ارتفعت التوترات الدبلوماسية بشدة بين أمريكا والصين، أكبر اقتصادين في العالم. حيث اتّهمت إدارة بايدن القراصنة الذين ترعاهم أكبر وكالات الاستخبارات في الصين الأسبوع الجاري باختراق أنظمة برامج البريد الإلكتروني الخاصة بشركة Microsoft، وهي المزاعم التي أنكرتها الصين بغضب ووصفتها بأنّها محاولةٌ لـ"تشويه" سمعتها. ففي الأسبوع الماضي، حذّر البيت الأبيض الشركات الأمريكية من مخاطر العمل في هونغ كونغ. وبدأت قائمة الشركات الصينية الخاضعة لعقوبات واشنطن تزيد أكثر.
وبات الجميع يتمنى نهايةً لهذه المواجهة بأي طريقة، حتى لو كانت مباراةً في "تنس الطاولة"، كما يقول تقرير لوكالة Bloomberg الأمريكية، التي تذكر أنه قبل 50 عاماً، كان تنس الطاولة هو الذي كسر الجمود في عهد إدارة نيكسون الأولى. ويتذكّر الباحث في الشأن الصيني أورفيل شيل تلك الواقعة قائلاً إنّ فريقاً أمريكياً قوياً لفت أنظار الزعيم تشوان لاي خلال رحلةٍ إلى اليابان. وبعد أيامٍ قليلة، استُقبِلَ أعضاؤه لتكريمهم داخل قاعة الشعب الكبرى في بكين، عقب تسلمهم دعوةً مفاجئة.
وبعد ثلاثة أشهر، بدأ ظهور معالم دبلوماسية أكثر تقليدية حين التقى هنري كيسنغر مع تشوان في زيارةٍ سرية لصياغة "انطلاقة تاريخية للعلاقات مع الصين".
الصين وأمريكا تكرران بعض المشاهد من فترة الحرب الباردة
ورغم أنّ حدوث سيناريو بتسلسل مشابه للأحداث اليوم هو أمرٌ مستبعدٌ تماماً، رغم أنّ البلدين يكرران بعض المشاهد المألوفة من فترة الحرب الباردة؛ حيث تحوّل التخريب الرقمي إلى استفزازٍ خطير- وربما ذريعة للحرب في بعض الحالات-، كما أثّر الهجوم السيبراني على Microsoft Exchange على عشرات الآلاف من الشركات.
وأعادت الواقعة الأخيرة إلى الأذهان الهجمات السيبرانية الكبرى على Google قبل أكثر من 10 سنوات، حين أوشك المخترقون على سرقة الشيفرة المصدرية للشركة؛ مما دفعها إلى سحب محرك البحث الخاص بها من الصين. ورغم أنّ Google خاضت عدة مواجهات مع الرقابة الصينية قبل خروجها، نجد أنّ Microsoft سعت لتكون نموذجاً للشركات التي تمتثل للقوانين في الصين؛ حيث يقع أكبر مراكزها للأبحاث والتطوير خارج الولايات المتحدة.
وإذا كانت بكين تتعامل مع Microsoft بهذا الأسلوب، فمن الطبيعي أن يرى الجميع أنّ أيّ شركةٍ أمريكية لن تكون بمأمن.
وقد أدان وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، في تعليقه على الهجمات، ما وصفه بـ"الاستبداد الرقمي". وهو وصفٌ يتوافق مع نظرة الرئيس جو بايدن للتنافس بين الولايات المتحدة والصين على أنّه تنافس "الديمقراطيات ضد الحكومات الاستبدادية" من أجل قيادة العالم في القرن الـ21.
في الماضي كانت الصين وأمريكا بحاجةٍ إلى بعضهما البعض
ولن ينجح "تنس الطاولة" في كسر الجمود هذه الأيام نظراً لحقيقة تغيّر الظروف المحيطة بأهم علاقةٍ ثنائية في العالم. ففي الماضي، كانت الصين والولايات المتحدة بحاجةٍ إلى بعضهما البعض. حيث كانت الصين قد انفصلت عن الاتحاد السوفييتي وتبحث بيأسٍ عن صديقٍ نافذٍ جديد. بينما أرادت أمريكا دولة لها ثقلها الموازي في آسيا من أجل التصدّي للتوسعات السوفيتية. لكن انهيار الاتحاد السوفييتي سلب تلك العلاقة سبب وجودها.
وعلاوةً على ذلك، فقد أبرز انهيار الاتحاد السوفييتي الخلافات الأيديولوجية والسياسية العميقة التي كان العداء تُجاه خصمٍ مشترك قد غطى عليها. ويُذكر أنّه في أوائل السبعينيات كانت الصين في خضم ثورتها الثقافية، التي كانت تُمثّل "مهزلةً" على مستوى حقوق الإنسان. وكان تحقيق إعادة التقارب هذه قد تطلّب من ماو تسي تونغ القبول بتسويةٍ مُذلة في ما يتعلّق بتايوان- التي لا تزال حتى يومنا هذا أصعب القضايا الدبلوماسية بين البلدين.
الرياضة تحولت إلى سبب من أسباب الخلافات الكثيرة بين الصين وأمريكا
وفي عصرنا هذا، تحوّلت الرياضة أيضاً إلى سببٍ من أسباب الشقاق في العلاقات الأمريكية-الصينية؛ حيث اندلع خلافٌ بين الرابطة الوطنية لكرة السلة وبين بكين بسبب منشورٍ يخص هونغ كونغ على الشبكات الاجتماعية. بينما تُهدّد الولايات المتحدة بمقاطعةٍ دبلوماسية للأولمبياد الشتوية في بكين العام المقبل.
ورغم ذلك، لا تزال هناك عدة اختلافات مهمة بين الحرب الباردة في الماضي والحرب الباردة المعاصرة، وأهمها هي درجة الاعتماد الاقتصادي المتبادل التي أصبحت شديدة الارتفاع. والحقيقة المحرجة لبايدن هي أنّ الشركات الأمريكية ما تزال تتنافس على التعامل تجارياً مع العملاق الآسيوي، رغم خطاب بايدن المتشدد وحقيقة أنّه لم يلتق الزعيم الصيني شي جينبينغ بعد.
حيث تُسارع شركات وول ستريت مثلاً لإدارة الثروات الصينية. وفي العام الماضي، نجحت الصين في إزاحة الولايات المتحدة عن عرش الوجهة العالمية الأولى للاستثمارات الأجنبية المباشرة.
ومن الجدير بالذكر أنّ حلفاء الولايات المتحدة قد انضموا لها في إدانة الاعتداء الإلكتروني الصيني المزعوم، لكن تصريحاتهم لم تصل إلى حد التهديد بالعقوبات. لأنّ لا أحد سيرغب في الابتعاد عن الاقتصاد الذي سيصير الأكبر في العالم قريباً.
إذ لم تُجرِ الصين والولايات المتحدة أي محادثات منذ أول لقاءٍ دبلوماسي رفيع المستوى بين مسؤولي إدارة بايدن ونظرائهم الصينيين في ألاسكا؛ حيث أعلنت وزيرة الخزانة جانيت يلين مؤخراً أنّها ليست لديها خطط لإعادة إحياء الحوار الاقتصادي والاستراتيجي، الذي كان المنصة الرئيسية لتنسيق السياسات الثنائية بين البلدين حتى تخلّى دونالد ترامب عن اجتماعاتها المعتادة.
وفي الـ25 من يوليو/تموز، ستحاول نائبة وزير الخارجية ويندي شيرمان إعادة فتح الباب مجدداً حين تصل إلى مدينة تيانجين الساحلية من أجل المساعدة في إدارة التوترات المتزايدة. وهذه ليست انطلاقة لدبلوماسية تنس الطاولة بالتأكيد، لكن البروتوكولات الدبلوماسية من هذا النوع تُعتبر بمثابة تقدمٍ دراماتيكي في الأحداث خلال الحرب الباردة الراهنة.