هي المرة الأولى التي تشهد فيها كوبا احتجاجات شعبية عارمة منذ ثورة فيدل كاسترو عام 1959، فلماذا ثار الكوبيون على وريث كاسترو؟ وإلى أين تتجه الأمور؟ وما دور الولايات المتحدة فيما يحدث؟
وتشهد كوبا منذ الأحد الماضي 18 يوليو/تموز احتجاجات شعبية بدأت صغيرة ومتفرقة، لكنها سرعان ما تحولت إلى ما يصفه النشطاء بالثورة بعد أن تصدت قوات الأمن للمتظاهرين وسالت الدماء في الشوارع.
كيف بدأت الاحتجاجات في كوبا؟
شرارة الاحتجاجات انطلقت من بلدة سان أنطونيو دي لوس بانيوس الصغيرة والهادئة، والتي تبعد حوالي ساعة بالسيارة من العاصمة هافانا، حين قرَّرَ سكان البلدة الصغيرة بشكلٍ عفويٍّ على ما يبدو، أن الكيل قد طفح. فقد عانوا من انقطاعات الكهرباء التي تدوم لـ 12 ساعة في المرة الواحدة لأسابيع، ووقفوا في طوابير مهينة وعانوا من نقصٍ في الغذاء الذي لا يتوفَّر بأسعارٍ معقولة إلا بالكاد، وامتدَّ هذا النقص حتى إلى الأدوية الأساسية.
ورصد تقرير لصحيفة The Times البريطانية الوضع في كوبا منذ اشتعال الأحداث وكيف سعت حكومة الرئيس ميغيل دياز كانيل لوأد الاحتجاجات باتباع الدليل الإرشادي التقليدي المتمثل في قطع خدمات الإنترنت واعتقال النشطاء المؤثرين.
وسرعان ما اكتشف أهالي البلدة الهادئة أنهم ليسوا وحدهم، فحين بدأ تداول مقاطع الفيديو عبر الإنترنت، بدأ احتجاجٌ مماثل تقريباً في مدينة بالما سوريانو الصغيرة، على بُعدِ 520 ميلاً ناحية الشرق.
وفي هافانا في ذلك اليوم، بدأت فانيسا بوسا، طالبة المحاسبة ذات 21 عاماً، في تلقي مقاطع فيديو للاحتجاجات على حسابها على واتساب، وبالكاد كانت تصدِّق ما تراه. قالت للصحيفة البريطانية عبر الهاتف: "بدت كوبا وكأنها تنفجر. شعرنا جميعاً بالشعور نفسه".
وعلى منصة فيسبوك، شاهدَت بوسا صوراً حية لحشدٍ ضخم يتجمَّع حول مبنى الكابيتوليو في هافانا، وهو مبنى البرلمان السابق الذي اعتبره فيدل كاسترو غير ضروري وتحوَّلَ إلى مبنى إداري بعد ثورة 1959. في تلك اللحظة قرَّرَت بوسا الانضمام إلى الاحتجاجات بنفسها.
الشرطة تقمع المتظاهرين
لكن توقيت انضمام بوسا للاحتجاجات كان سيئاً، إذ بدأت الشرطة تصل بأعدادٍ كبيرة، وقالت بوسا إنها شاهدت أشخاصاً يُضرَبون على يد ضباطٍ يحملون هراواتٍ بالقرب من منزلها في منطقة دييز دي أوكتوبر، وقالت: "كان الأمر مرعباً".
وفي بلدٍ لم يشهد فيه معظم الناس احتجاجاتٍ من قبل، كان هناك شعورٌ بالبراءة والتيه، ولم يكن هناك إلا قلةٌ فقط مِمَّن يعرفون ما يجب فعله أو توقُّعه. العديد من المئات الذين اعتُقِلوا كانوا من "النشطاء المؤثِّرين" في أوائل العشرينيات من عمرهم، والذين دشَّنوا في الأشهر الأخيرة قنواتٍ على فيسبوك ويوتيوب، وكثيراً ما انتقدوا الحكومة.
إحدى هؤلاء هي دينا ستارز، وكانت على الهواء مباشرةً مع محطة إسبانية عندما اقتحم رجال أمن الدولة منزلها. قالت: "يجب أن أذهب"، فيما لم يكن من المعلوم مكان وجودها لعدة ساعات قبل إطلاق سراحها.
وأثارت صور المعاملة الوحشية من جانب الدولة لمنتقديها الغضب في الداخل والخارج. وأكَّدَت الحكومة مقتل متظاهر واحد فقط، لكن الرقم الحقيقي يبدو أكثر، حيث لا يزال العشرات في عداد المفقودين.
شجب عشرات الفنانين الكوبيين تصرُّفات السلطات بثقةٍ لم تُشهَد منذ الأيام الأولى للثورة الكوبية. قال فرناندو بيريز، 77 عاماً، وهو المخرج السينمائي الأبرز في البلاد وقام بالتدريس في مدرسة السينما في سان أنطونيو: "كوبا، التي يجب أن تحافظ فيها القوات الخاصة على السلام والوحدة في الشوارع، هي الآن مُحطَّمة".
وتحدَّثَت فرقة لوس فان فان لموسيقى السالسا، التي تُعزَف أغانيها غالباً في التجمُّعات الحكومية، وقالوا في بيانٍ لم يسبَق له مثيل: "نحن ندعم آلاف الكوبيين الذين يطالبون بحقوقهم".
الإنترنت والدور الأمريكي فيما يحدث
كانت الاتصالات مفيدةً في اندلاع الاحتجاجات، لا سيما الإنترنت، الذي أصبح متاحاً فقط على الهواتف المحمولة الكوبية في ديسمبر/كانون الأول 2018. كان السماح بالوصول إلى الإنترنت قراراً مبكِّراً وشعبياً للرئيس، ميغيل دياز كانيل، الذي تولَّى المنصب من راؤول كاسترو، شقيق الرئيس الراحل فيدل كاسترو. وأصبح مصدراً مهماً للعملة الصعبة للحكومة، التي صارت تجمع حوالي 80 مليون دولار شهرياً من بعض أعلى رسوم البيانات في العالم.
أُغلِقَت شبكة الإنترنت بشكلٍ متقطِّعٍ في كوبا معظم الأيام منذ الأحد، عندما قُطِعَت الخدمة بالكامل لمدة 30 دقيقة. وقال الرئيس الأمريكي جو بايدن إنه يبحث فيما إذا كان بإمكان الولايات المتحدة توفير الإنترنت للكوبيين، في تجاوزٍ للحكومة الكوبية. ويقول خبراءٌ إن نظاماً يستخدم بالونات عالية الارتفاع قد يمكِّن من فعل ذلك.
تحرَّك النظام أيضاً لتأمين موجات البث التلفزيوني. وقال أحد المصادر إن سيارات البث المباشر في الخارج وُضِعَت تحت حراسةٍ مُسلَّحة في مرآب محطة التلفزيون الوطنية في هافانا.
ورث دياز كانيل، القيادي بالحزب الشيوعي وأول شخص من خارج آل كاسترو يقود الأمة منذ الثورة، بلداً يواجه أعمق أزمة منذ انهيار الاتحاد السوفييتي في أوائل التسعينيات.
وكانت عقودٌ من سوء الإدارة من قِبَلِ الدولة، ومقاومتها المتشدِّدة لتغيير السياسات، تعني أن كوبا لا تنتج سوى جزءٍ ضئيل من احتياجاتها من الغذاء، في حين تُترَك مساحاتٌ شاسعة من الأراضي الزراعية الرئيسية دون زراعة.
قُيِّدَت مقادير الأموال التي يمكن للكوبيين الذين يعيشون في الولايات المتحدة إرسالها إلى كوبا، منذ أن شدَّدَ الرئيس السابق دونالد ترامب الحظر الأمريكي. ولم تعد فنزويلا، حليفة كوبا التي مزَّقَتها الأزمة، تقدِّم نفس القدر من النفط كما كانت في السابق.
العقوبات الأمريكية منذ 6 عقود
وقال تقرير لموقع Responsible Statecraft الأمريكي إن ما تشهده كوبا من احتجاجات شعبية غير مسبوقة يعتبر، في أحد جوانبه، أحد عواقب العقوبات الأمريكية المفروضة على كوبا منذ أكثر من ستة عقود، وكأي شعب في العالم، خرج الكوبيون إلى الشوارع للتعبير عن إحباطاتهم من محنتهم الاقتصادية والاحتجاج ضد حكومتهم، التي أخفقت في معالجة شكاياتهم.
وفي تغريدة نادرة عن السياسة الخارجية، أعلن الرئيس بايدن "أنَّنا نقف مع الشعب الكوبي"، ونوَّه إلى "معاناته الاقتصادية". ولم تفت المفارقة على الكثير من المعلقين، الذين شهدوا أنَّ الولايات المتحدة رفضت قبل أسابيع –وللسنة الـ29 توالياً- قراراً من الأمم المتحدة لإنهاء الحصار الأمريكي القائم منذ عقود على كوبا، والذي كلَّف الدولة الصغيرة ما يُقدَّر بـ144 مليار دولار وأعاق قدرتها على مكافحة الجائحة.
وعلى الرغم من تصويت المجتمع الدولي بصورة ساحقة لصالح إنهاء الحصار الأمريكي على كوبا، والمستمر منذ ستة عقود كاملة، إذ صوتت 148 دولة مقابل دولتين فقط هما إسرائيل والولايات المتحدة، فإن واشنطن لم تغير من موقفها وأبقت على العقوبات. واللافت أنه في حالة كوبا الآن، يوجد بعض الساسة الأمريكيين الصقور الذين يقترحون توجيه ضربات جوية للبلاد.
لقاحات كوبا التي لم تنجح
وجاءت جائحة كورونا لتمثل ضربة عنيفة أخرى كانت مزدوجة التأثير، إذ دمَّرَت الدخل السياحي للبلاد من جهة، وأدَّى تعامل الحكومة الكوبية مع الأزمة إلى تفاقم خيبة الأمل بين السكان من جهة أخرى.
فقد رفضت الحكومة استيراد أي لقاحاتٍ من الخارج، وفي المقابل راهنت على أن تنتج لقاحاتها الخاصة. ويبدو الآن أن الأوان قد فات لإيقاف تصاعد الحالات الحادة، والتي تُعَدُّ خامس أعلى معدل في العالم بالنسبة لكلِّ مليونٍ من السكان.
تفتخر الحكومة أمام سكانها بشأن الرعاية الصحية العامة، والتي هي بالفعل بعيدةٌ عن الحقيقة، وتُقوَّض بصورةٍ خطيرة مع ظهور صورٍ للمستشفيات غير المُجهَّزة الغارقة في حالات الإصابة بفيروس كوفيد-19.
ولا أحد يمكنه التنبؤ الآن بما قد تؤول إليه الأمور في الجزيرة الكوبية، وما إذا كانت حكومة الرئيس كانيل يمكنها احتواء الاحتجاجات الشعبية أم قد تخرج الأمور عن السيطرة، لكن المؤكد هو أن الإدارة الأمريكية لا تفكر في رفع العقوبات أو حتى تخفيفها، في ظل الرغبة في إسقاط نظام ورثة كاسترو.