ماذا كان سيحدث لو أصر الرئيس الأمريكي جو بايدن، على بقاء القوات الأمريكية بأفغانستان، مخالفاً الاتفاق الذي وقعه سلفه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
وأصرَّ الرئيس الأمريكي جو بايدن، على الالتزام بقرار الانسحاب، لكنه حرص في الوقت نفسه على أن يكرر توجيه اللوم لشخص واحد فيما آلت إليه الأوضاع: سلفه دونالد ترامب، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The New York Times الأمريكية.
في المقابل يتكهن المعارضون للانسحاب الأمريكي سيناريوهات بديلة لقرار بايدن، فما هي هذه السيناريوهات، وهل كان يمكن أن تكون أفضل من المشهد الحالي، أم قد تؤدي إلى نتائج كارثية.
بايدن: "إما انسحاب تام أو البقاء بشكل كامل ولسنوات"
ولكن نقاد بايدن يقولون: "صحيحٌ أن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، هو من أبرم اتفاق الانسحاب مع طالبان، العام الماضي، لكن بايدن هو من أصر على أنه لا خيار سوى الالتزام بالاتفاق الذي ورثه أو إرسال عشرات الآلاف من القوات الأمريكية إلى أفغانستان للمخاطرة بحياتهم في حرب أبدية".
بعبارة أخرى، رأى بايدن أن بقاء القوات الأمريكية بأفغانستان إما أن يكون حضوراً عسكرياً كاملاً وإما انسحاباً عسكرياً كاملاً، حسب تقرير The New York Times.
لكن هذه الصيغة الاختزالية للوضع أثارت جدلاً حاداً مع وقوع فوضى الانسحاب في كابول، والتي تصاعدت على أثرها التساؤلات حول ما إذا كان ذلك المآل محتوماً أم أن تلك الفوضى كانت نتيجة للفشل في التفكير بخيارات أخرى ربما كانت انتهت معها الأمور إلى نتيجة مختلفة، حسب The New York Times.
ترى الصحيفة الأمريكية أنه في سياق اختزاله الخيارات المعروضة عليه على أنها إما انسحاب كامل وإما تصعيد لا نهاية له، أخبر بايدن الجمهور بأنه لم يكن متاحاً له في الواقع أي خيار على الإطلاق باستثناء الخيار الذي اتخذه، لأنه كان يعلم أن الأمريكيين قد خاب أملهم منذ زمن طويل، في حرب أفغانستان وأنهم يفضّلون الخروج من تلك الحرب بأسرع وقت.
وأشار بايدن إلى حقيقة أن ترامب كان الشخصَ الذي ترك له اتفاقية الانسحاب، وأن كل ما استطاعه هو محاولة تقاسم المسؤولية.
مع سيطرة طالبان على العاصمة كابول في مطلع هذا الشهر، قال بايدن: "لم يُعرض علينا إلا حقيقة جلية، مفادها أن لا خيار إلا الالتزام بمتابعة اتفاق سحب القوات وإما المخاطرة بتصعيد الصراع وإعادة آلاف القوات الأمريكية إلى القتال في أفغانستان والانجراف إلى عقد ثالث من الحرب".
المعارضون كانوا يقترحون سيناريوهات بديلة
في المقابل، يرى معارضون أن تقديم الأمر على هذا النوع ينطوي على مراوغة وتملُّص أو أنه نتيجة للعجز عن ابتكار حلول أخرى، ويجادلون بأن ثمة بدائل أخرى كانت قابلة للتطبيق، وأن تلك البدائل، حتى وإن لم تبعث الرضا التام أو تؤدِّ إلى انتصار صريح، فإنها كانت قادرة على تجنُّب ما تُصوره وسائل الإعلام الأمريكية على أنه كارثة لا تنقطع أخبارها في كابول.
قالت ميغان أوسوليفان، وهي نائبة مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس الأسبق جورج دبليو بوش وأحد المشرفين على المراحل الأولى من الحرب الأفغانية: "تعرض الإدارة الخيارات ناقصةً في أحسن الأحوال. ولا أحد ممن أعرفهم كان يدعو إلى عودة عشرات الآلاف من الأمريكيين إلى (قتال مفتوح) مع طالبان".
بقاء قوة أمريكية صغيرة مع استخدامٍ مكثف للطائرات والمسيَّرات
كان أحد الخيارات المتاحة بدلاً من ذلك، حسبما أشار بعض الخبراء، ومنهم القيادة العسكرية الحالية لوزارة الدفاع الأمريكية لويد جيه أوستن ورئيس هيئة الأركان المشتركة مارك إيه ميلي، هو الإبقاء على قوة عسكرية محدودة نسبياً لا تقل عن 3000 إلى 4500 عسكري، يُمكن الاستعانة بهم، إلى جانب الاستخدام المكثف للطائرات بلا طيار والدعم الجوي القريب، لتمكين قوات الأمن الأفغانية من الاستمرار في تصدِّيها لحركة طالبان دون تعريض القوات الأمريكية لخطر كبير.
لكن البيت الأبيض رفض الحلول الوسط من هذا النوع، معتبراً أنها تعني التورط في مزيد من الحرب. وعلى هذا النحو، جاء الجزم من السكرتيرة الصحفية للبيت الأبيض، جين ساكي، يوم الجمعة 27 أغسطس/آب، بأن البديل الحقيقي الوحيد عن الانسحاب هو إرسال عشرات الآلاف من الأمريكيين و"المخاطرة بحياتهم".
وفي معرض الدفاع عن بايدن في مواجهة انتقادات الجمهوريين، قال السيناتور الديمقراطي كريستوفر مورفي إن أولئك الذين يجادلون الآن بإبقاء القوات في أفغانستان هم أنفسهم الذين فشلوا في الانتصار بتلك الحرب طوال عقدين، وأخذوا يدفعون إلى إبقاء القوات مع أن "الولايات المتحدة تخسر هناك منذ نحو ست إلى ثماني سنوات".
كان بايدن الرئيسَ الأمريكيَّ الثالثَ على التوالي الذي يعلن العزم على إنهاء الحرب في أفغانستان، لاسيما بعد أن أودت بحياة أكثر من 2400 جندي أمريكي ونحو 240 ألف أفغاني، وأُنفق عليها ما يصل إلى 2 تريليون دولار، علاوة على أن الصراع تطور في السنوات الأخيرة إلى وضع قائم على عدم الاستقرار ونفوذ أمريكي أضعف بكثير.
وبعد عمليات الانسحاب التي بدأت في عهد أوباما، لم يتبقَّ سوى جزء بسيط من القوات هناك، إلا أن استراتيجيين عسكريين قالوا إن حضورهم له تأثير هائل في إبقاء القوات الأمن الأفغانية قادرةً على مجاراة منافسيها، دون توريط للقوات الأمريكية في القتال بالقدر نفسه.
اتفاق ترامب أطلق سراح سجناء طالبان
جاء الاتفاق الذي وقَّعه ترامب في فبراير/شباط 2020 مع طالبان ليقضي بسحب جميع القوات الأمريكية من أفغانستان بحلول 1 مايو/أيار 2021، ورفع العقوبات وإجبار الحكومة الأفغانية على الإفراج عن 5 آلاف سجين من سجناء طالبان.
ومن جانبها، التزمت طالبان عدمَ مهاجمة القوات الأمريكية في أثناء الانسحاب وعدم السماح لأي جماعات إرهابية باستخدام أفغانستان قاعدةً لمهاجمة الولايات المتحدة ومصالحها.
بعد الاتفاق، أنقص ترامب القوات الأمريكية في أفغانستان من 13000 إلى 4500 عسكري، وحرصاً منه على أن يظهر نفسه في صورة الرئيس الذي أنهى الحرب، وقع مذكرة موجهة إلى وزارة الدفاع الأمريكية يأمر فيها بسحب جميع القوات المتبقية بحلول 15 يناير/كانون الثاني قبل مغادرته لمنصبه، لكنه تراجع عن ذلك بعد توصيات من مستشاريه. وبدلاً من ذلك، أمر بإنقاص القوات إلى نحو 2500 جندي في أيامه الأخيرة، وإن ظل إجمالي القوات نحو 3500 جندي حتى رحيله.
وترك لبايدن قوات قليلة للتصدي لـ"طالبان" إذا استهدفت الأمريكيين
بوصول بايدن إلى منصب الرئاسة، كانت وراثته لهذه العدد المحدود من القوات في أفغانستان يعني أن القادة العسكريين لم يتركوا ما يكفي للتصدي لحركة طالبان إذا قررت العودة إلى استهداف القوات الأمريكية، حسب تقرير The New York Times.
واعتبر بايدن أنه سيكون قراراً محتوماً من طالبان بمهاجمة القوات الأمريكية إذا تخلَّى عن اتفاق ترامب معهم وأصر على بقاء القوات الأمريكية بأفغانستان، كما أنه كان يعني المخاطرة بإعادة آلاف الجنود الأمريكيين إلى هناك.
ومع أن بايدن يصرح الآن بأنه لم يكن أمامه خيارات أخرى في ظل الاتفاقية التي وقعها ترامب، فإن واقع الأمر أن بايدن كان قد عزم أمره بالفعل على الانسحاب من أفغانستان أياً كانت الظروف، وسبق أن أقرَّ في مقابلة حديثة مع قناة ABC News بأنه "كان سيحاول التوصل إلى طريقة لسحبِ تلك القوات من هناك، حتى لو لم يكن سلفه قد تفاوض على اتفاق مع طالبان".
"التوهم السحري".. بقاء قوات محدودة لمكافحة الإرهاب أو تأجيل الانسحاب
ناقش فريق بايدن اللجوء إلى خيارات أخرى، منها الإبقاء على عدد محدود من القوات للاضطلاع بعمليات مكافحة الإرهاب أو لدعم القوات الأفغانية، لكنهم خلصوا في النهاية إلى أن هذا التفكير ينطوي على نوعٍ من "التوهم بأثر سحري" لوجودهم هناك، وأن الأمر يقتضي إرسال عدد أكبر من القوات.
وطرح بعضهم إعادة التفاوض بشأن اتفاق ترامب لانتزاع مزيد من التنازلات، لكن طالبان شدَّدت على أنها لن تعود إلى طاولة المفاوضات وأعلنت أن اتفاق ترامب معها ملزم للجميع، معربة عن رفضها لاستمرار بقاء القوات الأمريكية بأفغانستان بأي شكل.
كما أوصت "مجموعة العمل الخاصة بأفغانستان" (ASG)، وهي لجنة تضم أعضاء من الحزبين الديمقراطي والجمهوري في الكونغرس بقيادة رئيس هيئة الأركان المشتركة المتقاعد جوزيف دانفورد، في فبراير/شباط الماضي بتمديد الموعد النهائي للانسحاب الذي كان مقرراً في الأول من مايو/أيار إلى موعد تتوفر فيه ظروف أفضل للانسحاب.
لكنَّ خبراء أمنيين حذَّروا بايدن من أنه كلما استغرق الانسحاب وقتاً أطول بعد الإعلان عن الموعد المقرر، زاد الأمر خطورةً، على حد قول مساعدين، لذلك اكتفى بايدن بالتمديد حتى 31 أغسطس/آب.
روسيا والصين تريدان استمرار تورط أمريكا في أفغانستان
وقال مساعدون في الإدارة الأمريكية إن سلسلة من التقييمات الاستخباراتية التي طلبها بايدن حول الدول المجاورة لأفغانستان وموقفها من الانسحاب كان لها تأثير بارز على قراره، إذ خلص عديد منها إلى أن روسيا والصين تريدان أن تظل الولايات المتحدة غارقة في المستنقع الأفغاني.
وتحولت عملية الانسحاب إلى معركة سياسية حزبية أمريكية حول من خسر أفغانستان. ومن شبه المؤكد أيضاً أن أي معركة حزبية من هذا القبيل ستصبح جزءاً من انتخابات منتصف المدة المريرة لعام 2022.
ولا يتطلب الأمر سوى القليل من الرؤية للتنبؤ بأن أي نقاش سياسي حزبي سيكون غير نزيه إلى حد كبير ويركز على إلقاء اللوم على الطرف المعارض. يبدو أن "الكذب" هو التعريف المتنامي للحوار السياسي الأمريكي، حسبما ورد في تقرير لمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية "CSIS".
من المحتمل ألا يرغب أي من الطرفين حقاً في مناقشة انهيار الحرب وخسارتها. ومع ذلك، ولكن النقاش ينطلق من إلقاء الديمقراطيين اللوم على ترامب وإلقاء الجمهوريين باللوم على بايدن.
الرأي العام لا يريد استمرار بقاء القوات الأمريكية بأفغانستان
والمفارقة أنه بينما تضغط وسائل الإعلام الأمريكية والحزبان لجعل الانسحاب من أفغانستان أمراً كارثياً ومركزياً بالنسبة للأمريكيين، فإن استطلاعاً للرأي نشرته وكالة أشوشيتدبرس"US News": يظهر أن معظم الأمريكيين يعتقدون أن الحرب في أفغانستان كانت "لا تستحق القتال".
وأفاد تقرير لصحيفة Washington Post الأمريكية بأن الرأي العام الأمريكي انقلب خلال الفترة من 2010-2014 بحدة ضد الحرب على الرغم من مقتل مؤسس تنظيم القاعدة أسامة بن لادن، وبعد عام 2016 أصبح الأمريكيون يريدون الخروج.
اعتمد هذا التقرير على تحليل تطورات مواقف الأمريكيين من الحرب في أفغانستان عبر تقصي استطلاعات الرأي منذ بداية الحرب.
ترامب لا يحق له الاعتراض
أما والي نصر، أحد أبرز مستشاري ريتشارد هولبروك الذي كان الممثل الخاص لأوباما في أفغانستان وباكستان، فأشار إلى أن "بايدن واجه المعضلة نفسها التي واجهها ترامب.
وكانت إجابته حاسمة: لن نعود إلى هناك، علينا الخروج"، وأضاف أن الانتقادات الصادرة عن الحزب الجمهوري الآن انتقادات وقحة في نفاقها.
وختم والي نصر بالقول: "هم من أطلقوا سراح كل قادة طالبان هؤلاء، وهم من وقعوا هذا الاتفاق"، ومن ثم لا يحق لهم الاعتراض على تنفيذها الآن.
وجود الأمريكيين يحفِّز الأفغان ضدهم
أثبتت أفغانستان أنها درس في حدود القوة العسكرية الأمريكية، حيث تبين أنه من الممكن كسب المعارك وخسارة الحرب. أو على الأقل أن القوة المتفوقة من الناحية التكنولوجية يمكن أن تقتل بشكل أكثر كفاءة من عدوها ولكنها تفشل في تحقيق نتيجة نهائية تشبه الانتصار.
ولكن ما لا يركز عليه الأمريكيون أن المشكلة الرئيسية كانت في بقاء القوات الأمريكية بأفغانستان.
استهانت الولايات المتحدة بمدى تأثير وجودها كمحتل على دافع طالبان للقتال كما أنه قلل من قدرة حكومة كابول على التوحد، حسبما ورد في تقرير لوكالة أسوشيتدبرس الأمريكية "AP".
في كتابه "الحرب الأمريكية في أفغانستان، تاريخ"، يقول كارتر مالكاسيان، المستشار السابق لكبار القادة العسكريين الأمريكيين في أفغانستان وواشنطن، إن أحد أسباب عدم جدوى الجهود الأمريكية كان تأثير الإسلام ومقاومة الأجانب والاحتلال، ويقول إن تلك كانت عوامل لم يفهمها الأمريكيون جيداً.
وكتب يقول: "إن مجرد وجود الأمريكيين في أفغانستان ركز على ما يعنيه أن الأمر أن تكون أفغانياً"، وحثَّ الرجال والنساء على الدفاع عن شرفهم ودينهم ومنزلهم. لقد تجرأ الشباب على القتال. ولقد حركت حركة طالبان. واستنزف ذلك إرادة الجنود والشرطة الأفغان الموالين لأمريكا".