بشكل عام تتسم العلاقات بين تركيا وإيران بما يمكن وصفه بـ"المنافسة السلمية"، فهناك ملفات تتسم بالتحديات، وهناك أيضاً فرص للتعاون، فكيف إذن قد يؤثر تولي المتشدد إبراهيم رئيسي المسؤولية في طهران على العلاقات مع أنقرة؟
تولي رئيسي المسؤولية خلفاً لحسن روحاني، المحسوب على التيار الإصلاحي الأكثر انفتاحاً على التعامل مع الغرب، يعني إحكام قبضة المحافظين أو التيار المتشدد على مقاليد الحكم في إيران، وهو ما يرجح أن تزداد المواجهة مع الغرب سخونة وتوتراً.
ونشر موقع Al-Monitor الأمريكي تقريراً بعنوان "تركيا ترى فرصةً في المواجهة بين الغرب وإيران في ظل حكم إبراهيم رئيسي"، ألقى الضوء على سيناريوهات الفترة المقبلة بالنسبة لطبيعة العلاقات بين أنقرة وطهران.
علاقة إيران مع الغرب
يمكن القول إن العلاقات التركية الإيرانية تحمل الكثير من المخاطر، لكنها أيضاً تمثِّل فرصاً جديدة في ظلِّ إدارة إبراهيم رئيسي، وهو رئيسٌ متشدِّدٌ له علاقات وثيقة مع المرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي ومؤسسات الدولة.
ففي إيران، كان المرشد الأعلى والمجلس الأعلى للأمن القومي مؤثِّرين دائماً في السياسات الخارجية والأمنية للبلاد. وبالتالي، فإن الانتقال الرئاسي، الذي شهد خلافة المعتدل حسن روحاني على يد رئيسي المحافظ، قد لا يجلب تغييراتٍ جذرية في السياسة الخارجية.
وعلى الأرجح ستظلُّ علاقات طهران وأنقرة مهمةً طالما ظلَّت سياسة العزلة التي يقودها الغرب، والعقوبات ضد إيران، كما هي – وهو الوضع الذي يساعد على إبقاء العلاقات بين أنقرة وطهران في مستوى يمكن إدارته، رغم بعض الخلافات المستمرة.
ورغم أن رئيسي لم يُدلِ بتعليقٍ علني حتى الآن فيما يتعلَّق بعلاقات طهران مع إيران، فمن المُرجَّح أن تلعب تفضيلات المؤسسة الإيرانية دوراً رئيسياً في تشكيل السياسة الخارجية لرئيسي، الذي لا يتمتَّع إلا بخبرةٍ محدودة في هذا المجال.
وتشير إشادة خامنئي بالرئيس الجديد، علاوةً على تعهُّد اللواء محمد حسين باقري، رئيس أركان القوات المسلَّحة الإيرانية، بالتعاون مع الإدارة الإيرانية الجديدة، ووعد رئيسي بتشكيل "حكومة ثورية"، إلى أن الرئيس الجديد يتبنَّى بالفعل خيارات المؤسسة الإيرانية المتشدِّدة.
تراجع سياسة "الصبر الاستراتيجي"
ويقول خبراءٌ إنهم يعتقدون أن البيروقراطية المدنية الإيرانية، التي تدعو إلى تطبيع علاقات طهران مع الغرب، ستفقد على الأرجح نفوذها في ظلِّ حكم رئيسي. ورغم أن المرشد الأعلى كان له الكلمة الأخيرة دائماً في السياسة الخارجية والأمنية للبلاد، كان روحاني قادراً على اتِّباع دبلوماسيةٍ ثنائية المسار لتحقيق التوازن في دور المتشدِّدين.
وكانت سياسة "الصبر الاستراتيجي" التي انتهجها روحاني، والتي هدفت إلى مواجهة سياسة "الضغط الأقصى" للولايات المتحدة، قد تم التخلي عنها بالفعل قبل انتخاب رئيسي. بعبارةٍ أخرى، فتحت المؤسسة الإيرانية التي يقودها خامنئي الطريق أمام فوز رئيسي في الانتخابات بتأييده علناً في محاولةٍ لإنهاء الانقسام بين المرشد الأعلى والرئاسة.
وتشير الهجمات الانتقامية الإيرانية ضد إسرائيل في الخليج إلى طبيعة العصر الجديد بين طهران والعواصم الغربية. وتحدِّد انتقادات خامنئي لسلوك روحاني خلال محادثات الاتفاق النووي، وموقف إيران المتصلِّب من برنامج إيران للصواريخ الباليستية، والسياسة الإقليمية في محادثات فيينا، خارطة طريق لإدارة رئيسي.
وكانت الحرب البحرية السرية بين إيران وإسرائيل قد خرجت للعلن بصورة خطيرة منذ انتخاب رئيسي، وتناولت مجلة Foreign Policy الأمريكية قصة تلك في تقرير لها بعنوان "نطاق الحرب البحرية بين إيران وإسرائيل يتسع".
وبعد تبنيه خارطة الطريق هذه، تعهَّد رئيسي، في احتفالٍ أُقيمَ في 3 أغسطس/آب في طهران، بـ"رفع العقوبات القاسية". ومع ذلك، ربما لا تزال طهران تلجأ إلى "المرونة المُشرِّفة" في مفاوضاتها مع الغرب بشأن الاتفاق النووي. وقد بدأت المفاوضات في فيينا، في المقام الأول، بمباركة خامنئي. ويبدو أن إيران لا تزال تأمل في الحصول على نتائج من هذه المحادثات، ولكن دون تقديم تنازلات.
كيف ينعكس ذلك على العلاقات مع تركيا؟
ومع ذلك، قد يكون الانقسام المُحتَمَل في عملية فيينا بمثابة حافزٍ لتقدُّم العلاقات بين طهران وأنقرة، وإن كان من المُحتَمَل أن يقتصر التعاون على المجال الاقتصادي. وعلاوةً على ذلك، فإن النفوذ المتزايد للحرس الثوري الإيراني على الخيارات السياسية للبلاد قد يصعِّد الخلافات بين طهران وأنقرة بشأن سوريا والعراق. ويضطلع الحرس الثوري الإيراني بدورٍ رئيسي بالفعل في سياسة طهران تجاه سوريا والعراق.
ويمكن توضيح العلاقات الإيرانية التركية، التي شُكِّلَت منذ فترةٍ طويلةٍ وفقاً لمبدأ "المنافسة السلمية"، في ثلاث فئات كانت دائماً تشهد صعوداً وهبوطاً.
تتكوَّن الفئة الأولى من الأولويات الرئيسية، مثل الحفاظ على الاستقرار والأمن على طول الحدود المشتركة بين البلدين منذ عام 1639. ويندرج تحت هذه الفئة أيضاً الحفاظ على العلاقات التجارية والثقافية بين البلدين.
وكان التواصل الدائم بين المؤسسات الحكومية، وعلاقات حُسن الجوار، شعاراً رئيسياً للعلاقات كجزءٍ من هذه المبادئ. لطالما رفضت تركيا فرض عقوباتٍ على إيران، باستثناء عام 2019 في ظلِّ إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
ويمثِّل انعدام الأمن المُتبادَل الفئة الثانية التي شكَّلَت العلاقات بين أنقرة وطهران. ترى إيران أن محطة رادار الإنذار المبكِّر، والتي هي جزءٌ من نظام الدفاع الصاروخي لحلف الناتو في شمال شرق تركيا، وقاعدة إنجرليك الجوية بالقرب من الحدود السورية، يشكِّلان تهديداً لأمنها القومي. وكانت العلاقات الوثيقة بين تركيا وإسرائيل حتى عام 2010 مصدراً أيضاً لانعدام الأمن بين البلدين.
أما الخلافات والتنافس المنقاد بالقرارات السياسية، فتندرج ضمن الفئة الثالثة. يتصدَّر السعي وراء استراتيجيةٍ مشتركة ضد حزب العمال الكردستاني قائمة الخلافات على هذه الجبهة. ولطالما اتَّهَمَت تركيا طهران بلعب لعبةٍ مزدوجة ضد حزب العمال الكردستاني. وبالإضافة إلى ذلك، كانت أنقرة حتى وقتٍ قريب حذرةً من الجهود الإيرانية لتصدير النظام الإسلامي في تركيا. وبالمثل، انتقدت طهران أنقرة لمساهماتها في الحركة المناهضة للنظام في إيران من خلال إيرانيين من أصل أذربيجاني.
وتبرز منطقة جنوب القوقاز كمجالٍ آخر للتنافس، لا سيما بعد اشتباكات عام 2020 بين الجيشين الأذربيجاني والأرميني. تميل إيران إلى تفضيل أرمينيا ضد القوات الأذربيجانية المدعومة من تركيا. والخطط التركية لإقامة ممر يربط بين أذربيجان وتركيا عبر معبر ناخيتشيفان، تثير غضب الجانب الإيراني، لأن مثل هذا الممر سيتجاوز إيران كطريقٍ تجاري رئيسي بين تركيا وأذربيجان.
كما تصاعدت حدة التنافس بين إيران وتركيا على العراق بشكلٍ خاص بعد الغزو الأمريكي لبغداد عام 2003. وبينما وسَّعَت إيران موطئ قدمها في البلاد من خلال الجماعات الشيعية، حاولت تركيا مواجهة النفوذ الإيراني من خلال العرب السنة والتركمان.
علاوةً على ذلك، تعارض إيران العمليات العسكرية التركية في شماليّ العراق ضد المسلَّحين الأكراد. وأثارت خطط تركيا لشنِّ عمليةٍ ضد جيب سنجار اليزيدي في شماليّ العراق تحذيراتٍ شديدة اللهجة بشكلٍ غير معتادٍ من قبل من جانب إيران، حيث نشرت طهران وحدات الحشد الشعبي في المنطقة.
ويُعتَبَر الصراع على النفوذ في الشرق الأوسط، الذي اكتسب زخماً بعد الربيع العربي، مع تصاعد التنافس في سوريا ولبنان واليمن، من بين المجالات الخلافية الأخرى بين إيران وتركيا.
وتقوم تركيا حاليا ببناء جدران على حدودها مع إيران لمزيد من ضبط تلك الحدود، في ظل الأوضاع المضطربة في أفغانستان وحدوث حالات نزوح ضخمة من الأفغان مع عودة حركة طالبان للسيطرة على البلاد.
والأحد 15 أغسطس/آب، أكد الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان أن بلاده ستمنع دخول "الإرهابيين" إلى أراضيها وخروجهم منها بشكل كامل عبر الجدران التي تبنيها على الحدود الإيرانية.
جاء ذلك خلال اتصال هاتفي أجراه، الأحد، مع وزير الدفاع التركي الذي يجري جولة تفقدية برفقة قادة الجيش، على حدود بلاده مع إيران، وشدد أردوغان على أهمية الجدران التي تبنيها بلاده على حدودها، مبيناً أنها جدران الأمان بالنسبة لها.
وأشاد الرئيس التركي بدور الجيش التركي في حماية الحدود، كما أشاد بالوحدات التركية المنتشرة على الحدود الإيرانية، لدورها في تأمين الاستقرار والأمان في المنطقة.