كان سقوط العاصمة الأفغانية كابول في يد طالبان دون طلقة رصاص أو قطرة، أمراً مفاجئاً سبقه بأيام، سقوط مدن كبرى ومعاقل لأمراء مشهورين بالشراسة، فما سر سقوط المدن الأفغانية في يد طالبان بهذه السهولة.
فقبل أسابيع قليلة قلل الرئيس الأمريكي جو بايدن، من احتمالات سقوط نظام الحكم في أفغانستان على يد طالبان، مشيراً إلى أن الحكومة الأفغانية الموالية للغرب لديها نحو 300 ألف مقاتل بين أمن وجيش تم تسليحهم وتدريبهم من قبل الولايات المتحدة وحلفائها، وأنهم قادرون على الصمود في مواجهة طالبان.
في المقابل، كانت التقارير العسكرية والاستخباراتية الأمريكية تتوقع سقوط كابول بعد بضعة أشهر، وليس بضعة أيام كما حدث.
سر سقوط المدن الأفغانية بهذه السهولة في يد طالبان.. الإجابة معقدة
تبدو الإجابة عن هذا السؤال أكثر تعقيداً مما يشاع سواء كان حديثاً عن صفقة أو فساد.
والتفسير في الأغلب هو خليط من عوامل عدة، بعضها يرتبط بطبيعة طالبان وتطور استراتيجيتها وتكتيكاتها، وبعضها يتعلق بالغرب، لاسيما الولايات المتحدة الأمريكية، وكثير منها لدى النخب الأفغانية الحاكمة، إضافة إلى التركيبة الجغرافية والعرقية والدينية لأفغانستان.
طالبان تستفيد من حاجة الناس إلى الأمن وغضب البشتون
كان المجاهدون الأفغان خليطاً من السياسين والمقاتلين الإسلاميين والقبليين وأمراء الحرب، ومع تصاعد الحرب ضد روسيا، زاد دور المقاتلين القبليين الذين هم أشبه بزعماء حرب على حساب القيادات الإسلامية المسيسة.
وقد شجع الغرب على ذلك مثلما حدث مع أحمد شاه مسعود الذي كان قائداً عسكرياً في فصيل برهان الدين رباني أحد مؤسسي الجهاد الأفغاني، حيث همش مسعود، الأخيرَ، وتحول إلى أمير حرب قوي اقتحم كابول رغم الاتفاق بين المجاهدين على ضرورة تنظيم عملية اقتحام المدينة بعد سقوط النظام الشيوعي؛ حتى لا يدب بينهم الخلاف.
وكان هذا بداية أزمات البلاد إلى حد كبير.
لم يكن أحمد شاه مسعود فقط أمير حرب أكثر من كونه سياسياً مؤدلجاً ولكنه أيضاً كان طاجيكياً في بلد حكمه البشتون لقرون.
والبشتون شعب يتحدث لغة قريبة للفارسية يمثلون نحو 42% من سكان البلاد ويسكنون في الوسط والجنوب، بينما الطاجيك شعب يتحدث لغة فارسية بلهجة خاصة، ويشكلون نحو 27 % من السكان ويسكنون في الشمال والشمال الغربي.
ولم يتقبل البشتون فكرة سيطرة غيرهم على البلاد، والبشتون شعب قبلي مشهور بصلابته القتالية وعاداته وتقاليده المحافظة والطبقية، وهم يرون أنفسهم الحكام الطبيعيين للبلاد، وهو أمر له أهمية في بلد مسلح وغير مركزي ولديه طبقيَّة عميقة مثل أفغانستان.
خلقت هذه الأجواء فوضى في كل أفغانستان، التي تحولت إلى بلد يتقاسمه أمراء حرب، يرتكبون موبقات من وجهة نظر الأفغان، وبدأ الطابع الإسلامي للمجاهدين يتفكك في ظل تصرفات فلول المجاهدين التقليديين.
وفي هذه الظروف ظهرت طالبان ويمكن اعتبارها تعبيراً عن غضب متديني البشتون وعوامّهم سواء من الفوضى الاجتماعية أو فقدان البشتون هيمنتهم التاريخية.
وسرعان ما أدى تنظيم الحركة وصلابتها وعنفها مع سعيها لفرض الأمن واهتراء المجاهدين السابقين إلى انتصارات ساحقة لـ"طالبان" في التسعينيات، حيث تمكنت الحركة من بسط الأمن نسبياً في البلاد، والقضاء على معظم أمراء الحرب.
ولكن الحركة عانت من الرفض في المناطق غير البشتونية، كما أن مفهومها الصارم للدين قد يكون غير مرفوض في المناطق الريفية البشتونية ولكنه ضايق سكان المدن، خاصةً العاصمة كابول، لاسيما المدن غير البشتونية، كما أن التوجه السني المتطرف كان له أثر شديد السلبية على علاقتهم بالشيعة الذين يمثلون أقل قليلاً من 10% من سكان البلاد.
والأهم أن طالبان فرضت الأمن ولكنها لم تقدم شيئاً إضافياً للأفغان في النواحي الاقتصادية في ظل عزلة البلاد، ومحدودية أفق الحركة المتشددة في ذلك الوقت.
طالبان تغير استراتيجيتها بعد السقوط المدوي
تعرضت الحركة لكارثة بدت أنها لن تخرج منها بعد الغزو الأمريكي ووصمها بأنها حامية تنظيم القاعدة.
ولكن جغرافية البلاد وطبيعتها وتغيُّر أساليبها مكنتها من البقاء.
فرغم أن رؤساء أفغانستان بعد الغزو الأمريكي جاءوا من البشتون، فإن هذا الشعب ظل يعتبر نفسه قد همش، في ظل ضعف هؤلاء الرؤساء واعتمادهم على الأمريكيين والدور النافذ لزعماء الطاجيك تحديداً في الحكم.
ظلت طالبان بشكل أو بآخر، ممثلةً للإثنية البشتونية، لاسيما جانبها المحافظ الريفي البسيط والأقل قبلية.
ومكنت الجغرافيا الأفغانية الوعرة والمساحات الكبيرة والمفتوحة على باكستان، قادة ومقاتلي طالبان من النجاة، وواجهت الحركة مأزقاً بعد موت مؤسسها الملا عمر، ظهر في إخفاء خبر موته لعامين، وجاء قائدان بعده.
وفي الوقت ذاته طورت الحركة أساليبها القتالية، من خلال خوض حرب عصابات منخفضة الكثافة، أدت إلى استنزاف الجهد العسكري الأمريكي، دون نتيجة تُذكر لواشنطن.
صحيح أن خسائر الأمريكيين لم تكن كبيرة، ولكنها كانت تتراكم على مدار سنوات، فيما تعزز الحركة سيطرتها على الريف الأفغاني بطريقة مرنة تسمح بالانسحاب في حال تعرضها لهجمات.
كما بدا واضحاً أن الحركة قد أعادت بناء جهازها العسكري ليصبح أكثر تماسكاً ومرونة في الوقت ذاته.
وفي المجال السياسي بدأت طالبان تقول إنها تنأى بنفسها جزئياً عن تنظيم القاعدة الذي سبب لها كارثتها رغم الشكوك في مصداقية ذلك الادعاء، ولكن في كل الأحوال فإن الحرب الأمريكية بأفغانستان وأزمات الشرق الأوسط في إفريقيا، وانتشار الإرهاب بكل مكان أدت إلى جعل وجود القاعدة في أفغانستان ثانوياً بالنسبة للتنظيم نفسه، بعد أن انتشر في العراق وسوريا وإفريقيا وفي سيناء واليمن وليبيا في كثير من الأحيان.
وهكذا بدأت المفاوضات بين أمريكا وطالبان، وهي مفاوضات يمكن القول بارتياح، إن طالبان فرضت شروطها خلالها، فهي حصلت على أهم انتصار، وهو تعهد أمريكي بالانسحاب دون تعهد طالباني مماثل بوقف الهجمات على قوات الحكومة الأفغانية الموالية للغرب، وبدلاً من ذلك قدمت وعداً يصعب ضبطه، بتقليل الهجمات على الحكومة الأفغانية.
والنتيجة فصلت طالبان بين المفاوضات مع الأمريكيين والمفاوضات مع الحكومة، وظلت تسير في الأخيرة ببطء دون وقف قتال، في وقت تعنت فيه الجانب الحكومي أمام طالبان دون أن يمتلك أدوات القوة التي تسند موقفه التفاوضي.
كيف ساعدت أمريكا طالبان على النجاح؟
مما لا شك فيه أن أمريكا ساعدت طالبان دون أن تقصد، على تحقيق هذا النجاح.
فإضافة إلى أن الولايات المتحدة لم تتعلم من دروس بريطانيا والاتحاد السوفييتي بعدم الاقتراب من هذا البلد الذي يعد بمثابة لعنة على الإمبراطوريات، فإن الأمريكيين ارتكبوا سلسلة مطولة من الأخطاء.
بدءاً من التركيز على التحالف الشمالي غير البشتوني، مما همش البشتون الذين يمثلون العصب الأساسي للبلاد، وصولاً إلى التحالف مع سلسلة من أمراء الحرب سيئي السمعة والقادة الضعاف غير الأكفاء.
كما أن محاولة بناء الجيش الأفغاني على صورة الجيش الأمريكي وتزويده بأسلحة غربية معقدة، وهو الجيش البسيط الذي تعوّد مقاتلوه على الأسلحة الروسية البسيطة، كانت خطيئة كبرى باعتراف المحللين الأمريكيين.
وكان أبرز أخطاء أمريكا تحويل النظام الأفغاني الذي شيدته إلى عالة على الأمريكيين، مما جعله ينهار حتى قبل إتمام الأمريكيين الانسحاب.
كان هذا الانهيار نتيجة الفساد الهائل في هذا النظام الذي اختار الأمريكيون أفراده من النخب والقطاعات الأكثر استعداداً للتعاون معهم والذين يُسمعون الغرب كلاماً معسولاً عن حقوق الإنسان، في حين أن كثيراً منهم منتفعون أو فاسدون وليس بالضرورة مؤمنين بالليبرالية الغربية كما يقولون.
والنتيجة جيش ضخم على الورق، في حين أنه على الواقع، من الواضح أن كل الأرقام عن عدد الأسلحة والأفراد مبالَغ فيها، والأهم أن الأمريكيين حاولوا تارةً الاستفادة من أمراء الحرب الذين كانوا عائقاً أمام بناء دولة موحدة، وتارة قللوا من دورهم فأضعفوا إحدى أدوات المقاومة الصلبة ضد طالبان.
كما سعى الأمريكيون إلى خلق جيش موحد من إثنيات البلاد المتنوعة دون نضوج الفكرة الوطنية الأفغانية، فبدت الوحدات الرسمية أقل تماسكاً من مقاتلي طالبان المتجانسين والأكثر قدرة بتركيبتهم الصلبة ولوجستياتهم البسيطة على القتال أمام جيش مترهل بأسلحة وتنظيم غربيين.
ومثلما فعلوا في العراق أقام الأمريكيون النظام السياسي في شكل ائتلاف هش بين مكونات متنافرة لا يجمع بينها إلا الأطماع في السلطة والنزعات الإثنية والطائفية والفساد والعداء للنظام السابق مع إعطاء ميزة نسبية للأقليات غير البشتونية.
وإذا كان النظام الذي أقامه الأمريكيون في العراق قد همش السُّنة؛ مما أدى إلى استغلال داعش لذلك، فإن السُّنة العرب بالعراق أقلية تتركز في أقل من ربع محافظات البلاد، أما البشتون بأفغانستان فهم قومية كبيرة تقارب نصف السكان، ويعيشون في مناطق وعرة تصعب السيطرة عليها.
والأهم بالغ الأمريكيون بالأغلب في تقييم تأثير سياستهم فيما يتعلق بحريات النساء وغيرها من الحريات، ولا يمكن استبعاد أنها تأتي بنتيجة عكسية لدى قطاع كبير من المجتمع الأفغاني، خاصة إذا فُرضت هذه السياسات من قبل محتل أجنبي.
كما أنه في مجتمع يحاول الناس بصعوبةٍ الحفاظ على حياتهم من الجوع أو اعتداءات أمراء الحرب والبلطجية وقُطاع الطرق، فإن توفير طالبان الأمن والاستقرار ووجود حكم يمكن التكهن بتصرفاته حتى لو كانت متطرفة، أفضل من الفوضى بالنسبة لكثيرين.
أخطاء النخب الأفغانية الحاكمة
مثلما تسببت صراعات المجاهدين الأفغان وفسادهم ووحشية بعض أمراء الحرب في صعود طالبان، فإنهم واصلوا النهج نفسه، بعد عودتهم للسلطة على متن الدبابات الأمريكية، وهو ما بدا في اللحظات الأخيرة لسقوط النظام، حيث تبادل المسؤولون الاتهامات، بل من الواضح أنهم بدلاً من مقاومة طالبان كما توعدوا، فإنهم تباروا في محاولة التقرب لها، حيث أفادت تقارير على سبيل المثال، بأن طالبان قالت إنها دخلت إلى كابول بناءً على طلب من الرئيس الأسبق حامد كرزاي الذي نصَّبه الأمريكيون رئيساً للبلاد بعد إقصاء الحركة عام 2002.
كما أن الرجل شكَّل لجنة تضم قيادات حالية وسابقة لتسليم السلطة إلى طالبان.
الأهم أن تركيبة النظام خالية من أي أيدولوجيا أو انتماء وطني أو إثني تجعله يتماسك.
المحطات الأخيرة في صعود طالبان
أدى قرار الانسحاب الأمريكي والفساد وسوء الإدارة في المؤسستين العسكرية والأمنية الأفغانية، إلى تزايد الشعور بأن انتصار طالبان حتمي، وكيف لا والحركة كان تتقدم أصلاً في ظل وجود الطائرات الأمريكية المدمرة.
وحتى مع استمرار الأمريكيين في تقديم بعض الدعم العسكري للقوات الأفغانية بعد إعلانهم نيتهم الانسحاب، ولكنه أصبح دعماً محدوداً، ويكاد يقتصر على قصف بسيط أو دعم فني، وخلق هذا ميزة كبيرة لـ"طالبان" في التحرك على الأرض بِحرية وفجوة عسكرية ونفسية هائلة للقوات الأفغانية.
وواصلت طالبان التكيف بطريقة ذكية، فاستولت أولاً على المعابر المعزولة، الأسهل نسبياً، وهو ما خلق صدمة كبيرة لدى القوات الأفغانية بهذه المعابر والتي كان عليها أن تقاتل طالبان لأول مرة دون مساعدة أمريكية وخطوط تموين مقطوعة مع العاصمة.
وكانهيار الدومينو، سرعان ما تحركت طالبان في مناطق بالشمال والغرب، وهي مناطق تقليدياً يُنظر إليها على أنها معاقل مناوئة لها وبها قيادات معارضة للحركة، مثل هرات معقل إسماعيل خان، الذي كان يوصف بأسد هرات، وتوعد بمحاربة طالبان للنهاية.
ولكن في هذا المكان ظهر عجز القوات الأفغانية الرسمية مجدداً، ويقال إنها هي التي بدأت بالتخلي عن سلاحها تاركة ميليشيات الرجل العجوز أمام قوات طالبان.
وهنا يظهر مجدداً تطور لافت في أساليب طالبان، فبدلاً من إهانة الشيخ ذي اللحية البيضاء الذي حاربها مراراً، فإنها أظهرت احترامها له؛ بل يقال إنها طلبت منه الوساطة لضمان استسلام القوات الحكومية في مناطق أخرى دون مقاومة.
وتفيد تقارير، بأنه في مدن عدة أبرمت طالبان تفاهمات مع القوات والمسؤولين الحكوميين للاستسلام دون قتال، عبر وساطات قبلية تلقفها المسؤولون والقادة الأفغان الخائفون على حياتهم والذين تعاني قواتهم من نقص الطعام والذخيرة ولم تتلقوا رواتبهم.
وفي هذا الإطار، لا يمكن استبعاد أنه إضافة للفساد وسوء الإدارة فإن اعتماد الوحدات العسكرية الأفغانية على الأمريكيين في كل شيء خلق فجوة في الجيش الأفغاني المترهل المبني على صورة الجيش الأمريكي العظيم، صورة لا تستطيع الموارد المحدودة والمنهوبة للحكومة الأفغانية تعويضها.
كما جاء استيلاء طالبان على معقل الجنرال المشهور بشراسته عبدالرشيد دوستم بسهولة ليعطي مزيداً من الزخم لـ"طالبان".
واللافت في هذا الإطار، أن جزءاً من أبكر وأهم انتصارات طالبان كان في مناطق تقليدياً هي معاقل للقوميات غير البشتونية مثل مزار شريف وهرات، وقندوز وهي مناطق بها وجود قوي للطاجيك والأوزبك والهزارة.
يشير ذلك إلى ترسيخ طالبان وجودها في المناطق غير البشتونية، وهو أمر لم تفعله في تجربة حكمها الأولى، كما تجدر الإشارة إلى عدم ورود أي تقارير ذات مصداقية عن فظائع في المناطق الشيعية أو انتهاكات، وهو أمر يشير إلى تغير نسبي لموقف الحركة من الشيعة، وهو أمر يمكن ملاحظته أيضاً في علاقتها المتنامية مع إيران.
وبعد أن سقطت المدن الشمالية التي يُفترض أنها الأصعب على طالبان، تحركت الحركة نحو مدن البشتون في الجنوب والشرق والتي هي غالباً كانت الأكثر تحصيناً من قبل القوات الأفغانية، لأنها كانت تمثل الجبهة الأساسية للقتال، ولكنها في الوقت ذاته المدن الأكثر استعداداً لتقبُّل حكم طالبان.
وبعد أن رأى مسؤولو هذه المدن قادة مشهورين كإسماعيل خان أو دوستم أو محمد نور يفقدون معاقلهم الأسطورية في الغرب والشمال الغربي، استسلموا دون إبداء حتى الاستعداد للقتال.
لغز سقوط كابول
أما العاصمة كابول فتظل قصة سقوطها اللغز الأكبر، وهي غالباً خليط من توسع كرة انهيار النظام، تبعه قرار أمريكي بالتكيف مع تقدم طالبان للاستيلاء على السلطة مقابل السماح بالخروج الآمن للرعايا الغربيين وبعض الأفغان المتعاونين معهم، وقد راوغ وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، في الرد عندما سئل: هل تم التفاهم مع طالبان على دخول طالبان للعاصمة؟
ومن الصعب معرفة هل طلب الأمريكيون من الرئيس أشرف غني الخروج أم أن انهيار القوات الحكومية وفرارها أمام قوات طالبان دفعاه للخروج أم العكس، وهو أن خروجه هو الذي أدى إلى انهيار النظام.
تبدو الروايات والمؤشرات متضاربة في هذا الصدد، فرواية عبدالله عبدالله رئيس مجلس المصالحة الأفغاني، ووزير الدفاع الأفغاني تُحمل الرئيس المسؤولية.
في حين أن سكرتير الرئيس الذي سلم القصر الرئاسي لـ"طالبان"، قال إنه كان سيهرب مع أسرته مثل الرئيس، ولكن طُلب منه البقاء لتسليم القصر، بعد أن نال ضمانات بشأن حياته، دون أن يوضح من أين جاءت هذه الضمانات.
كما أن مسؤولاً بـ"طالبان" قال إن الرئيس السابق حامد كرزاي هو الذي دفع الحركة إلى تغيير رأيها بعدم دخول العاصمة، بعدما طلب من قادتها الدخول؛ حتى لا تحدث فوضى في العاصمة.
وبصفة عامة، من يعلم التركيبة الأفغانية المعقدة، لاسيما الوضع في العاصمة، قد يميل إلى تبني الرأي القائل بأن دخول طالبان قد يكون مطلباً أمريكياً وأيضاً مطلب من بعض قيادات البلاد حدث في اللحظات الأخيرة.
وذلك لأن العاصمة كابول بها نحو 70 ألف قطعة سلاح، حسب ما نقله تقرير لقناة الجزيرة عن مسؤولين حكوميين، وكابول مرشحة أكثر من أي منطقة بأفغانستان للسقوط في الفوضى في حال حدوث فراغ بالسلطة، لأن المدينة لا تضم تركيبة عشائرية تستطيع ضبط الأمن في حال غياب قوة حاكمة.
واللافت أنه صاحبَ تقدم طالبان على الأرض استمرارها في التفاوض، مع تركيز خطاب الحركة على السلام والعفو والتعايش وعدم إراقة الدماء، وفرض الأمن واحترام الزعامات، وصولاً للحديث عن تشكيل حكومة تشاركية، ولكن ذلك دون تقديم وعود محددة عن تشكيل حكومة ائتلافية أو إجراء انتخابات أو التخلي عن الرغبة المعلنة في إعلان إمارة إسلامية.
كما تشدد الحركة على احترامها لحقوق النساء في إطار الإسلام دون أن تحدد أي فهم للإسلام سوف تطبقه، هل فهمها المتشدد المعروف من قبل والذي جلب لها انتقادات حتى من الإسلاميين في العالم العربي، أم فهم للإسلام مشابه للفهم السائد في أغلب العالم الإسلامي.
كما أن قيادياً من الحركة رد على أسئلة بشأن هل تعتزم إعلان الإمارة الإسلامية وطبيعة النظام، بتأكيده أن الأولوية لفرض الأمن، وأيضاً خروج القوات الأجنبية.
فالحركة يبدو أنها تريد هدم النظام دون هدم الدولة، وإقصاء خصومها من السلطة دون إبادتهم، ولكن السؤال هنا: هل يقبل هؤلاء الخصوم، خاصة من أمراء الحرب ذوي التاريخ القتالي الحافل، بهذه المعادلة بأن يبقوا في بيوتهم آمنين دون أن يكون لهم دور سياسي؟
كما أن عمومية وغموض خطاب الحركة بشأن النظام القادم، قد لا يخفيان فقط براغماتية سياسية للحركة أظهرتها في الجمع بين التفاوض والقتال والمصالحة، ولكن قد يخفيان أيضاً عدم اتفاق بين قيادات الحركة على شكل الدولة وحقوق النساء والديمقراطية والفهم للإسلام الذي ستطبقه، في ظل حديث عن انقسام بين قيادات توصف بالمعتدلة مثل الملا عبدالغني برادر رئيس المكتب السياسي للحركة ومهندس ملف التفاوض، والقائد العام للحركة الملا هيبة الله أخوند زاده، وهو قاضٍ المعلومات عنه قليلة أو سراج الدين حقاني الذي يوصف بالرجل الثاني في الحركة وزعيم الشبكة القوية التي تحمل اسم عائلته، والتي تصنفها الولايات المتحدة كجماعة إرهابية.
كما أن طالبان تواجه تحدي الاعتراف الدولي، لاسيما من الغرب، الذي يلمح إلى الاستعداد لفعل ذلك بشكل جماعي كما قال رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، ولكن الساسة الغربيين، مدفوعين بضغوط الليبراليين والإعلام، قد يفرضون على طالبان شروطاً قد لا تقبلها، وقد تكون أكبر من التغير المحدود في أيديولوجيتها، مما يؤدي إلى حصارها مجدداً، وقد يؤدي ذلك إلى تشجيع بقايا النظام السابق على التمرد ضدها، وبالتالي قد تغير الحركة خطابها وسلوكها التصالحي، والأهم أن ذلك قد يُعلي من شأن العناصر الأكثر تطرفاً داخل الحركة.