هل أدت المصالحات مع بقايا النظام السابق في تونس بعد الثورة إلى إبقاء أدوات القمع متأهبة للعودة؟

عربي بوست
  • ترجمة
تم النشر: 2021/08/08 الساعة 16:24 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/08/08 الساعة 18:21 بتوقيت غرينتش
الرئيس التونسي الراخل الباجي قايد السبسي /رويترز

النكسة التي تشهدها الديمقراطية التونسية ليست نابعة من فراغ، بل من سلسلة من الأخطاء التي وقعت منذ قيام الثورة التونسية.

تقرير لموقع The Conversation الأسترالي عرض لسلسلة من الأخطاء التي أدت إلى تدهور وضع الديمقراطية التونسية.

وبعد معاناة منذ قيام الثورة، أظهرت مؤشرات الاقتصاد التونسي تعافياً خلال السنوات الماضية، ولكن جاءت جائحة كورونا لتبدد هذه المكاسب المحدودة، وتطيح باحتمالات انتعاش الاقتصاد بعد سنوات من الأزمة التي تبدو طبيعية بعد الثورة.

الديمقراطية التونسية تبدو استثناء في المنطقة

بعد عشر سنوات من الانتفاضات العربية، كان الغالبُ تقديمَ تونس على أنها قصة نجاح نادرة في غمار محيطها الإقليمي. 

ففي الدول المجاورة، وقعت مصر تحت وطأة ديكتاتورية عسكرية، وغرقت سوريا وليبيا واليمن في مستنقعات الحرب الأهلية الدامية. 

وفي غضون ذلك، قُمعت احتجاجات البحرين بشراسة، وتدافعت الأنظمة القديمة متسلحةً بعدتها وعتادها لمواجهة أي محاولة للتغيير.

الرئيس التونسي الراخل الباجي قايد السبسي خلال مؤتمر لخركة النهضة/رويترز

في تونس، أطاحت الاحتجاجات بنظام زين العابدين بن علي الفاسد. ودعت حكومة مؤقتة إلى إجراء انتخابات، وسُمح للأحزاب المحظورة سابقاً، مثل حركة النهضة الإسلامية، بإجراء حملاتها الانتخابية وأخذ مكان لنفسها في التيار السياسي العام. وصيغ دستور جديد وبدا أن البلاد على الطريق الصحيح لبلوغ الديمقراطية.

لهذه الأسباب وغيرها، ساد ذعر دولي واسع النطاق، مساء يوم 25 يوليو/تموز، عندما أعلن الرئيس التونسي قيس سعيد إقالة رئيس الوزراء هشام المشيشي وتجميد أنشطة البرلمان وإلغاء حصانة أعضائه. ولكي يمنح لنفسه غطاءً ما، زعم أنه يستند إلى المادة 80 من الدستور التونسي والتي تسمح للرئيس باتخاذ تدابير طارئة في حالات الخطر الداهم على البلاد.

أخطاء اعتبرها المراقبون نجاحات

أبدى العديد من الخبراء قلقهم من أن ما بدا انتقالاً إيجابياً نحو الديمقراطية بات الآن مهدداً بالانهيار. وفي المقابل، دفع بعض محللي السياسة الخارجية بأن التونسيين ربما "لم يرغبوا قط في الديمقراطية من الأساس".

ينطوي كلا الموقفين على نظرة مختزلة للتطورات السياسية التي شهدتها تونس خلال السنوات العشر الماضية. فما يحدث الآن ليس انحرافاً مفاجئاً عن عملية تحولٍ ديمقراطية خطية. كما لا يمكننا ببساطة أن نستنتج من الأحداث الجارية أن الديمقراطية التونسية كان "محكوماً عليها بالفشل" طوال الوقت.

أبدى الخبير الاقتصادي برانكو ميلانوفيتش في تغريدات على موقع تويتر انتقادَه لكونِ علماء السياسة "بعد عشر سنوات من الإشادة بالديمقراطية في تونس، لم يعد لديهم ما يقولونه فجأة".

لكن الحقيقة أن الأمر معقد. فما أشاد به المراقبون على مدى السنوات العشر الماضية- وما افتخر به التونسيون- متشابك مع قضايا أثارت انتقادات جمة لدى كل من المعنيين بشؤون تونس والمحتجِّين داخلها.

اتسم العقد الماضي بغلبة النضالات السياسية والاجتماعية داخل وخارج المؤسسات السياسية التونسية. غير أن التمايزات ليست محسومة حتى الآن. وقد تمكَّنت تونس من تنظيم عمليةِ انتقال سلمية للسلطة وثلاثة انتخابات حرة ونزيهة لكل من الرئاسة والبرلمان، والتي أعقبتها في كثير من الأحيان مفاوضات مضنية حول تشكيل حكومة على أساس نتائج تلك الانتخابات. كما بدأت الدولة في الاشتباك مع ماضيها القمعي من خلال عملية طموحة لإنجاز العدالة الانتقالية.

لكن الحق أن الانتهاء من وضع دستور 2014 انطوى على إشكالية كبيرة. فقد دفعت الرغبة في تجاوز الجمود الذي هيمن على عملية صياغة الدستور إلى إنشاء آلية لحل النزاعات: هي الحوار الوطني 2013. وقد نالت هذه الآلية إشادة دولية واسعة النطاق وفاز القائمون عليها، وهي أربع منظمات مجتمع مدني تونسية بجائزة نوبل للسلام لعام 2015 "لإسهامهم الحاسم في بناء ديمقراطية تعددية في تونس".

1- تقارب بين حزب النهضة وحزب يضم بقايا النظام القديم

شارك في هذا الحوار أعضاء من الأحزاب الممثلة في المجلس الوطني التأسيسي، لكن كان لكل حزب نفس العدد من المشاركين، بدلاً من أن يكون التمثيل على أساس عدد مقاعدهم في المجلس. وخارج البرلمان، تفاوض السياسيون المشاركون على حلول وسط بشأن الخطوط العامة للصراع السياسي؛ سعياً إلى إعادة العملية الدستورية إلى مسارها الصحيح. كما أدى التفاوض إلى نوعٍ من التقارب بين حزب النهضة وحزب نداء تونس، وهو حزب ضم عديداً من المنتمين إلى "النظام القديم".

الديمقراطية التونسية
الرئيس التونسي قيس سعيد/رويترز

ومع أن الانتهاء من وضع الدستور كان علامة فارقة في التطور الديمقراطي في تونس، لفت عديد من المتابعين للشأن التونسي في ذلك الوقت إلى أن آلية حل النزاع مهدت الطريق لاتخاذ القرارات السياسية عن طريق صفقات تُعقد بين النخب. ومع ما أدَّت إليه تلك الآلية من مصالحة بين الفصائل السياسة المتنازعة، فإنها ارتفقت بنوعٍ من التخلي عن الاهتمام السابق بتفكيك "النظام"- أي الهياكل السياسية والاقتصادية ومقيِّدات منظومة العدالة التي أمكنت للحكم القمعي هيمنته في السابق- تفكيكاً على مستويات أعمق وأبلغ تأثيراً.

2- هيكل النظام استمر

وأشار العديد من السياسيين من مختلف الأحزاب وممثلون عن منظمات المجتمع المدني ومنظمات دولية ومنظمات غير حكومية مراراً إلى أن رحيل بن علي كان مضمونه فقط أن "رئيس النظام الفاسد" قد غادر البلاد، إلا أن هياكل النظام الأشد تجذراً والأعمق تأثيراً كانت لا تزال قائمة.

وهكذا، أصبح عقد الصفقات السياسية هو النظام السائد اليوم وقلَّ الاهتمام بالضغط من أجل العدالة الانتقالية والمحاسبة. 

3- لا إصلاحات جذرية في الأمن

وأشار كثير من الناس إلى أن الإصلاحات التي كانت البلاد في أمسِّ الحاجة إليها في قطاعي العدالة والأمن كان الالتفات إليها سطحياً وليس منهجياً. 

وزاد على ذلك، أن عنف الشرطة كان لا يزال مشكلة قائمة، ما فاقم الشعور بأن هناك حاجة ماسة إلى مزيد من الإصلاحات الهيكلية.

4- صفقات مستمرة

مهَّدت الثورة الطريقَ لبعض الفاعلين الذين لطالما استُبعدوا سابقاً للوصول إلى مناصب سياسية بارزة، مثل حزب النهضة الذي تعرض للاضطهاد في العهود السابقة، لكنه أصبح أقوى أو ثاني أقوى حزب في البرلمان.

لكن بدلاً من العمل على تفكيك الهياكل القمعية والعمل من أجل نظام سياسي أكثر استيعاباً لمختلف التيارات السياسية وإصلاح المؤسسات، لجأت النهضة إلى إبرام صفقات مع سياسيين من "النظام القديم" وعمدت إلى ملء المؤسسات بموظفين تابعين لها؛ وهو ما أدى إلى إدامة الانطباع باستمرار طبقة سياسية تتفشى فيها المحسوبية والفساد. 

وعلى المنوال ذاته، نُظر إلى دعم حزب النهضة متفاوت الوتيرة لإجراءات العدالة الانتقالية على أنه محاولة لتوجيه مخصصاتها المالية إلى ناخبيها عن طريق التعويضات.

5- كورونا والإضرابات الفئوية

هناك عوامل لا تقل أهمية في تدهور الاقتصاد التونسي، من بينها الأزمات السياسية وكورونا وتراجع السياحة تحديداً، ولكن أحد العوامل التي لا يتم التركيز عليها هي كثرة الإضرابات الفئوية، التي لم تؤدِ فقط إلى تخويف رأس المال الأجنبي من القدوم إلى البلاد، ولكن أيضاً أدت إلى إضعاف أداء مؤسسات البلاد، سواء خاصة أو عامة.

وفي كثير من الأحيان شجع الاتحاد العام التونسي للشغل على هذه الإضرابات.

على خلفية الأداء الاقتصادي السيئ والوضع الصحي الكارثي في مواجهة كورونا، تصاعدت حالة من الغضب العام واندلعت الاحتجاجات التي برَّر بها قيس سعيد استئثاره بالسلطة.

6- الفشل في الاتفاق على إنشاء المحكمة الدستورية

ومن جهة أخرى، يُبرِز الفشل في إنشاء محكمة دستورية- رغم أنه كان يُفترض تشكيلها بحلول عام 2015- مدى العوار اللاحق بمنطق الصفقات الذي لجأت إليه النخبة السياسية. إذ لم يتمكن البرلمان من الاتفاق على قضاة المحكمة. وبموجب الدستور، كان يُفترض أن تكون المحكمة الدستورية هي المنوط بها اتخاذ قرار حاسم بشأن إنهاء أو استمرار حالة الطوارئ.

لذلك، وفي غياب هذه المحكمة، يبقى من غير الواضح متى وكيف سيعود "السير العادي لدواليب الدولة وخدماتها" كما تنص المادة 80 من الدستور. لكن الواضح بلا شك أن الحل لضمان عودة الديمقراطية في تونس لا يكمن فقط في تعيين حكومة جديدة، بل العمل منهجياً على إصلاح الهياكل القمعية وتمكين أنظمة العدالة الاجتماعية وآليات المساءلة والمحاسبة للفاسدين.

تحميل المزيد