الخوف من الإصابة بفيروس كورونا هو السمة الأبرز لزمن الوباء الذي نعيشه منذ أكثر من عام ونصف العام، لذلك فإن فكرة تصميم مبنى إداري قادر بالكامل على حماية العاملين فيه والمترددين عليه تمثل حلماً للجميع.
لكن يبدو أن الأمر لم يعد حلماً، بل تحول إلى واقع، بحسب تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية، تناول قصة المباني الإدارية الخالية من كورونا، وهي المباني التي توجد في رومانيا.
وتكمن الأهمية البالغة لهذه المباني في كون الخوف من الفيروس الذي تحول إلى جائحة عالمية، منذ مارس/آذار 2020، لا يزال مستمراً، بعد أكثر من ثمانية أشهر من التوصل للقاحات كورونا، والسبب الرئيسي هو عدم قدرة اللقاحات على منع انتشار السلالات الأكثر انتشاراً من الفيروس، وبخاصة دلتا الهندية.
ما مواصفات المباني المقاومة لكورونا؟
مقابض أبواب لا تتطلَّب استخدام اليد، وأسطح ذاتية التنظيف، وطلاء مضاد للميكروبات، وشاشات مراقبة الهواء، وروبوتات تعقيم بالأشعة فوق البنفسجية، و135 تدبيراً آخر توجد في أحد المجمعات الإدارية بالعاصمة الرومانية بوخارست.
وقبل وقت ليس بالطويل، لربما بدا ذلك أشبه برؤية مستقبلية لمكان العمل، أو لمستشفى. لكن هذه المباني وُجِدَت لتبقى، هكذا يقول المبتكرون الذين يقفون وراء ما يُروِّجون له باعتباره واحداً من أكثر الأماكن مقاومةً للفيروسات في العالم، والذي يأملون أن يصبح الوضع الطبيعي الجديد في تصميم المباني الإدارية.
ويُعَد دخول مبنى "H3″، وهو مبنى مكون من 5 طوابق في أحد الأحياء غربي العاصمة الرومانية، شبيهاً بتعلُّم خطوات رقصة جديدة. فنقرة بالرسغ تفتح الباب، وخطٌّ أحمر يوضح البقعة التي يجب الوقوف فيها كي تفحص كاميرا حرارية على بُعد مترين الأشخاص القادمين بحثاً عن علامات الحمى إذا كانوا مصابين.
ويمكن لأولئك الذين "يتلقون الضوء الأخضر" أن يتبعوا المسارات وصولاً إلى المصعد ذاتي التنظيف، من أجل التنقل عبر المبنى، مطمئنين إلى وجود نظام تعقيم يعمل بالإضاءة فوق البنفسجية، مُثبَّت في فتحات التهوية ويقيهم الإصابة بالعدوى خلال تنقلهم بين الأدوار المختلفة.
في حين يتولى "مضيف مُحصَّن"، يرتدي قفازات بلاستيكية، سريعاً إبعاد أي شخص يومض رأسه باللون الأحمر على الشاشة إلى غرفة حجر قريبة، وهي عبارة عن صندوق زجاجي به زر طوارئ ونظام تهوية داخلي خاص به معزول عن بقية المبنى.
ويوجد جهاز "قاتل فيروسات" مُثبَّت على الحائط، يضم ثلاثة مستويات لقوة المروحة، ويَعِد بإزالة أي شيء سيئ، مثل العناصر المُلوِّثة أو العفن أو الجراثيم التي قد تنشر عدوى في الهواء، إلى جانب وجود دعم يوفره ضوء تعقيم بالأشعة فوق البنفسجية مُثبَّت على الحائط.
هل تصبح هذه المباني الحل الوحيد؟
قد تثير هذه الرؤية للمستقبل قلق البعض، فهل هذه البيئة المُعقَّمة، على غرار تكنولوجيا المستشفيات، هي مكان سيرغب الموظفون في العودة إليه بمجرد اعتبار الجائحة تحت السيطرة بالقدر الكافي؟
فقد ظلَّت غالبية الموظفين في رومانيا، كما في غيرها بأوروبا، حبيسي منازلهم طوال معظم الأشهر الـ18 الماضية. وتُظهِر استطلاعات الرأي أنَّ الكثيرين قلقون بشأن احتمالية العودة.
يقول غافين بونر، أحد المنسقين الرئيسيين الذين يقفون وراء مشروع المبنى القياسي لمعايير "Immune" (محصن)، والذي يربط بين مهنيين في مجال الصحة ومهندسين ومعماريين وخبراء بتكنولوجيا المعلومات ومديري مبانٍ من حول العالم لمساعدة الشركات على الاستعداد لحياة ما بعد الجائحة: "الهدف هو طمأنتهم. لا نريد أن يشعر الناس بالذعر".
"Immune" هي علامة تجارية قياسية متاحة للعامة معنيّة بتحويل المباني العادية إلى مبانٍ مقاومة لانتشار العدوى من خلال مجموعة من التدابير، ومثال ذلك مبنى H3. وقد طُبِّقَت معاييرها بالفعل على العديد من المباني في المملكة المتحدة. وتُعَد شركة Genesis الرومانية الرائدة في المجال العقاري من بين مُطوِّري المبنى القياسي، وهي أيضاً المالكة لمبنىH3، وقد كلَّف المشروع نحو مليون جنيه إسترليني (1.36 مليون دولار تقريباً).
ووفقاً لليفيو تيودور، المدير التنفيذي للشركة الرومانية، هناك أكثر من 12 مبنى آخر، من سنغافورة وحتى الولايات المتحدة، في خضم عملية الحصول على شهادة تطبيق معايير "Immune". ويمثل مبنى H3، باعتباره المبنى الأكثر حماية حتى الآن، غرفة عرض تضم كل التدابير الـ135 الموصى بها.
تصميم قابل للتطوير
يقول تيودور إنَّ المشروع مفتوح المصدر "في محاولة لجمع أفضل الأفكار"، وقد تقدَّم بطلب للاتحاد الأوروبي على أمل أن يصبح المشروع هو المعيار الجديد في مختلف أنحاء الكتلة الأوروبية، على نحو مماثل لقواعد السلامة من الحرائق.
ويأمل تيودور أن يُشجِّع المشروع الموظفين وأرباب العمل، الذين ينخرط الملايين منهم الآن في نقاش مكثف حول ما إن كان من الآمن العودة إلى المكاتب، وطريقة هذه العودة.
والمشروع هو في الحقيقة محاولة من تيودور لإحياء قطاع العقارات التجارية، الذي تجنَّبه المستثمرون في ذروة الجائحة. وهو مدرك تماماً للأخطار التي تهدد عمله إذا ما قررت الشركات أنَّها لم تعد تحتاج، أو لم تعد تتحمل تكلفة المباني الإدارية.
تَشغَل شركة الاتصالات السويدية "Ericsson" مبنى H3 حالياً، وتبلغ مساحة المشروع 15500 متر مربع، وجرى تعديله العام الماضي بتكلفة 375 ألف جنيه إسترليني (510.8 مليون دولار تقريباً) مُقسَّمة بين الشركة السويدية والشركة المالكة.
وفي الوضع الطبيعي كان سيضم المبنى الإداري 2000 موظف، لكن الآن يوجد عدد قليل منهم يشغلون مكاتب أو غرف اجتماعات مُوزَّعة توزيعاً جيداً، ويحجزونها من خلال أداة حجز رقمية من أجل تجنُّب الازدحام. ويُتوقَّع عودة 20% من قوة العمل مبدئياً بعد فصل الصيف.
ما دور الروبوتات في المبنى؟
في ظل الدور الأساسي الذي يلعبه التواصل سيجري تشجيع الموظفين على استخدام شاشة كبيرة في بهو المدخل، تُدعى الشاشة الرقمية المزدوجة لـ"قياس نبض المبنى" على حد تعبير مدير تكنولوجيا المعلومات بشركة Genesis، دراغوش كوزما.
والموظفون مدعوون لمتابعة كل شيء، بدءاً من عدد زجاجات الكحول المتبقية في خزانة المتجر، وحتى كمية غاز الرادون أو المُركَّبات العضوية المتطايرة أو ثاني أكسيد الكربون أو الرطوبة داخل المبنى.
وبإمكانهم مقارنة مستويات هذه المواد المختلفة بين الطوابق المختلفة، وبين الأيام المختلفة، أو مشاهدة الفيديوهات التي تشرح المبادئ العلمية وراء التدابير والمعدات الموجودة بالمبنى.
وفي أماكن أخرى، تتضمن التدابير أبواباً مزودة بمرفقات تسمح بفتحها باستخدام الكوع أو أسفل الذراع. وزُوِّدَت الأدوات والأرضيات بحواف مستديرة كلما كان ذلك ممكناً، لأنَّه كلما قلَّت الزوايا قلَّت فرص تجمُّع الجراثيم.
ومُدَّت حجيرات الحمامات من الأرضية إلى السقف، حيث يُعتَبَر من الأكثر أماناً للأشخاص أن يكونوا معزولين داخل حجيراتهم مع مكيف هواء، وذلك في ظل تعذُّر توفير مسافة 2 متر الموصى بها بين الحمام والآخر. وفي المساء، يجتاز روبوت يبلغ طوله 1.2 متر المبنى بضوء الأشعة فوق البنفجسية لتطهير مُسبِّبات الأمراض والقضاء عليها.
لكن هناك سؤال مطروح حول ما إن كان استثمار ملايين اليوروهات من أجل إعادة تهيئة مبنى هو أمر يستحق، بالنظر إلى أنَّ انتشار فيروس كورونا (كوفيد) يعتمد جزئياً على السلوك البشري.
ويُجمِع العلماء على أنَّ كوفيد ينتشر من خلال الرذاذ وجزيئات الهباء الجوي في الهواء، ونادراً ما ينتشر من خلال الأسطح. وعموماً يُنصَح بتجنُّب الأماكن المغلقة.
تيودور، بدوره، يقول إنَّ كل هذا أكثر من مجرد أجواء مسرحية. ويُصوِّر مفهومه عن "البناء الصحي" باعتباره الخطوة المنطقية التالية في تاريخ تكييف العمارة مع الأخطار.