مر عام كامل على الانفجار الكارثي في مرفأ بيروت الذي قتل وأصاب الآلاف من اللبنانيين، ولا يزال أهالي الضحايا ينتظرون العدالة الغائبة في بلد على شفا الانهيار الاقتصادي، بينما زعماؤه السياسيون لم يشكلوا حكومة بعد، رغم الكارثة المروعة.
كانت العاصمة اللبنانية قد تعرّضت لواحد من أسوأ الانفجارات غير النووية في التاريخ، يوم 4 أغسطس/آب العام الماضي، عندما اندلع انفجار هائل في مرفأ بيروت، أدى إلى مقتل أكثر من 200 شخص وإصابة نحو 6 الآف آخرين ودمر أحياء بأكملها، في كارثة توقع الكثيرون أن تؤدي إلى إحداث تغييرات جذرية في النظام السياسي في البلاد، وسط تعالي المطالبات بإجراء تحقيق دولي لكشف المتسببين في الكارثة ومحاسبتهم.
لكن مع حلول الذكرى الأولى لانفجار المرفأ، لم يكتمل التحقيق في الكارثة، وتم تغيير قاضي التحقيق واستبداله بآخر، ربما يتم استبداله أيضاً، ولا تزال حكومة حسان دياب التي استقالت في أعقاب الانفجار تُواصل عملها كحكومة تصريف أعمال، بعد أن فشل رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري في مهمته، واليوم أعلن نجيب ميقاتي، المكلف خلفاً للحريري، أنه لن يتمكن من تشكيل الحكومة قريباً.
عرقلة التحقيق في تفجير المرفأ
كانت منظمة العفو الدولية، وهي منظمة غير حكومية مقرها لندن، ويتركز عملها حول قضايا حقوق الإنسان، قد أصدرت بياناً في اليوم التالي لتفجير مرفأ بيروت، دعت فيه إلى إنشاء آلية دولية "على الفور" للتحقيق في كيفية حدوث الانفجار.
والطلب ذاته صدر أيضاً عن أربعة رؤساء حكومة سابقين في لبنان، هم سعد الحريري وفؤاد السنيورة ونجيب ميقاتي وتمام سلام، إذ أصدروا بياناً مشتركاً يدعو إلى تشكيل لجنة تحقيق دولية أو عربية، لتحديد أسباب الانفجار.
لكن نائب رئيس مجلس النواب اللبناني، إيلي الفرزلي، ردَّ سريعاً وقتها بالقول إن المطالبة بتحقيق دولي في انفجار مرفأ بيروت "تعني إلغاء الدولة اللبنانية"، بينما أعلنت حكومة حسان دياب عن إجراء تحقيق يستغرق خمسة أيام.
وبعد مرور عام كامل على الكارثة، أصدرت منظمة العفو الدولية تقريراً بعنوان "بعد عام من انفجار بيروت السلطات تعرقل العدالة دون خجل"، رصدت فيه كيف ظل المسؤولون اللبنانيون على موقفهم الرافض لاستكمال جهات التحقيق عملها، من خلال التمترس وراء الحصانة بكل أنواعها، بينما أهالي الضحايا يعانون في انتظار تحقيق العدالة.
وفي نفس السياق، خلص تقرير أصدرته منظمة هيومن رايتس ووتش، الثلاثاء 3 أغسطس/آب 2021، إلى وجود أدلة قوية تشير إلى أن بعض المسؤولين اللبنانيين علموا وقبلوا ضمنياً بالمخاطر التي تشكلها مادة نترات الأمونيوم التي كانت مخزنة في مرفأ بيروت قبل الانفجار المروع.
ويقع تقرير المنظمة الدولية، الذي اطلعت عليه رويترز، في أكثر من 700 صفحة ويشمل نتائج ووثائق. وخلص إلى أن هناك أدلة على أن عدداً من المسؤولين اللبنانيين ارتكبوا جريمة الإهمال الجنائي بموجب القانون اللبناني.
واستند تقرير المنظمة إلى وثائق رسمية ومقابلات مع مسؤولين كبار منهم رئيس البلاد ميشال عون ورئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب ومدير الأمن العام اللواء طوني صليبا، وتتبع التحقيق أحداثاً ترجع إلى عام 2014 وما بعده في أعقاب جلب الشحنة إلى مرفأ بيروت، كما رصد تحذيرات متعاقبة بشأن خطورة هذه الشحنة إلى عدة جهات رسمية.
وجاء في التقرير "تشير الأدلة بقوة إلى أن بعض مسؤولي الحكومة توقعوا الموت الذي قد ينجم عن وجود نترات الأمونيوم في المرفأ، وقبلوا ضمنياً باحتمال حدوث وفيات".
هذا ما حدث في تحقيقات الانفجار الكارثي
والآن، بينما تتعمق جراح أهالي الضحايا أكثر ومعاناتهم تكبر يوماً بعد آخر، يتحدث حقوقيون عن ضغوط وتدخلات سياسية تعرقل مسار العدالة، الذي تتابعه "نقابة المحامين" في بيروت، التي تتولى الدفاع عن حقوق المتضررين وأهالي الضحايا، عبر مكتب الادعاء التابع لها، بحسب تقرير للأناضول.
كما أن أنظار النشطاء والحقوقيين في البلاد ومن بينهم "المفكرة القانونية" (منظمة غير حكومية) مسلطة على تلك التحقيقات، لرصد أي محاولة لعرقلتها أو حرفها. وكان النائب العام القاضي غسّان عويدات قد بدأ التحقيقات الأولية في التفجير في اليوم التالي مباشرة، أي 5 أغسطس/آب من العام الماضي.
6 أغسطس: الرئيس عون يطلب من نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي زار بيروت وقتها، تزويد لبنان بصور الأقمار الصناعية الفرنسية للحظة الانفجار في المرفأ للمساعدة بالتحقيق. 9 أغسطس: السفير الفرنسي (السابق) لدى لبنان برونو فوشيه يعلن أن بلاده تشارك في التحقيقات الجارية. 13 أغسطس: مجلس القضاء الأعلى يعيّن القاضي فادي صوّان محققاً عدلياً في القضية.
وأعلن وكيل وزارة الخارجية الأمريكية للشؤون السياسية ديفيد هيل في نفس اليوم من بيروت أن مكتب التحقيقات الاتحادي سينضم قريباً إلى المحققين اللبنانيين والأجانب.
14 أغسطس: النائب العام يحيل ملف التحقيقات إلى المحقق العدلي القاضي فادي صوان، ويدعي على 25 شخصاً بجرائم "إدخال متفجرات إلى لبنان، والعمل الإرهابي، وإساءة استعمال السلطة، وإهمال الواجبات الوظيفية"، وغيرها.
17 أغسطس ـ 1 سبتمبر/أيلول: المحقق العدلي يصدر مذكرات توقيف بحق 25 شخصاً على ذمة التحقيق، بينهم 4 ضباط من أجهزة أمنية عدة، إضافة إلى إداريين وعمال في المرفأ، فضلاً عن مذكرات غيابية بحق 3 آخرين.
21 أكتوبر/تشرين الأول: حسان دياب يعلن أنه طلب من فرنسا وإيطاليا صور الأقمار الصناعية للمرفأ "قبل الانفجار وخلاله وبعده"، قائلاً: "كان يجب أن يزودونا بها، ولكن هذا لم يحصل ولا أعلم لماذا".
بداية الحديث عن عرقلة العدالة
7 نوفمبر/تشرين الثاني: مكتب الادّعاء في نقابة المحامين في بيروت يعلن وجود "عوائق كثيرة" أمام التحقيق وعدم شموله كبار المسؤولين. 3 ديسمبر/كانون الأول: مسؤول في الرئاسة الفرنسية يقول إن باريس سلّمت السلطات اللبنانية صور الأقمار الاصطناعية التي ترصد موقع المرفأ قبل الانفجار.
10 ديسمبر: القاضي صوان يطلب استجواب دياب، ووزيري الأشغال العامّة السابقين غازي زعيتر ويوسف فنيانوس، ووزير المال السابق علي حسن خليل بصفة مدّعى عليهم. 16 ديسمبر: الوزيران السابقان زعيتر وخليل (نائبان حاليان) يطلبان من محكمة التمييز نقل القضية من القاضي صوّان للارتياب المشروع.
18 فبراير/شباط 2021: محكمة التمييز الجزائية تقرّر كف يد القاضي صوّان عن القضية ونقلها إلى محقق عدلي آخر بسبب الشك في حياديّته، لقوله إنه "لن يتوقف أمام أي حصانات"، ولأنّ منزله تضرّر في التفجير.
19 فبراير/شباط: وزيرة العدل ماري كلود نجم تعيّن القاضي طارق البيطار محقّقاً عدلياً جديداً بعد موافقة مجلس القضاء الأعلى خلفاً للقاضي صوان. 22 مارس/آذار ـ 15 أبريل/نيسان: البيطار يعيد استجواب جميع الموقوفين الـ25 (إداريين وعمال وضباط) ويخلي سبيل 6 منهم، ثم 2 لاحقاً (في يوليو/تموز)، ويستمع إلى مزيد من الشهود.
4 مايو/أيار: المحقق العدلي يقدم 13 مذكرة قضائية إلى دول تملك أقماراً صناعية فوق لبنان، طالباً منها تزويده بصور لموقع المرفأ (لم يُعلن ما إذا كانت وصلته أجوبة كاملة أم لا). 2 يوليو/تموز: المحقق العدلي يقرر المباشرة بملاحقة 10 من كبار المسؤولين والضباط الأمنيين، ويطلب رفع الحصانات النيابية والوظيفية والنقابية عنهم.
حينها، طلب المحقق رفع الحصانة البرلمانية عن 3 وزراء سابقين (من النواب الحاليين) للتحقيق معهم في القضية، وأعلن عزمه استجواب دياب. كما طلب الإذن من وزارة الداخلية للتحقيق مع مدير الأمن العام اللواء عباس إبراهيم، ومن رئاسة الحكومة للتحقيق مع مدير جهاز أمن الدولة اللواء طوني صليبا، بالإضافة إلى قائد الجيش السابق جان قهوجي، و3 ضباط سابقين.
9 يوليو: نائب رئيس مجلس النواب إيلي الفرزلي يطلب من المحقق العدلي مزيداً من الأدلة والمستندات قبل البت بطلب رفع الحصانات عن النواب الثلاثة. 10 يوليو: أهالي الضحايا يحاولون اقتحام منزل وزير الداخلية محمد فهمي، بعد تقارير إعلامية أفادت برفضه منح القضاء موافقة للتحقيق مع اللواء إبراهيم. 22 يوليو: احتجاجات وحملة إلكترونية على مواقع التواصل تحت وسم #نواب_النيترات، للتنديد بالنواب الذين يرفضون رفع الحصانة عن زملائهم الثلاثة (وزراء سابقين) المدعى عليهم في القضية.
29 يوليو/تموز: مكتب الإعلام في رئاسة مجلس الوزراء يقول إن صلاحية إعطاء إذن ملاحقة اللواء صليبا، منوطة بالمجلس الأعلى للدفاع وليس بمجلس الوزراء. 30 يوليو/تموز: المحقق العدلي يطلب من المجلس الأعلى للدفاع الوطني إذن ملاحقة اللواء صليبا.
تحقيق المرفأ أشبه بتشكيل الحكومة
يظهر هذا المسار القضائي الذي تواجهه عراقيل لا نهائية، رغم فداحة الكارثة وخسائرها البشرية والمادية، مدى إصرار قادة وزعماء الأحزاب السياسية والطوائف والطبقة السياسية التي تحكم لبنان على عدم التفريط في مصالحها بأي ثمن، بحسب أغلب المحللين في الداخل والخارج.
ولا يختلف مسار التحقيق في تفجير المرفأ عن المسار السياسي الخاص بتشكيل الحكومة. فعلى الرغم من استقالة حكومة حسان دياب بعد التفجير بأسبوع تقريباً، استغرق الاستقرار على تكليف سعد الحريري بمهمة التشكيل نحو ثلاثة أشهر وظل يحاول 9 أشهر قبل أن يعتذر ويتم اختيار نجيب ميقاتي.
وبدا أن ميقاتي يسعى إلى إنجاز التشكيل قبل حلول الذكرى السنوية للانفجار، لكنه أعلن الإثنين 2 أغسطس/آب أنه لن يتمكن من تشكيل حكومة قبل ذكرى انفجار مرفأ بيروت كما كان يأمل.
وقال ميقاتي في كلمة مقتضبة بعد لقائه عون في القصر الرئاسي: "كنت أتمنى أن تكون وتيرة تشكيل الحكومة أسرع". وأضاف: "كنت أريدها أسرع لنخرج بحكومة ونزفها إلى اللبنانيين قبل الرابع من أغسطس/آب".
وأفادت تقارير إعلامية محلية أن الخلافات بين القوى السياسية على شكل الحكومة وتقاسم الحقائب، وخصوصاً السيادية، تحول دون الإسراع في تشكيل حكومة، وهي نفس الأسباب القائمة منذ اندلعت احتجاجات لبنان المطالبة برحيل الطبقة السياسية جمعاء (كلن.. يعني كلن) يوم 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019.
ولم تنجح الضغوط الدولية على الطبقة السياسية منذ الانفجار في تسريع ولادة حكومة يشترط المجتمع الدولي أن تضم اختصاصيين وتقبل على إصلاحات جذرية مقابل تقديم الدعم المالي.
وتعليقاً على المسار القضائي "الشاق" كما يصفه، يقول المحامي مازن حطيط، أحد محامي الادعاء عن ضحايا التفجير، إن التحقيقات تسير بمنهجية واضحة، وجرأة لافتة.
لكن جراء عدم رفع الحصانات ومنح الأذونات اللازمة لملاحقة المسؤولين المدعى عليهم، يتخوف حطيط في حديثه للأناضول، من محاولات لعرقلة مسار العدالة، ويضيف: "نتعامل مع منظومة قاتلة" على حد وصفه، مشيراً إلى أن "أفراد هذه المنظومة يعملون لحماية بعضهم".
وأبدى حطيط تخوفه من محاولة كف يد المحقق العدلي (البيطار) مثلما حصل مع سلفه (صوان)، كما أعرب عن تخوفه من تعرض المحقق العدلي لإيذاء جسدي، "لأنه من الواضح أن هناك مافيات متورطة في هذا الملف"، بحسب قوله.