قبل أسابيع قليلة قالت منظمة الصحة العالمية إنه لا توجد حاجة ماسَّة لجرعات تنشيطية من لقاحات كورونا، ثم عادت لتقول إن تلك الجرعات التنشيطية وسيلة أساسية للوقاية و"ليست رفاهية".
والقصة هنا تتعلق بالأساس بتوجه عدد من الدول التي أوشكت على توفير جرعتي اللقاح لجميع مواطنيها نحو إعطاء جرعة ثالثة أو جرعات تنشيطية لمزيد من الحماية ضد فيروس كورونا، وبخاصة متحور دلتا الهندي الأكثر خطورة، بينما غالبية دول العالم لا تزال غير قادرة على توفير اللقاح لأغلب مواطنيها.
وكان الجدل بشأن الجرعات التنشيطية من لقاح كورونا قد اشتعل بحدة بعدما أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن، الأربعاء 18 أغسطس/آب، أن الأمريكيين الذين تلقوا جرعتين من لقاحات كورونا سيكونون مؤهلين للحصول على جرعة ثالثة للتغلب على ضعف المناعة، ومتحور دلتا شديد العدوى وانتشار الإحجام عن تناول اللقاح.
انتقاد بايدن بسبب الجرعات التنشيطية
تصريح الرئيس الأمريكي عرَّضه لهجوم عالمي عنيف، إذ دعت منظمة الصحة العالمية (WHO) إلى وقف الجرعات المعززة حتى نهاية سبتمبر/أيلول المقبل على الأقل، على اعتبار أن الأولوية للأشخاص الذين لم يتلقوا أي جرعات بعد.
وكان توم هارت، الرئيس التنفيذي بالإنابة لحملة One، قد قال لوكالة Associated Press الشهر الماضي: "فكرة أن الشخص السليم أو من سبق وتلقى اللقاح يمكنه الحصول على جرعة معززة قبل أن تحصل ممرضة أو سيدة مُسنة في جنوب إفريقيا على جرعة واحدة مخزية".
لكن بايدن لم يكن المسؤول الأمريكي الوحيد الذي قال إنه سيتم توفير جرعة منشطة لمن تلقوا اللقاح بالفعل، فقد كانت تلك توصية الدكتور أنطوني فاوتشي كبير خبراء الأوبئة والأمراض المعدية في البلاد.
وأعاد فاوتشي التأكيد على هذا التوجه الأحد 29 أغسطس/آب، بقوله إن الإدارة الأمريكية متمسكة بتطبيق توصية الجرعة التنشيطية لمن تلقوا بالفعل جرعتين من اللقاح قبل 8 أشهر، مضيفاً أن شرط الأشهر الثمانية ليس ثابتاً وأنه قد يتغير إذا ما أظهرت البيانات الحاجة لذلك، بحسب تقرير لمجلة Politico.
وينبع الجدل بشأن الجرعات التنشيطية بالأساس من الفجوة الهائلة بين دول العالم الغنية من جهة ودول العالم الثالث من جهة أخرى فيما يتعلق بالقدرة على توفير اللقاحات للمواطنين. فبينما اقتربت دول مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وإسرائيل وكندا والإمارات ودول أخرى من توفير اللقاحات لجميع مواطنيها، لا تزال أغلب دول العالم -خصوصاً في إفريقيا وأمريكا الجنوبية- بعيدة تماماً عن تلك النقطة.
وعلى الرغم من عالمية الوباء والإجماع على أن محاربته والقضاء عليه لا يمكن أن تنجح بصورة فردية، ولذلك تم تأسيس مبادرة كوفاكس الأممية لتوفير اللقاح لدول العالم الأقل دخلاً، فإن الممارسة الفعلية على الأرض أظهرت سعي الدول الغنية لتوفير اللقاحات لمواطنيها أولاً.
لماذا تبدو الجرعات التنشيطية أمراً حتمياً؟
لكن بعيداً عن الجانب السياسي في أمر اللقاحات -على الرغم من أن تسييس كل ما يتعلق بوباء كورونا منذ ظهوره أواخر عام 2019 في الصين يبدو الأمر الوحيد الذي لا يخضع للجدل حالياً- يبدو أن الحاجة لجرعات تنشيطية لتوفير حماية أقوى ضد فيروس كورونا، وبخاصة متحور دلتا، بدأت تصبح اتجاهاً عالمياً.
وهذا بالتحديد ما قالته منظمة الصحة العالمية، الاثنين 30 أغسطس/آب، على لسان هانز كلوج المدير الإقليمي للمنظمة في أوروبا، إذ قال في إفادة صحفية: "جرعة ثالثة تنشيطية من اللقاحات ليست رفاهية وليست مأخوذة من شخص آخر لا يزال ينتظر جرعته الأولى. إنها بالأساس وسيلة للحفاظ على حماية الأكثر عرضة للخطر من المرض".
وأضاف كلوج أنه يعتبر زيادة معدلات العدوى بكوفيد-19 في أنحاء أوروبا على مدى الأسبوعين المنصرمين إضافة إلى انخفاض معدلات التطعيم في بعض الدول أمراً "مقلقاً للغاية".
ما قاله كلوج يعارض ما كانت المنظمة قد قالته مطلع أغسطس/آب الجاري من أن البيانات لا تشير إلى حاجة ماسة لجرعات تنشيطية إضافية وإن منح المزيد من الجرعات لمن تلقوا لقاحات بالفعل سيزيد من عدم المساواة الكبيرة أصلاً بين الدول الغنية والفقيرة فيما يتعلق بالحماية من المرض.
لكن كلوج قال في هذا الشأن إنه "علينا أن نتوخى الحذر بعض الشيء فيما يتعلق بالجرعة التنشيطية؛ لأنه لا توجد أدلة كافية حتى الآن. لكن المزيد من الدراسات تظهر أن جرعة ثالثة تحافظ على سلامة الأشخاص المعرضين للخطر وهذا ما يحدث في الكثير من البلدان في منطقتنا".
ماذا حدث في نيوزيلندا؟
قالت وزارة الصحة في نيوزيلندا، الاثنين 30 أغسطس/آب، إن امرأة توفيت عقب تلقيها لقاح فايزر للوقاية من فيروس كورونا، وأضافت الوزارة في بيان أن لجنة مستقلة لمراقبة سلامة لقاحات كوفيد-19 اعتبرت أن وفاة المرأة نجمت عن التهاب عضلة القلب، والذي يُعرف بأنه أحد الآثار الجانبية النادرة للقاح فايزر. لكن البيان أضاف أيضاً أن اللجنة أشارت إلى وجود مشكلات طبية أخرى، تحدث في الوقت نفسه، وربما تكون أثرت على النتيجة بعد التطعيم.
وكانت التقارير بشأن كون التهاب عضلة القلب هو أحد الأعراض الجانبية النادرة التي قد تنتج عن تلقي جرعتي لقاح فايزر قد ظهرت لأول مرة في مايو/أيار الماضي، عندما أصدرت السلطات الصحية في إسرائيل تقارير تربط بين ظهور "التهاب في عضلة القلب" وبين عدد من مواطنيها تلقوا جرعة من لقاح فايزر.
وقالت منسقة الاستجابة للوباء في إسرائيل وقتها إن دراسة مبدئية أظهرت وجود "عشرات الحالات" من التهاب عضلة القلب، بعد حصول الشخص على لقاح فايزر، وبصفة خاصة بعد الجرعة الثانية، بحسب تقرير لرويترز.
وفي ذلك الوقت أصدرت فايزر بياناً نفت فيه وجود دليل علمي على الصلة بين حدوث التهابات في عضلة القلب وتلقي اللقاح، مؤكدة أن مثل تلك الحالات إن وُجدت فعددها ضئيل للغاية، ولا يوجد دليل قاطع على ارتباطها بتلقي اللقاح نفسه.
لكن مجموعة استشارية تابعة للمراكز الأمريكية للسيطرة على الأمراض المعدية أصدرت دراسة أشارت إلى أن بعض من تلقوا جرعات لقاح فايزر، وبصفة خاصة من المراهقين والشباب، قد ظهرت لديهم أعراض التهاب عضلة القلب، وطالبت المجموعة الاستشارية بإجراء مزيد من الدراسات والأبحاث لحسم الصلة بين لقاح فايزر والتهاب عضلة القلب.
لكن ربما تكون الدراسات المتعلقة بانخفاض فاعلية لقاح فايزر بمرور الوقت، وخصوصاً في الوقاية من متحور دلتا، هي العامل الأكثر ارتباطاً بتغير موقف منظمة الصحة العالمية من الجرعات التنشيطية، فقد ذكر تقرير اللجنة العلمية في نيوزيلندا أن فاعلية لقاح فايزر تراجعت لدى كثير ممن تلقوه إلى 73% فقط بعد أسابيع من تلقي الجرعة الثانية.
وكانت تقارير إسرائيلية قد أشارت أيضاً إلى أن فاعلية لقاح فايزر انخفضت بشكل لافت تزامناً مع انتشار سلالة "دلتا" في إسرائيل. وسلالة دلتا هي الأخطر والأكثر فتكاً من الفيروس، وهي المسؤولة عن التوحش الذي يفتك بالهند منذ أسابيع، ويمثل تفشيها السريع تحدياً خطيراً أمام جميع الدول حالياً.
المناعة الطبيعية أقوى من مناعة اللقاحات
هذه التقارير التي تشير إلى انخفاض نسبة الوقاية التي توفرها اللقاحات بعد أشهر قليلة أصابت فكرة تحقيق المناعة الجماعية -أو مناعة القطيع- اعتماداً على تلقيح غالبية المواطنين في مقتل، بحسب المتخصصين.
وقال عالم الأوبئة ميرسيا سوفونيا لوكالة الأنباء الفرنسية: "إذا كان السؤال هو: هل سيسمح التطعيم وحده بتراجع الوباء والسيطرة عليه؟ فالجواب هو لا"، مضيفاً أنه في الواقع "هناك عاملان يلعبان دوراً: مدى شدة عدوى الفيروس وفاعلية اللقاح في مواجهة العدوى. وهذا لا يكفي".
لكن دراسة حديثة أثبتت أن الأشخاص الذين تعافوا من كورونا خلال الموجات السابقة للوباء لديهم مخاطر أقل للإصابة بمتغير "دلتا" من أولئك الذين حصلوا على جرعتين من لقاح "فايزر"، بحسب تقرير لوكالة سبوتنيك الروسية.
ويبين أكبر تحليل في العالم، يقارن المناعة الطبيعية -المكتسبة من عدوى سابقة- بالحماية التي يوفرها أحد أقوى اللقاحات المستخدمة حالياً "فايزر" أن العدوى كانت أقل شيوعاً، حسبما نقلت وكالة "بلومبيرغ". ولم تراجع الدراسة من قِبل الأقران بعد.
وتتناقض الورقة التي أجراها باحثون في إسرائيل مع الدراسات السابقة، التي أظهرت أن التطعيمات قدمت حماية أفضل من المناعة الناجمة عن العدوى السابقة، على الرغم من أن تلك الدراسات لم تشمل متغير "دلتا".
وهذه النتائج تمثل بالطبع أخباراً جيدة للمتعافين من كورونا، كما تظهر في الوقت نفسه خطورة الاعتماد حصرياً على أحد التطعيمات لتجاوز الوباء. وقال الباحثون: "أظهر هذا التحليل أن المناعة الطبيعية توفر حماية أقوى تدوم طويلاً ضد العدوى والأمراض المصحوبة بأعراض والاستشفاء بسبب متغير دلتا".
أظهر التحليل أيضاً أن الحماية من الإصابة السابقة بالعدوى تتضاءل بمرور الوقت، كما يبدو أن إعطاء حقنة واحدة من اللقاح لأولئك الذين أصيبوا سابقاً يعزز حمايتهم.