقول أحد الناشطين هناك: "دائماً ما تقاتل بيتا دعماً لغزة والأسرى الفلسطينيين، وتقف ضد أي تحرك من جانب إسرائيل في الضفة الغربية. نضحي بالشهداء والمصابين والأسرى، وهذا لا يخيفنا ولا يمنعنا من المواصلة".
وأضاف: "بيتا لا تعرف أي هدوء، إنَّها دوماً مشتعلة، والجيش الإسرائيلي يُحجِم عن أي مداهمات، لأنَّه يعرف أنَّه سيدفع ثمناً باهظاً لقاء كل مداهمة عسكرية".
وبعد أسابيع من الاشتباكات والتوتر، جرى في الثاني من يوليو/تموز التوصل إلى اتفاق مع مستوطني أفيتار الذين أخلوا المكان، لكنهم تركوا فيه منازلهم المتنقلة، فيما تراجعت وزارة الدفاع الإسرائيلية عن حقوق ملكية الأراضي.
وعلى الرغم من مغادرة المستوطنين لجبل صبيح، تستمر المواجهات، ولو بوتيرة أبطأ.
إذ تواجه القوات الإسرائيلية، التي بقيت متمركزة في المستوطنة، احتجاجات متواصلة من سكان بيتا البالغ عددهم نحو 12,500 نسمة، حسبما ورد في تقرير لموقع "إندبندنت عربية".
وأصيب جراء الاحتجاجات أكثر من 700 فلسطيني، وقتل سبعة على الأقل، ويتعهَّد السكان بأنَّهم لن يتراجعوا حتى استعادة التلة كاملة.