موجة من القمع والتشدد كان يتوقعها الكثيرون بعد تولي طالبان الحكم في أفغانستان، ولكن باستثناء الفوضى في المطار الذي يسيطر عليه الأمريكيون فإن كابول هادئة بشكل غير مسبوق منذ سنوات، فيما بدأت الحركة تقدم وعوداً لخصومها والنساء مختلفة عن تاريخها المتشدد، تؤشر إلى تغير سلوك طالبان ولو جزئياً.
وفيما يواصل الإعلام الغربي الحديث عن عهد وحشي متوقع لطالبان، فإنه يجري تجاهل بعض المظاهر اللافتة التي تفيد بحدوث قدر من التغير في سلوك طالبان بالنظر إلى تاريخ الحركة المتشدد، والأهم بالنسبة للمجتمع الأفغاني المحافظ.
كما يجري تجاهل حقيقة أن سقوط النظام في أي بلد يعقبه قدر هائل من الفوضى مثلما حدث عقب سقوط بغداد في يد الاحتلال الأمريكي، ولكن هذا لم يحدث في كابول، حسب روايات دبلوماسيين أجانب من بينهم السفير الروسي.
أبرز مشاهد تؤشر إلى تغير سلوك طالبان
عفو عام عن كل الموظفين
وأعلنت حركة طالبان اليوم الثلاثاء "عفواً عاماً" عن كل موظفي الدولة، داعية إياهم إلى معاودة العمل بعد يومين على استيلائها على السلطة في أفغانستان، إثر هرب الرئيس الأفغاني أشرف غني.
وتقول وكالة أسوشيتد برس إن التصريحات التي أدلى بها إنام الله سامانجاني، عضو اللجنة الثقافية لطالبان، هي الأولى بشأن الحكم من المستوى الفيدرالي في جميع أنحاء البلاد، بعد استعادة الحركة السيطرة في جميع أنحاء البلاد.
وأتى في بيان طالبان أن "أولئك الذين يعملون في أي قسم أو دائرة حكومية يجب أن يستأنفوا عملهم برضا تام، وأن يواصلوا أداء واجباتهم من دون أي خوف".
كما أعيد فتح بعض المحلات التجارية مع عودة شرطة المرور إلى الشوارع، فيما يستعد مسؤولو طالبان لعقد أول اجتماع دبلوماسي مع السفير الروسي.
وخرج عدد قليل من النساء إلى الشوارع، فيما خلع الرجال ملابسهم الغربية لارتداء الملابس التقليدية.
شهادة السفير الروسي
كشف السفير الروسي لدى أفغانستان دميتري جيرنوف عن انطباعاته للساعات الأولى بعد سيطرة حركة "طالبان" على كابول، مشيراً إلى حالة من الهدوء في المدينة.
وقال السفير الروسي في تصريحات صحفية أمس الإثنين: "جاءنا عناصر من "طالبان" مدججون بالسلاح هذا الصباح، وانتشروا في محيط السفارة حتى لا يتسلل إليها أي مجنون".
وأكد السفير الروسي أن مبنى السفارة الروسية يخضع لحراسة مشددة من مقاتلي حركة "طالبان"، مشيداً بأدائهم وسهرهم على سلامة طاقم السفارة الروسية في عاصمة بلادهم، حسبما ورد في تقرير لموقع "RT" الروسي.
وحسب السفير الروسي، فإن "المدينة أصبحت هادئة بشكل غير عادي، ليس هناك انفجارات ولا إطلاق نار ولا أي شيء من هذا القبيل، بات الهدوء يسود الموقف".
وتابع: "الحياة عادت إلى مجراها الطبيعي في المدينة".
وفي تصريحات أخرى اعتبر السفير أن مقاتلي "طالبان" الذين سيطروا على كابول الأحد، دخلوها كـ"أصحاب" وليس كمحتلين، وقال إن أفراد مجموعاتهم الأولى عند دخول كابول ركعوا وقبلوا أرض المدينة. وأضاف: "الغزاة لا يفعلون هكذا، هم يقدمون على النهب والسطو، لكن لم يحدث شيء من هذا، وآمل أن يستمر الأمر على هذا النحو لاحقاً".
"سيأكلون النساء".. ماذا حدث لمدارس البنات؟
وتفيد تقارير إعلامية بأن المدارس والجامعات ما زالت مغلقة، وهو أمر طبيعي لأننا في فصل الصيف، إضافة إلى أن الحرب انتهت لتوها في البلاد.
وتحدث تقرير لموقع دويتش فيليه الألماني عن وداع الطالبات لجامعاتهن ومدارسهن، دون أن يقدم دليلاً على إعلان طالبان نيتها إغلاق المدارس.
ولكن السفير الروسي قال بدأت المدارس بالعمل، حتى مدارس للبنات. حاول الغرب تخويفنا من أن أنصار "طالبان" سيأكلون النساء، لم يأكلوهن، وإنما فتحوا مدارس للفتيات".
وأشار جيرنوف إلى أنه يخطط للقيام بجولة في جميع أنحاء المدينة برفقة عناصر من "طالبان" ليرى كل شيء بأم عينه، مضيفاً أن "طالبان" اقترحت اختيار أي مسار تريده السفارة لتلك الجولة.
من جانبه، قال الدكتور محمد نعيم، الناطق باسم المكتب السياسي لحركة طالبان، إن المرأة في أفغانستان لها الحق في التعليم والعمل والملكية والتجارة، ولكن مع احترام أعراف وتقاليد المجتمع
لم يكتفوا بدعوة النساء للعودة للعمل بل للمشاركة في الحكومة أيضاً
دعت طالبان، النساء إلى العمل واستئناف نشاطهن، وضرورة مشاركتهن في أي مناصب رسمية في ظل حكومتهم الجديدة.
وحثت الحركة اليوم الثلاثاء النساء على الانضمام إلى الحكومة.
وقال رئيس اللجنة الثقافية للحركة إن الإمارة الإسلامية، طالبان لا تريد أن تكون النساء ضحايا وينبغي أن يشاركن في هيكل الحكم وفقاً للشريعة الإسلامية.
وأضاف أن هيكل الحكم ليس واضحاً تماماً، لكن بناء عن تجربة يجب أن يكون هناك قيادة إسلامية كاملة ويشارك فيها كل الأطراف.
مذيعات بطرحة خفيفة
بطرحة خفيفة لا تغطي الرأس تماماً، أطلّت مذيعات في الفضائيات الأفغانية، بعد يوم من عودة طالبان إلى حكم غاب عنها عشرين عاماً، حسبما ورد في تقرير لموقع بوابة العين.
وفي اجتماعات التحرير الصباحية بالفضائيات ظهرت المرأة بشكل طبيعي إلى جانب الرجل، كما عليه الحال في الأيام الخوالي في ظل الحكومة الأفغانية المدنية.
وسرت الشائعات في نفس اليوم أن طالبان وصلت إلى كابول، وسيضرب عناصرها النساء اللاتي لا يرتدين "البرقع".
وظهر مسؤول في الحركة في مقابلة مع صحفية في قناة إخبارية أفغانية، بدت فيها ملتزمة بارتداء حجاب خفيف، يردّ فيها الرجل الملتحي على أسئلتها بشكل طبيعي جداً.
هل تفرض طالبان الحجاب؟
عن فرض الحجاب على نساء أفغانستان.. قال الناطق باسم المكتب السياسي لحركة طالبان الدكتور محمد نعيم إنه لا يمكن فرض قوانين أو أحكام لا تتناسب مع البيئة الأفغانية أو تطبيق قوانين من الخارج على الداخل الأفغاني، مشدداً على أهمية احترام مبادئ وقيم الشعب وعدم التدخل في شؤون الآخرين.
وسرى الخوف أيضاً إلى نفوس بعض الرجال خوفاً على قريباتهنّ، ورفض بعض السائقين نقل السيدات في وسائل النقل، بحسب شهادات نقلتها صحيفة الـ"غارديان" البريطانية.
لكن الحكام الجدد سارعوا مبكراً إلى محاولة تحسين الصورة لدى الشعب الأفغاني، عبر مؤشرات إيجابية، في رسائل طمأنة، ترمي إلى إقناع النساء والرجال بأن الحركة تغيرت، ولم تعد هي نفسها التي حكمت نهاية تسعينات القرن الماضي.
التعامل مع الخصوم
بدا واضحاً حرص طالبان في تطويقها للعاصمة الأفغانية كابول من جميع الجهات، بعد سيطرتها على أغلب الولايات البالغ عددها 34، على دخول مختلف، وتسلّم السلطة سلميا دون إراقة دماء.
وسارعت الحركة إلى إعلان أنها أمرت عناصرها بعدم مهاجمة القوات الحكومة، وإشاعة الاطمئنان بين المواطنين الذين تملّكهم الخوف والفزع من عودة طالبان.
ولم ترد تقارير موثوقة خلال الأيام الثلاثة من حكم طالبان عن انتهاكات أو قتال بالعاصمة كابول، التي بقي فيها الكثير من السكان في منازلهم؛ حيث ما زال التشكيك في تغيّر أسلوب الحركة سيد الموقف.
ويبدو أنه ما زالت هناك محادثات جارية بين طالبان ومسؤولين بالحكومة الأفغانية، بينهم الرئيس السابق حامد كرزاي وعبدالله عبدالله، الذي ترأس المجلس الأعلى للمصالحة الوطنية.
وقال مسؤول مطلع على المحادثات، طلب عدم ذكر اسمه، إن زعيم طالبان أمير خان متقي وصل إلى كابول قادماً من قطر. وهو وزير التعليم العالي خلال حكم طالبان في السابق.
وقد بدأ متقي التواصل مع القادة السياسيين الأفغان حتى قبل هروب الرئيس أشرف غني، بحسب المصدر نفسه.
ولكن اللافت هو تعامل طالبان مع أبرز خصومها بشكل يظهر رغبة في المصالحة مثلما حدث مع إسماعيل خان والذي يسمى أسد هرات، وكان الملك غير المتوج لغرب أفغانستان، وقد توعد بمحاربة طالبان عقب تقدمها الأخير، ولكنه فر بعد أن تخلت القوات الحكومية عنه.
نقلت أنباء أن الجنود في المطار لم يسمحوا له بأن يركب المروحية قائلين إنه إن ظلَّ الجنود تحت رحمة طالبان فعلى خان والمسؤولين الآخرين أن يواجهوا المصير نفسه، لم يعد أمام خان خيار آخر سوى الاستسلام لطالبان، حسبما ورد في تقرير لموقع أخبار الآن.
سرعان ما رحبت طالبان بتسليم خان نفسه ونشروا صوراً له معلنين ذلك نصراً لهم.
في الصور، تُظهر طالبان احتراماً عظيماً للرجل من دون أن يعاملوه معاملة الأسير أو ينتقموا منه لتاريخه السابق ضدهم.
حسابات طالبان الرسمية نشرت فيديو قصيراً ظهر فيه مسؤولهم الإعلامي، أحمدالله واثق، وهو يتحدث إلى خان مظهراً الاحترام وضامناً له الأمان.
واستخدمت طالبان خان كمثال أمام المسؤولين الحكوميين الآخرين- إن استسلموا فسيحصلون على عفو مماثل. بعد ساعات من استسلامه، نشرت قنوات طالبان تسجيل محادثة هاتفية بين خان والقيادي في طالبان الملا أمير خان متقي الذي رحب بخان ترحيباً حاراً وتحدث إليه بعظيم الاحترام عارضاً عليه "السلام والحرية". متقي طلب أيضاً من خان أن يتحدث إلى كبار معاونيه في الحزب ليدعوهم للاستسلام إلى طالبان مقابل العفو كما حصل مع خان.
من هؤلاء الذين ذكرهم متقي كان وزير الخارجية السابق صلاح الدين رباني.
ثم أوضح المتحدث باسمها جمال ناصر حبيبي، أنّه "جرى التوصل لاتفاق وأنّه سيعاد لمقرّ إقامته".
كما نشرت طالبان مقطع فيديو له، قال فيه: "يجب أن يعاملوا الناس معاملة حسنة ويجب أن يقابلهم الناس بمشاعر طيبة حتى يتمكنوا من عيش حياة مزدهرة معاً".
وأضاف: "نأمل في أن يوفّر جميع إخواننا أجواء سلمية وإنهاء هذا القتال وأن يعود السلام والاستقرار إلى أفغانستان".
الملا يعقوب، نائب أمير طالبان، وابن مؤسس الجماعة الملا عمر، نشر أيضاً تسجيلاً صوتياً إلى قادة الجماعة ومقاتليها يشدد فيها على الالتزام بالوعود التي قطعوها لمن يسلم نفسه.
يعقوب لم يذكر خان بالاسم، ولكنه ذكر هرات وقال إن كبار السن يجب أن يُعاملوا معاملة جيدة.