ينتظر العالم نتائج اجتماع الاحتياطي الفيدرالي (المركزي الأمريكي) خلال وقت لاحق اليوم الأربعاء 28 يوليو/تموز 2021، لعله يخرج بلغة أكثر وضوحاً بشأن اتجاه السياسة النقدية للمرحلة المقبلة ستؤثر على الاقتصاد العالمي .
فمنذ مارس/آذار 2020، يتبع المركزي الأمريكي سياسة نقدية غاية في المرونة، عبر فائدة قريبة من الصفر، وبرنامج غير مسبوق لضخ السيولة في الأسواق، عبر شراء سندات خزينة وأوراق مالية مضمونة برهون عقارية، بمعدل 120 مليار دولار شهرياً.
إجراء الاحتياطي الفيدرالي لم يكن استثنائيا، بل حذت حذوه البنوك المركزية حول العالم؛ إذ لجأت جميعها تقريباً إلى خفض الفائدة إلى مستويات تاريخية متدنية، وبعضها نزل بالفائدة إلى ما دون الصفر، في مواجهة تداعيات الجائحة.
إلى جانب خفض الفائدة، لجأت البنوك المركزية إلى أدوات أخرى لضخ السيولة، تفاوت حجمها من بلد إلى آخر بحسب قوة الاقتصاد والإمكانات المالية المتاحة.
وتهدف هذه الإجراءات لتشجيع الاستهلاك وتمكين الشركات من الاستمرار بالعمل والحفاظ على الوظائف.
حزم تحفيز ضخمة
لكن تبدي بنوك مركزية عالمية تحفظها إزاء أية قرارات أمريكية برفع الفائدة على الدولار، في وقت يشهد الاقتصاد العالمي حالة من التعافي البطيء، ما يعني أن الإبقاء على السياسة النقدية الحالية الخيار الأفضل للاقتصاد العالمي.
فرفع الفائدة الأمريكية، قرار جريء في الوقت الحالي، ويضع مزيداً من التحديات على الاقتصادات الصاعدة، الباحثة عن سياسات تسرع تعافيها من تبعات جائحة كورونا.
بالتوازي، بادرت حكومات عدة حول العالم إلى ضخ سيولة ضخمة في الأسواق، عبر حزم تحفيز غير مسبوقة، تجاوزت قيمتها 16 تريليون دولار، منها ما يزيد على 5 تريليونات دولار في الولايات المتحدة وحدها.
أدخلت الجائحة الاقتصاد العالمي في أزمة غير مسبوقة منذ الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي، وأنهت الاقتصادات في معظم دول العالم عام 2020 على انكماش، باستثناء اقتصادات قليلة أبرزها الصين وتركيا.
بداية التحول
مع فرض قيود واسعة في مواجهة الجائحة بدءاً من مارس/آذار 2020، توقفت معظم الأنشطة الاقتصادية.
ومع بقاء مئات ملايين البشر في منازلهم لفترة طويلة، إبان إجراءات الحجر الصحي الجماعي، تقلص الإنتاج بشكل كبير وانهار الطلب على السلع والخدمات، وبدأ التضخم رحلة هبوط غير مسبوقة وصل معدله في بعض الدول إلى مستويات دون الصفر.
لكن التضخم عاود الارتفاع بوتيرة بطيئة انعكاساً للانتعاش الاقتصادي وحزم التحفيز، بدءاً من الربع الثالث 2020.
وشكل إعلان شركات "فايزر بيونتيك" و"موديرنا" و"أسترازينيكا" و"سينوفارم" عن التوصل إلى لقاحات مضادة لكورونا في نوفمبر/تشرين الثاني 2020، علامة فارقة في اقتصاد العالم، بدأت نتائجها بالظهور مع انطلاق حملات التطعيم في نهاية 2020.
التضخم يتسارع
وأظهرت بيانات التضخم في عديد الدول والتكتلات الاقتصادية منذ بداية 2021، تسارعاً مطرداً، ليصل في مايو/أيار إلى أعلى مستوى منذ الأزمة المالية العالمية في 2008.
في منطقة منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (التي تضم أكبر 38 اقتصاداً في العالم)، قفز معدل التضخم من 2.4% في أبريل/نيسان الماضي، إلى 3.3% في مايو/أيار.
وفي الولايات المتحدة، قفز التضخم الأمريكي من 1.4% في فبراير/شباط الماضي، إلى 4.3% في أبريل، ثم إلى 5% في مايو/أيار، ثم 5.4%، أعلى مستوى منذ 2008، متجاوزاً بأكثر من ثلاث نقاط مئوية المعدل المستهدف من قبل الفدرالي.
أما في منطقة اليورو، فقد ارتفع من 1.8% إلى 2% حتى مايو الماضي، وفي الصين من 0.9% إلى 1.3%.
والسبب وراء التسارع الكبير في التضخم، تخفيف واسع للقيود سمحت به حملات التطعيم، خصوصاً في الاقتصادات المتقدمة، أدى إلى انتعاش كبير في الطلب، لم يجاره توسع في الإنتاج، والنتيجة ارتفاع أسعار السلع بأسرع وتيرة منذ 13 عاماً.
الدول الفقيرة الأكثر تضرراً
وتواجه الدول الفقيرة على نحو خاص، آثاراً مدمرة نتيجة ارتفاع التضخم، الذي بلغ في بعضها خانة المئات، في وقت تفتقر إلى الإمكانيات المالية الكافية لتعويض مواطنيها عن تآكل دخولهم وتراجع قدرتهم الشرائية.
يترافق ذلك، مع ضعف قدرة هذه الدول على شراء لقاحات كافية لتحصين مواطنيها ضد فيروس كورونا، وبالتالي تبقى استفادتها من مواردها الطبيعية، كالمواد الأولية، محدودة بسبب إجراءات الحد من تفشي الجائحة.
في المقابل، تواجه البنوك المركزية حول العالم ضغوطاً شديدة لتغيير سياساتها النقدية، فهي من جهة تريد الحفاظ على زخم النمو الاقتصادي بمواصلة سياسة نقدية مرنة، ومن جهة أخرى مطالبة بمواجهة التسارع الكبير في معدلات التضخم عبر التشدد بسياساتها.
الاستمرار بسياسة مرنة
منذ بداية 2021، بادر عدد محدود من البنوك المركزية إلى خطوات وصفت بـ"الجريئة"؛ إذ رفعت البنوك المركزية في روسيا والبرازيل وتركيا والمجر وأيسلندا، الفائدة بين مرة واحدة وثلاث مرات، في مسعى لمواجهة التضخم.
لكن، ما زالت معظم البنوك المركزية حول العالم، خصوصاً الاحتياطي الفدرالي الأمريكي والبنك المركزي الأوروبي، مترددة في رفع أسعار الفائدة، أو حتى تحديد مواعيد لذلك.
ويرى خبراء أسواق المال أن رفع الفائدة قبل الأوان (قبل أن يعود الاقتصاد العالمي إلى مستواه قبل الجائحة على الأقل والتأكد من السيطرة التامة على الجائحة)، سيؤدي إلى إفلاس مئات آلاف الشركات حول العالم، وربما دول.
فقد دفعت الجائحة مستويات الدَّين، الخاص والعام، إلى مستويات غير مسبوقة، ورفع نسب الفائدة سيضيف أعباء جمَّة على المدينين، وقد يدفع كثيراً منهم إلى التخلف عن السداد والإفلاس.
وفي فبراير/شباط الماضي، أظهر تقرير لمعهد التمويل الدولي ارتفاع الدين العالمي إلى مستوى قياسي عند 281 تريليون دولار في 2020، يعادل 355% من إجمالي الناتج العالمي، من 257 تريليون دولار تعادل 320% من الناتج العالمي في 2019.
ووفقاً للتقرير، فإن الدين الحكومي ارتفع ليشكل 105% من الناتج المحلي الإجمالي في 2020، مقابل 88% عام 2019.
وارتفع دين القطاع الخاص غير المالي إلى 165% من الناتج المحلي الإجمالي في 2020، من 124% في 2019.