أكثر من نصف مر قرن على تصنيع أسرع طائرة في العالم ومازالت تحتفظ بهذا اللقب دون منازع.
فأثناء الحرب الباردة، كان بإمكان الطائرة الأمريكية SR-71 أن تطير أعلى وأسرع من أي طائرةٍ أخرى- ولا تزال محتفظةً بمكانتها بعد 55 عاماً من رحلتها الأولى.
إذ كانت طائرة SR-71، التي صمّمتها شركة لوكهيد سراً أواخر الخمسينيات، قادرةً على التحليق قرب حافة الفضاء والطيران بسرعةٍ تفوق الصاروخ. وحتى يومنا هذا، لا تزال محتفظةً بالرقم القياسي لأعلى ارتفاعٍ في الطيران الأفقي وأقصى سرعة بلغتها طائرة بدون محركات صاروخية، حسبما ورد في تقرير لشبكة CNN الأمريكية.
كانت الطائرة فرداً في عائلةٍ من طائرات التجسس المصممة للتسلّل إلى أراضي العدو دون إسقاطها أو رصدها، في وقتٍ سبق ابتكار الأقمار الصناعية والطائرات المُسيّرة.
وقد اكتسبت لقب "الطائر الأسود" بفضل طلائها الأسود المُصمّم لتبديد الحرارة، إلى جانب الخطوط الأنيقة لجسم الطائرة الطوي؛ مما منحها مظهراً مختلفاً عن أي طائرةٍ سبقتها- وهو التصميم الذي لم يفقد بريقه حتى اليوم.
أسرع طائرة في العالم تعمل لصالح الاستخبارات المركزية الأمريكية
قال بيتر ميرلين، مؤرّخ الطيران: "كانت وكالة الاستخبارات المركزية تُريد طائرةً لديها القدرة على التحليق فوق ارتفاع يصل إلى 27 ألف متر تقريباً، وبسرعات عالية يصعب على الرادار رصدها".
وقد وقعت مهمة تصميم هذا المشروع الطموح على عاتق كلارنس كيلي جونسون، أحد أعظم مصممي الطائرات في التاريخ، وفريقه السري من المهندسين في شركة لوكهيد: "كان يجب ابتكار كل شيءٍ من الصفر. كل شيء للوصول إلى أسرع طائرة في العالم".
وأُطلِقَ على الطائرة الأصلية من عائلة الطائر الأسود اسم: A-12، وقامت برحلتها الأولى في 30 أبريل/نيسان عام 1962. وإجمالاً، تم إنتاج 13 طائرة A-12، وكانت جزءاً من مشروعٍ شديد السرية تُديره وكالة الاستخبارات المركزية، وفقاً تقرير لشبكة CNN
جسم الطائرة SR-71 صُنع من التيتانيوم الذي يكاد الروس يحتكرونه
نظراً لتصميم الطائرة من أجل التحليق بسرعةٍ تتجاوز الـ3.218 كم/ساعة، فإنّ الاحتكاك بالبيئة المحيطة سيرفع حرارة جسم الطائرة لدرجة ستُؤدي لانصهار الهيكل المصنوع من مواد تقليدية. لذا صُنِعَت الطائرة من التيتانيوم، وهو المعدن الذي يمكنه تحمّل درجات الحرارة المرتفعة ويُعتبر أخف من الفولاذ في الوقت ذاته.
لكن استخدام التيتانيوم تسبب في مشكلات أخرى. فأولاً، كان يجب تصميم مجموعة أدوات جديدة بالكامل من التيتانيوم. وثانياً، كان من الصعب الحصول على المعدن نفسه. إذ قال ميرلين: "كان الاتحاد السوفييتي وقتها أكبر مورد للتيتانيوم في العالم. لذا اضطرت الحكومة الأمريكية لشراء كميات كبيرة من التيتانيوم عبر شركات وهمية".
وحلّقت الطائرة الأولى دون طلاء على الإطلاق، مستعرضةً جسمها من التيتانيوم باللون الفضي. وتم طلاء الطائرات بالأسود عام 1964، بعد إدراك أنّ الطلاء الأسود سيساعد في خفض درجة حرارة الطائرة بالكامل. ومن هنا وُلِد اسم "الطائر الأسود".
تطوّر طراز A-12 سريعاً إلى نسخةٍ مصممة لتكون طائرةً مقاتلة اعتراضية، بدلاً من طائرة تجسس. وكان ذلك يعني فعلياً إضافة صواريخ جو جو، وقمرة قيادة ثانية من أجل فرد طاقم مختص بإدارة معدات الرادار الأساسية. وأُطلِقَ على هذه الطائرة الجديدة اسم الطراز YF-12، وكانت تُشبه الطراز الأصلي في كل شيءٍ تقريباً.
أما الطراز الأخير من A-12 فكان يضم قمرة قيادة مزدوجة مع خزان وقود أكبر، وكان يحمل اسم الطراز SR-71 "للاستطلاع الاستراتيجي". وقد حلّقت في رحلتها الأولى يوم 22 ديسمبر/كانون الأول عام 1964. وهذا هو الطراز الذي استمر في تأدية المهام الاستخباراتية للقوات الجوية الأمريكية طيلة 30 عاماً، وصُنِع منه 32 نسخة، ليصل إجمالي طائرات عائلة "الطائر الأسود" إلى 50 طائرة.
أول الخصائص الشبحية
لم تكن SR-71 أسرع طائرة في العالم فقط بل يمكن اعتبارها أول طائرة ذات خصائص شبحية.
تضمّن جسم الطائرة SR-71 مجموعة من المواد المركبة التي استُخدمت للمرة الأولى على الإطلاق في طائرة؛ مما زاد صعوبة رصدها على رادارات العدو: "لقد كانت طائرةً شبح قبل أن يظهر حتى مفهوم الطائرة الشبح".
وبات بإمكان الطائر الأسود دخول المجال الجوي للأعداء دون خوف، بتحليقها على ارتفاعات يصعب على مضادات الطائرات بلوغها، وبسرعات تسبق أي صاروخ، وبقدرتها على أن تكون خفيةً عن أجهزة الرادار.
ونتيجةً لذلك، لم يُسقط الأعداء أي طائرةٍ من عائلة الطائر الأسود مطلقاً.
لماذا تقاعدت؟
رغم احتفاظها بلقب أسرع طائرة في العالم، لكن اعتمادية الطائرة الأمريكية SR-71 كانت تُمثّل مشكلة، حيث فُقِدَت 12 من أصل 32 طائرة في الحوادث. كما كانت طائرةً معقدة في تشغيلها وطيرانها. حيث أوضح ميرلين: "كان تجهيز الطائرة يحتاج جيشاً من الناس. وكان تحليقها في مهمةٍ تشغيلية يحتاج إلى عدٍّ تنازلي، مثل مهمات الفضاء، وذلك نظراً لكم التجهيزات الكبير الذي يتطلّبه الطاقم والطائرة- مع كمٍّ أكبر من الجهد والقوة البشرية".
كما كان يتعيّن على الطيارين أيضاً ارتداء ملابس خاصة، نظراً للظروف القاسية على الارتفاعات العالية. إذ قال ميرلين: "كانوا يرتدون بذلة فضاء في الواقع، فهي نفس البذلات التي رأينا رواد مكوك الفضاء يرتدونها لاحقاً. كما كانت درجة حرارة قمرة القيادة ترتفع بشدة عند التحليق بسرعات عالية، لدرجة أن الطيارين كانوا يسخنون وجباتهم في الرحلات الطويلة عن طريق تقريبها من زجاج القمرة".
ورغم كونها أسرع طائرة في العالم، لم تُحلّق أي طائرة من عائلة الطائر الأسود فوق المجال الجوي السوفييتي، لكنها لعبت دوراً مهماً للغاية في الحرب الباردة، ونفذت مهمات على العديد من المسارح الحيوية في الشرق الأوسط وفيتنام وكوريا الشمالية، حسب تقرير الشبكة الأمريكية.
وفي عام 1976، سجّلت SR-71 الرقم القياسي الذي ما تزال تحتفظ به حتى يومنا هذا: التحليق المستمر على ارتفاع 25.929 متراً، والوصول إلى سرعةٍ قصوى هي 3.529.6 كم/ساعة أو 3.3 ماخ. لكن البرنامج توقف عام 1990 حين صارت التقنيات الحديثة- مثل التجسس بالأقمار الصناعية والمركبات المسيرة- متوافرةً بسهولةٍ أكبر وتُوفّر وصولاً فورياً للمعلومات الاستخباراتية.
وحلّقت SR-71 للمرة الأخيرة بواسطة وكالة ناسا عام 1999، حيث استخدمت طائرتين في أبحاث سرعة وارتفاع الطيران. ومنذ ذلك الحين، انتقلت كافة الطائرات المتبقية إلى المتاحف.