يعيش قادة الجيش الأمريكي وفريق الأمن القومي لإدارة بايدن حالة من الصدمة سببها نجاح حركة طالبان المذهل في السيطرة على أفغانستان بتلك السرعة، مما يزيد من حدة الانتقادات للبنتاغون، صاحب أضخم ميزانية في العالم.
وكانت الولايات المتحدة قد غزت أفغانستان بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001 التي تبناها تنظيم القاعدة ورفضت حركة طالبان، التي كانت تحكم البلاد آنذاك، تسليم قائد التنظيم أسامة بن لادن ورفاقه؛ لمحاكمتهم في أمريكا.
وبعد عقدين كاملين من الغزو، قرر الرئيس جو بايدن الانسحاب من أفغانستان بنهاية أغسطس/آب الجاري. والآن تواصل حركة طالبان سيطرتها على الولايات الأفغانية بسرعة سببت ضجة داخل الإدارة الأمريكية وقيادات البنتاغون (وزارة الدفاع)، حسبما أفاد تقرير لموقع Axios الأمريكي.
ماذا حقق الجيش الأمريكي في أفغانستان؟
جاء الغزو الأمريكي لأفغانستان تحت ذريعة "الحرب على الإرهاب" التي شنتها إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن ووزير دفاعه وقتها دونالد رامسفيلد، وتزامنت تلك الحرب مع زيادات مطردة بميزانية البنتاغون، في إطار استراتيجية "القرن الأمريكي الجديد" التي تبنتها إدارة بوش الابن.
فقد ارتفعت ميزانية البنتاغون من نحو 300 مليار دولار أو أقل عام 2001 حتى وصلت إلى ما يقرب من 800 مليار دولار في العام الجاري 2021، دون إضافة أموال تطوير وصيانة الأسلحة النووية الاستراتيجية، حيث تمتلك الولايات المتحدة الترسانة النووية الأضخم على سطح الأرض.
وفي ظل هذه الميزانية الضخمة التي ترتفع بشكل مطرد سنوياً، ثارت تساؤلات، تحولت مع مرور الوقت إلى تشكيك معلن، داخل أروقة معاهد الأبحاث ووسائل الإعلام الأمريكية بشأن ما حققته "الحرب على الإرهاب".
فتزامناً مع الذكرى الـ19 لهجمات سبتمبر/أيلول التي أوقعت نحو 3000 قتيل، بحسب المصادر الأمريكية، أصدرت جامعة "براون" الأمريكية تقريراً بعنوان "خلق (أزمة) اللاجئين: النزوح الذي سببته حروب الولايات المتحدة بعد 11 سبتمبر".
التقرير رصد نتائج الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة حول العالم في إطار الحرب على الإرهاب، متوصلاً لنتائج، أبرزها نزوح ولجوء أكثر من 37 مليون شخص، وهو رقم متحفظ للغاية، بحسب التقرير نفسه.
تقرير الجامعة التي تتخذ من ولاية "رود آيلاند" مقراً لها، جاء فيه: "37 مليوناً هو تقدير متحفظ للغاية. إجمالي النازحين بسبب الولايات المتحدة بعد 11-9، قد يكون أقرب إلى 48-59 مليوناً"، وأضاف أنه "بين عامي 2010 و2019، تضاعف العدد الإجمالي للاجئين والنازحين داخلياً على مستوى العالم تقريباً من 41 مليوناً إلى 79.5 مليون".
أما بالنسبة لأفغانستان وحدها، فقد بلغت الفاتورة التي تكلفها ذلك الغزو "أكثر من تريليوني دولار أمريكي و240 ألف قتيل"، بحسب تقرير مجلة Militarytimes الأمريكية، الذي رصد تكلفة إرسال القوات الأمريكية إلى أفغانستان منذ عام 2001 وحتى نهاية 2020 وأعداد تلك القوات، إضافة إلى الأموال التي أنفقها البنتاغون والخارجية لإدارة الصراع وعلاج ومساعدة العسكريين الأمريكيين الذين أصيبوا هناك.
والآن ينسحب الجيش الأمريكي من أفغانستان على عَجل، تطارده توابع الفشل في تحقيق أي من الأهداف السياسية أو العسكرية، حيث تحقق حركة طالبان انتصارات سريعة ومتلاحقة فاجأت القادة والمسؤولين الأمريكيين، الذين باتوا الآن يتوقعون سيطرة الحركة على العاصمة الأفغانية كابول والإطاحة بالحكومة التي تدعمها واشنطن، خلال أقل من ثلاثة أشهر، بحسب تقرير Axios.
لماذا تراجعت قوة الجيش الأمريكي؟
صحيحٌ أن الجيش الأمريكي يتمتع بميزانية هائلة هي الأضخم على الإطلاق على وجه الكوكب، ويمتلك ترسانة نووية هي الأكبر والأكثر فتكاً، وأسطولاً ضخماً مدعّماً بحاملات الطائرات من الجيل الخامس، وأكثر من 80 قاعدة عسكرية منتشرة حول العالم، لكن هذا الجيش يبدو الأقوى على الورق فقط ويعاني من مشاكل كبيرة قد تقوده إلى هزائم ثقيلة، بحسب جون روسماندو الخبير والمحلل العسكري الأمريكي.
روسماندو نشر تقريراً على موقع مجلة The National Interest بعنوان "الجيش الأمريكي على خطى فرنسا في الأربعينيات"، تناول فيه أوجه التشابه بين وضع القوات المسلحة الأمريكية عام 2021 والجيش الفرنسي عام 1940.
واعتبر روسماندو أن بداية التدهور في قوة الجيش الأمريكي ترجع إلى بداية إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما، عندما قام الرئيس بطرد 197 جنرالاً من قادة البنتاغون المخضرمين وأصحاب الخبرة، بسبب الخلاف في الرأي، وهو ما قال الخبير العسكري إنها خطوة أدت إلى "تسييس البنتاغون" وإفقاده القدرة على اتباع التقاليد العسكرية المعروفة للحفاظ على قوة الجيوش.
لكن خبراء عسكريين آخرين يرجعون بداية ذلك التدهور في صفوف الجيش الأمريكي إلى رئاسة جورج بوش الابن وبداية "الحرب على الإرهاب" التي شملت غزو أفغانستان وبعدها غزو العراق، بسبب الجدل الكبير الذي صاحب تلك القرارات وغياب الرؤية الواضحة والأهداف القابلة للتحقيق من وراء تلك الحروب التي تحولت إلى كوابيس بالنسبة لواشنطن وليس فقط للدول التي تعرضت للغزو.
ويقول روسماندو في تحليله، إن "أمريكا الآن أصبحت ما كانت عليه فرنسا عام 1940، نمر من ورق تقوده البيروقراطية التي تفتقد أي استراتيجية تعتبر حتمية لهزيمة أي عدو خارجي تواجهه البلاد"، مضيفاً أن الجيش الأمريكي الآن أصبح مسيساً بصورة ثقيلة على منوال الجيش الفرنسي عام 1940 عندما تعرض لهزيمة ساحقة أمام القوات النازية.
واستشهد روسماندو في تحليله، بتقرير صادر عن المعهد البحري الأمريكي عام 2006، وصف البحرية الأمريكية بأنها "منظمة بيروقراطية تشارك بعض فرقها في الحروب أحياناً. وتعرقل المتطلبات البيروقراطية، التي تكبل أيدي قادة السفن الحربية، العمل بشكل احترافي وتطوير المهارات وذهنية الجنود والضباط بغرض إعدادهم للقتال على نحو متناسب مع ما قد يوكل إليهم من مهام".
والعام الماضي، اشتكى المجلس الأطلسي من أن الروتين المرتبط بقاعدة التصنيع العسكري والابتكار الفني من جهة ورفض البنتاغون التعامل مع تلك المشاكل لتذليلها من جهة أخرى، قد عطّل تطوير الجيش الأمريكي بالسرعة والكفاءة اللازمتين.
كيف كانت فرنسا عام 1940؟
ويعقد روسماندو، في تحليله لأوجه الشبه الصارخ، من وجهة نظره، مقارنة بين ما وصل إليه الجيش الأمريكي في عام 2021 وما كانت عليه الجيوش الفرنسية عام 1940، إذ يقول: "كان للبلاد (فرنسا) أقوى جيش في أوروبا على الورق، وبالتالي عندما تعرض ذلك الجيش لهزيمة ساحقة أمام ألمانيا النازية في يونيو/حزيران 1940، مثّل ذلك صدمة للعالم أجمع.
فقد كانت فرنسا في ذلك الوقت إمبراطورية استعمارية ممتدة عبر أركان الكرة الأرضية من إفريقيا إلى جنوب شرقي آسيا وأمريكا الجنوبية والكاريبي والمحيط الهادئ، وبالتالي كانت تمتلك أقوى جيش أوروبي من الناحية النظرية".
ويرى الخبير العسكري أن قادة الجيوش الفرنسية في ذلك الوقت كانوا لا يزالون يعيشون في أجواء الحرب العالمية الأولى، التي انتصروا فيها، وهو ما يشبه الوضع الحالي في صفوف قادة البنتاغون، الذين يعيشون في ظل استراتيجيات القرن العشرين وتكتيكاته العسكرية.
وقد أدت تلك البيروقراطية والتسييس لعمل الجيوش والانقسام الناتج عن ذلك إلى أربع سنوات كاملة من "الاستفزازات النازية"، بداية من قيام أدولف هتلر عام 1936 بتسليح الجيش النازي منتهكاً الاتفاقية التي أنهت الحرب العالمية الأولى وفرضت عدم التسليح على ألمانيا، ثم غزو النمسا وتشيكوسلوفاكيا عام 1938 وبولندا عام 1939 ثم فرنسا عام 1940.
ويضيف روسماندو أن هتلر استغرق 4 سنوات من التصرفات الاستفزازية، التي لم يحرك الفرنسيون ساكناً بشأنها، وصولاً إلى غزو فرنسا نفسها، بينما تشير بعض التقديرات الآن إلى أن الصين ربما تقْدم على غزو تايوان بالفعل خلال أربع سنوات.
وتلك الإشارة إلى الصين تأتي بالطبع في معرض الصراع بين واشنطن وبكين الآن، والذي أصبح مفتوحاً ومعلناً خلال السنوات القليلة الماضية، ويحذّر أغلب الخبراء العسكريين من أن أي مواجهة عسكرية بين الجيشين الأمريكي والصيني قد لا تنتهي في صالح الأمريكيين، رغم التفوق- نظرياً- من حيث قوة النيران النووية والتقليدية.
وكان سلاح الجو الأمريكي قد أجرى قبل سنوات، محاكاة لمواجهة عسكرية بين القوات الأمريكية والصينية أظهرت تعرض الأمريكيين لخسارة فادحة، ولم يتم نشر ملخص تلك المحاكاة إلا قبل أشهر قليلة، في ظل تنامي تحذيرات خبراء ومحللين عسكريين وأمنيين من أنه إذا لم تواكب واشنطن التنامي الصاروخي لقوة بكين العسكرية، فإن التفوق الأمريكي العسكري ربما يكون قد اقترب من نهايته.