تتلاحق الأحداث في أفغانستان بصورة تحبس الأنفاس، فالعاصمة كابول التي توقعت الاستخبارات الأمريكية سقوطها بيد حركة طالبان خلال 3 أشهر من اكتمال الانسحاب الأمريكي، ربما تكون تحت سيطرة الحركة بنهاية اليوم الأحد، 15 أغسطس/آب.
فقد قالت وزارة الداخلية الأفغانية الأحد إن حركة طالبان بدأت دخول العاصمة كابول من جميع الجهات، بينما قال مسؤول أمريكي لرويترز إن الأعضاء "الرئيسيين" في الفريق الأمريكي يباشرون عملهم من مطار كابول، وذكر مسؤول بحلف شمال الأطلسي أن عدداً من موظفي الاتحاد الأوروبي انتقلوا إلى مكان أكثر أمناً في العاصمة.
ومن جانبه، أشار قيادي بحركة طالبان في العاصمة القطرية الدوحة إلى أن الحركة أمرت مقاتليها بالإحجام عن العنف والسماح بالعبور الآمن لكل من يرغب في المغادرة، وأنها تطلب من النساء التوجه إلى مناطق آمنة.
تغيير جذري في سياسات طالبان
وبينما يبدو متوقعاً ألا ينتهي اليوم الأحد إلا وقد سيطرت طالبان على العاصمة كابول، حيث تجري محادثات لتسليم العاصمة إلى مقاتلي الحركة بشكل سلمي، من الواضح أن حركة طالبان الآن في أقوى حالاتها منذ عام 2001، قبل أن يطيح الغزو الذي قادته الولايات المتحدة بها من السلطة، بحسب تقرير لصحيفة The Washington Post الأمريكية.
لكن رغم قوة الحركة مقارنة بالجيش الأفغاني، الذي تولت الولايات المتحدة على مدى 20 عاماً تمويله وتدريبه، فإن طالبان سعت للاستيلاء على مدن وولايات البلاد بطريقة منظمة وتفاوضية، من خلال الوساطة وإقناع القوات الأفغانية أنه لا جدوى من القتال، وأن ذلك سيؤدي فقط إلى تدمير البنية التحتية وسفك دماء الأبرياء.
ويكشف نجاح تلك الاستراتيجية التي تبنتها الحركة، المتمثل في سقوط البلاد بشكل كامل تقريباً في قبضة الحركة مرة أخرى بسرعة مذهلة، عن تغيير كبير في فكر طالبان، وقدرة الحركة على تفادي القتال كلما كان ذلك الخيار متاحاً. وأرجعت طالبان نجاحها في السيطرة على كامل الأراضي الأفغانية بسرعة ودون قتال إلى "الترحيب الشعبي" بعودتها إلى الحكم.
لكن يمكن القول إن أحداث الأسابيع القليلة الماضية قد كشفت بوضوح عن تغيير يصفه البعض "بالجذري" في استراتيجية حركة طالبان، وتعاملها داخلياً وخارجياً، عما كانت عليه الحركة قبل عشرين عاماً.
وهذا ما عبّر عنه تيسير علوني، الخبير في الشأن الأفغاني، لقناة الجزيرة، بقوله إن "حركة طالبان تغيّرت بشكل كبير، وبدأت تتحلى بنوع من الواقعية السياسية، وهو ما يعكس حالة من النضج لدى الحركة" عما كانت عليه في تجربتها الأولى في حكم أفغانستان.
ما المؤشرات على تغيير سياسات الحركة؟
يمكن في هذا السياق رصد عديد من المؤشرات التي تكشف عن التغيّر في طريقة إدارة طالبان للصراع الحالي، وقد يكون أبرز هذه المؤشرات عدم اعتماد الحركة على القوة المسلحة بشكل كامل في فرض سيطرتها على المدن والولايات الأفغانية.
إذ سيطرت الحركة على جميع المدن بالطريقة نفسها تقريباً، التي تمثلت في تجنب الدخول في مواجهات عسكرية مباشرة كخيار أول، بل استخدام وجهاء وزعماء القبائل وشخصيات تاريخية في التفاوض والوساطة مع مسؤولي الحكومة والجيش في تلك المدن، ومن ثم تتم عملية تسليم السلطة بشكل سلمي ومنظم.
وتزامن مع تلك الطريقة تصريحات لقادة الحركة تركز على سعي طالبان لتجنب سفك دماء الأفغان، وعدم اتباع سياسة الانتقام أو الإعدامات، وهو ما قاله بالفعل أحد قيادات الحركة لرويترز.
وخلال التفاوض لتسليم العاصمة كابول، اليوم الأحد 15 أغسطس/آب، أصدرت طالبان عدة بيانات، كان واضحاً منها أن الحركة لا تنوي السيطرة على العاصمة بالقوة، وأنها تفضل أن يتم ذلك بصورة سلمية، كما حدث مع باقي المدن والولايات الأفغانية.
وقالت الحركة في بيان لها إنها لا تسعى "للانتقام من أحد، ونعطي الأمان لجميع موظفي إدارة كابول عسكريين ومدنيين"، مضيفة أن "الحكومة ستكون مسؤولة عن أمن كابول حتى تتم "العملية الانتقالية".
وقال قيادي بطالبان في الدوحة لرويترز، إنه تم توجيه "أوامر لمقاتلي الحركة بالوقوف عند نقاط الدخول في العاصمة، والمجاهدون لم يقتلوا أو يصيبوا أحداً في كابول".
وسبق ذلك أيضاً تأكيد الحركة على أنها "لن تمنع النساء والفتيات من الذهاب إلى الجامعات والمدارس"، إضافة إلى عقد الحركة لقاءات مكثفة مع دول الجوار روسيا وإيران وغيرهما، للتأكيد على أن أفغانستان لن تكون مصدر تهديد لأي من جيرانها في ظل تولي الحركة الحكم في البلاد.
فشل التقديرات الأمريكية على كل المستويات
وعلى الرغم من أن الوقت لا يزال مبكراً للحكم على تجربة طالبان الجديدة في حكم أفغانستان، فالواضح حتى الآن هو أن الحركة قد استفادت من تجربتها السابقة، وأنها تسعى للتواصل مع المجتمع الدولي على الجبهة الخارجية، وطمأنة الأفغان أنفسهم على الجبهة الداخلية.
ومن جهة أخرى فإن تلك الأحداث المتلاحقة والمتسارعة تطرح تساؤلات عميقة بشأن الدور الأمريكي، العسكري والاستخباراتي، في أفغانستان، بعد نحو 20 عاماً من غزو البلاد، وإزاحة حركة طالبان عن الحكم.
فعندما أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن أنه سيسحب قواته من أفغانستان بشكل نهائي قبل 11 سبتمبر/أيلول المقبل، توقعت أجهزة الاستخبارات الأمريكية وقادة البنتاغون أن تتمكن طالبان من السيطرة على أفغانستان في غضون ستة أشهر، وهو ما ثبت أنه "تقييم فاشل تماماً" بالطبع.
فمع إخفاق المحادثات بين طالبان والحكومة الأفغانية في التوصل إلى تفاهم سياسي من شأنه أن يفضي إلى اتفاق سلام تدعمه الولايات المتحدة وحلفاؤها، بدأت طالبان التحرك نحو السيطرة على البلاد، وكانت البداية في 11 مايو/أيار، عندما سيطرت الحركة على مقاطعة نرخ خارج العاصمة كابول مباشرة.
وفي 22 يونيو/حزيران الماضي، قال مبعوث الأمم المتحدة في أفغانستان، إن الحركة استولت على أكثر من 50 من إجمالي 370 مقاطعة.
ومع انسحاب القوات الأمريكية من قاعدتها العسكرية الرئيسية في أفغانستان، وهي قاعدة باجرام التي تبعد ساعة بالسيارة عن كابول، وإنهاء الولايات المتحدة تدخلها في الحرب فعلياً، بدأت تتسارع وتيرة الحركة على ولايات ومقاطعات البلاد.
وفي 21 يوليو/تموز، قال جنرال أمريكي رفيع لرويترز، إن مقاتلي طالبان باتوا يسيطرون على نحو نصف مقاطعات أفغانستان، ما يظهر مدى وسرعة تقدمهم، وتعهّدت واشنطن بعد ذلك بأربعة أيام بمواصلة دعم القوات الأفغانية "في الأسابيع المقبلة" بضربات جوية مكثفة، لمساعدتها في التصدي لهجمات طالبان.
لكن يوم 6 أغسطس/آب أصبحت زرنج في جنوب البلاد أول عاصمة إقليمية تسقط في أيدي طالبان منذ سنوات، وأعقب ذلك سقوط الكثير من المدن في الأيام التالية، ومنها مدينة قندوز الرئيسية في الشمال.
ويوم 13 أغسطس/آب، سقطت أربع عواصم أقاليم أخرى في يوم واحد، بينها قندهار، ثاني كبرى مدن البلاد، والمعقل الروحي لطالبان، كما اجتاح مقاتلو الحركة مدينة هرات في الغرب، واعتقلوا القائد البارز محمد إسماعيل خان، أحد أبرز القادة الميدانيين في الحرب ضد طالبان.
وأمس السبت استولت طالبان على مدينة مزار شريف الرئيسية في شمال البلاد، ثم مدينة بل علم، عاصمة إقليم لوجار، الواقعة على بعد 70 كيلومتراً إلى الشمال من كابول بعد مقاومة ضعيفة.
وأرسلت الولايات المتحدة مزيداً من القوات للمساعدة في إجلاء المدنيين من كابول، فيما قال الرئيس الأفغاني أشرف غني إنه يتشاور مع شركاء محليين ودوليين على الخطوات القادمة، لكن اليوم الأحد سيطرت طالبان على مدينة جلال آباد الشرقية الرئيسية دون قتال، لتحاصر كابول فعلياً. والآن تجري مفاوضات لتسليم كابول إلى طالبان دون قتال، قبل نحو شهر من موعد بايدن لإكمال انسحاب قواته.