رغم أن التطبيع الإماراتي السريع مع إسرائيل أثار صدمة في الأوساط الشعبية العربية، إلا أنه لفت الانتباه إلى التطورات الهامة التي ضربت منطقة الخليج في القرن الحادي والعشرين، ومنها رغبة بعض بلدان مجلس التعاون الخليجي في إقامة علاقات سرية مع تل أبيب من أجل مصالحها.
هذا التطور في العلاقات بين تل أبيب وبعض العواصم الخليجية قد يأتي بنتائج عكسية على تماسك دول مجلس التعاون في ظل التصدعات الحالية بين أعضائه، في نفس الوقت رغبة كل بلد في نسج علاقة مغايرة ومتباينة مع إسرائيل.
ورغم أن الاتفاقات الدبلوماسية التي وقَّعتها الإمارات والبحرين مع إسرائيل في العام الماضي شكَّلَت خطوةً كبيرةً في العلاقات، فإن خطوط الاتصال والتعاون بين دول الخليج وإسرائيل ليست جديدة. أقامت عدة دول في المنطقة، بما فيها قطر والبحرين وعُمان، اتصالاتٍ مع إسرائيل منذ عقد التسعينيات بعد أن وقَّعت منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل اتفاقية أوسلو.
وبحسب تقرير لمعهد بروكنيز فإنه وبالرغم من أن السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين لم يتحقَّق قط، لم يكن حظر الاتصال بإسرائيل قاطعاً في وضوحه بين الدول العربية. بعد اتفاقية أوسلو، تطوَّرات العلاقات بشكلٍ سري وغير رسمي، وظلَّت طيَّ الكتمان إلى حدٍّ كبير بسبب استمرار التعبئة بين الجماهير العربية ضد تطبيع العلاقات مع إسرائيل، بينما يظلُّ الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال الإسرائيلي.
في عام 2002، قادت المملكة العربية السعودية مبادرة السلام العربية، التي قامت بعد ذلك بتقنين التسلسل المقترح في العلاقات العربية مع إسرائيل: أولاً دولة فلسطينية على حدود 1967، ثم التطبيع مع العالم العربي بأكمله.
مع توسيع الجانبين لتعاونهما في السنوات الأخيرة، أصبحت روابط القنوات الخلفية هذه أوضح بصورةٍ حتمية. وكذلك أيضاً أصبحت الدعاية جزءاً متعاظماً من هدف دول الخليج عندما سعت للحصول على تصديق واشنطن، مِمَّا أدَّى جزئياً إلى اتفاقيات التطبيع الرائدة التي وقَّعتها الإمارات والبحرين مع إسرائيل في البيت الأبيض في 15 سبتمبر/أيلول 2020. ومع ذلك، يظلُّ مجلس التعاون الخليجي بعيداً عن إجماع على ذلك، وتختلف طبيعة ونطاق العلاقة مع إسرائيل بين دول المجلس.
التطبيع السري بين عواصم خليجية وتل أبيب
تشارك المملكة السعودية، كجزءٍ من هذا المحور للدول ذات التفكير المماثل التي تسعى إلى تحقيق أهدافٍ منسَّقة في السياسة الخارجية، الدوافع الاستراتيجية مع الإمارات والبحرين فيما يتعلَّق بإسرائيل. وفي الواقع، تعاونت الرياض وتل أبيب لسنوات بشكلٍ سري، في الغالب في القضايا الأمنية وتبادل المعلومات الاستخباراتية، لكن المملكة لديها حساباتها الخاصة من حيث استعدادها لإضفاء الطابع الرسمي على العلاقات.
وهذا يشمل مكانتها الفريدة في العالم الإسلامي باعتبارها الوصي على الحرمين الشريفين. وهذه الدولة أكبر بكثيرٍ وأكثر تنوُّعاً من نظيراتها، مع وجود قطاعات قوية لا تنظر إلى إسرائيل بشكلٍ إيجابي. ومع ذلك، فإن الإشارات من المؤسسة السياسية، وخاصةً جيل الشباب بقيادة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، تتجه بوضوح نحو نهج مختلف تجاه إسرائيل لا يمنع تطبيع العلاقات قبل اتفاق سلام إسرائيلي-فلسطيني.
وفي حين أن عمان لم تطبِّع علاقاتها مع إسرائيل بعد، فقد اتَّبَعت منذ فترةٍ طويلة نهجاً غريباً بين أعضاء مجلس التعاون الخليجي، إذ دعمت مصر علناً في اتفاقية السلام لعام 1979 مع إسرائيل، واستضافت مسؤولين إسرائيليين كباراً في منتصف التسعينيات، بما في ذلك رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إسحق رابين عام 1994. وعلاوة على ذلك، فإن علاقة عمان بإسرائيل لا تنبع من الرغبة في مواجهة قوى إقليمية معادية، بل من موقفٍ طويل الأمد من الحياد والدبلوماسية، والرغبة في الحفاظ على علاقاتٍ إيجابية مع جميع الدول في المنطقة، بما في ذلك إسرائيل وإيران. وبينما طوَّر السلطان الراحل قابوس بن سعيد هذه السياسة الخارجية، بدا خليفته، السلطان هيثم بن طارق آل سعيد، على استعداد للحفاظ عليها إن أمكن. ومع ذلك، نظراً لوضع عمان الاقتصادي الضعيف، فإن هذا الموقف قد يكون مرهوناً بقدرة عمان على الاستقلال عن المحور السعودي-الإماراتي من أجل الاستقرار الاقتصادي، وهذا المحور قد مارس ضغوطاً على دولٍ من أجل تبني موقفه.
كان هذا هو الحال بالنسبة لقطر، التي خضعت لحصارٍ إقليمي من قِبَلِ المحور السعودي-الإماراتي، من يونيو/حزيران 2017 إلى يناير/كانون الثاني 2021، بسبب سياساتها الخارجية المنفصلة عن هذا المحور. ومثل عمان، تمنح قطر الأولوية لسياسةٍ خارجية مستقلة عن جيرانها في مجلس التعاون الخليجي، لكن تلك السياسة تشمل تطوير علاقة عمل مع إسرائيل، وهو ما فعلته منذ منتصف عقد التسعينيات.
واستفادت الدوحة من هذه العلاقة لتضطلع بدورٍ أنشط من أيٍّ من نظيراتها في دول مجلس التعاون الخليجي على الساحة الإسرائيلية-الفلسطينية، لا سيما في غزة كوسيطٍ بين إسرائيل وحماس.
وأخيراً، تتميَّز الكويت بأنها تعارض علناً إقامة علاقات مع إسرائيل بينما يظلُّ الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال العسكري الإسرائيلي. قبل وقتٍ قصير من وفاته في سبتمبر/أيلول، قال الشيخ صباح الأحمد الصباح إن الكويت ليس لديها رغبةٌ في تغيير سياساتها الإقليمية، وستكون آخر من يطبِّع العلاقات. قد يكون هذا الإخلاص المستمر للفلسطينيين نتيجة للطبيعة الأكثر تمثيلية للسياسة الكويتية مقارنةً بأقرانها الخليجيين، في ظلِّ برلمانٍ قوي ونخبة فكرية متطوِّرة إلى حدٍّ ما وتتمتَّع بعلاقاتٍ تاريخية مع الحركات القومية العربية، بما في ذلك مجتمع المغتربين الفلسطينيين في الكويت.
محرِّكات النهج الجديد
من بين جميع دول الخليج التي تسعى إلى إقامة علاقات مع إسرائيل، ربما تكون دوافع الإمارات هي أفضل تلخيصٍ للديناميكيات الإقليمية المتغيِّرة. على عكس النظرة المعتادة في العالم العربي تجاه إسرائيل، لا تعتبر الإمارات إسرائيل عدواً أو تهديداً للاستقرار الإقليمي. ووفقاً لرؤية وليّ عهد أبوظبي الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، فإن التهديدات الرئيسية للإمارات وحلفائها هي التهديدات التوسُّعية لإيران والإسلام السياسي العابر للحدود.
وفي هذه البانوراما، كان كلٌّ من هؤلاء الفاعلين في الساحة الإقليمية راغبين وقادرين على الاستفادة من عدم الاستقرار الإقليمي لتعزيز مواقفهم من خلال التدخُّل، كما في حالة إيران، أو في العملية الانتخابية، في حالة جماعة الإخوان المسلمين المدعومة من تحالفٍ منافس بقيادة تركيا وقطر. في المقابل، تنظر الإمارات إلى إسرائيل كقوةٍ إقليمية هائلة تشاركها هذه الآراء ومستعدة للتصرُّف بالقوة لمواجهة الخصوم الإقليميين. وبالتالي، فإن التحالف الرسمي مع إسرائيل له معنى استراتيجي. لذلك، في حين أن إدارة ترامب، توسَّطَت في اتفاقيات التطبيع، كانت بمثابة اتفاقيات سلام، فمن الواضح أنها كانت مدفوعةً ببناء التحالفات وليس بناء السلام.
تكنولوجيا التجسس الإسرائيلية في يد الإماراتيين
علاوة على ذلك، وسط التهديد الذي يمثله انتشار الانتفاضات الشعبية في المنطقة، أصبحت دول الخليج مشترياً متلهفاً لتكنولوجيا المراقبة المتطورة من أجل مراقبة شعوبها بشكل أكثر فاعلية. من جانبها، كانت إسرائيل ممولاً سخياً لهذه التكنولوجيا مع تحفُّظاتٍ قليلة على انتهاكاتٍ محتملة لحقوق الإنسان. علاوة على ذلك، منذ التطبيع، أعلن الجانبان عدداً من مجالات التعاون التجاري، بما في ذلك خطط لخط أنابيب نفط يمتد من البحر الأحمر إلى البحر المتوسط.
لكن الأهم من ذلك كله هو أن المحور السعودي-الإماراتي يتطلَّع إلى علاقةٍ أوثق مع إسرائيل كوسيلةٍ غير مباشرة للحفاظ على شراكتها مع واشنطن.
وتشترك دول مجلس التعاون الخليجي إلى حدٍّ كبير في هذا الدافع، بسبب أهمية البنية الأمنية المدعومة من الولايات المتحدة منذ عقودٍ في المنطقة. ومع ذلك، في السنوات الأخيرة كان لدى دول الخليج أسبابٌ كافية للقلق بشأن التزام الولايات المتحدة طويلة الأمد. وعلى وجه الخصوص، أدَّت الحروب الأمريكية الطويلة والمُكلِّفة إلى الشعور بالإرهاق في الداخل مع استمرار الاشتباك العسكري في الشرق الأوسط.
وبينما كان أمن الطاقة في السابق يمثِّل العامل الذي يربط التحالف بين الولايات المتحدة ودول الخليج، فإن عودة إنتاج الطاقة الأمريكية على مدار العقد الماضي قد خلق تصوُّراً بأنها أصبحت غير متمسِّكة بهذا التحالف. ونتيجة لهذه العوامل وغيرها، أشارت الإدارات الأمريكية المتعاقبة إلى رغبتها في تعديل، وربما تقليص، الموقف الأمريكي ووجود الولايات المتحدة في المنطقة- وهو شعورٌ قد يتعمَّق نتيجة للتكاليف الاقتصادية لجائحة كوفيد-19. لكن بالنسبة لدول الخليج، التي تشعر بقلقٍ شديد بشأن التوقُّعات الإقليمية، فإن الحفاظ على التزام الولايات المتحدة بأمنها هو أمرٌ بالغ الأهمية.
العلاقة مع واشنطن تمر عبر إسرائيل
ونظراً لإخلاص الولايات المتحدة لأمن إسرائيل، قد تفترض دول الخليج بشكلٍ مفهوم أن إنشاء روابط مع إسرائيل سيساعد في تعزيز علاقاتها الأمنية مع الولايات المتحدة. وسواء كان ذلك عن حق أو خطأ، تفترض دول الخليج أن السياسة الخارجية الأمريكية شديدة الحساسية إزاء المصالح والمخاوف الإسرائيلية. وما تعرفه دول الخليج أيضاً من التجربة هو أن كونها عدواً ظاهرياً لإسرائيل لم يساعدها في علاقتها بالولايات المتحدة، ولم يجعلها محببةً لبعض الأوساط السياسية والدبلوماسية الأمريكية، بل عرقل حصولها على معداتٍ وتكنولوجيا عسكرية متطوِّرة محفوظة من أجل إسرائيل وغيرها من الحلفاء المُقرَّبين.
كانت مصر مثالاً لدول الخليج لما يمكن أن يعنيه تحالفٌ رسمي مع إسرائيل في واشنطن. بعد توقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل عام 1979، انتقلت مصر إلى المدار الاستراتيجي للولايات المتحدة وأصبحت ثاني متلقٍّ للمساعدات الاقتصادية والعسكرية الأمريكية، رغم سياساتها الاستبدادية وسجلها السيئ في حقوق الإنسان. وفي حين أن دول الخليج هي بالفعل شريكةٌ لواشنطن ولا تحتاج إلى مساعداتٍ مالية، فإنها تدرك أن دور مصر كشريك سلامٍ مع إسرائيل جعلها على ما يبدو لا غنى عنها في السياسة الخارجية الإقليمية الاستراتيجية للولايات المتحدة.