عندما تولى الرئيس جو بايدن منصبه رفع شعار "أمريكا عادت"، بمعنى أن الولايات المتحدة قد استأنفت دورها كقائد للعالم "الحر"، والسؤال: هل أمريكا مؤهلة أصلاً للعب هذا الدور القيادي؟
وربما تكون الفكرة الوحيدة التي لا تزال تحظى بإجماع واسع النطاق داخل مجتمع السياسة الخارجية الأمريكي، هي أنَّ الولايات المتحدة قائدة العالم الحر، ويجب أن تظل كذلك. وكانت هذه الفكرة محورية خلال إدارات كلينتون وبوش وأوباما، وبقيت دون مساس إلى حد كبير (لكن في صمت) خلال جهود الرئيس السابق دونالد ترامب، التي افتقرت إلى الوعي والاتساق، لوضع "أمريكا أولاً". ومع وصول بايدن إلى الرئاسة وقوله المتكرر "أمريكا عادت"، سعي فريقه للسياسة الخارجية إلى توحيد ديمقراطيات العالم ضد الموجة الاستبدادية الصاعدة.
وتناولت مجلة Foreign Policy الأمريكية هذه الفكرة في تقرير لها بعنوان "هل لا يزال بإمكان الولايات المتحدة قيادة العالم إذا ما أرادت ذلك؟"، رصد الإجابة عن سؤالين أساسيين: أولهما ماذا يعني "العالم الحر"؟ والثاني ماذا تعني "القيادة"؟ وصولاً إلى أين تقع الولايات المتحدة من تلك المعادلة.
ما المقصود بالعالم الحر؟
من الواضح أنَّ مصطلح "العالم الحر" يشير إلى الدول الملتزمة بمجموعة من الممارسات الليبرالية المعروفة؛ وهي: الحقوق الفردية والتسامح والمساءلة من خلال انتخابات حرة ونزيهة وسيادة القانون وحرية التعبير وما شابه.
بينما تعني ممارسة "القيادة" أن تكون نموذجاً جذاباً يحتذي به الآخرون، أو القدرة على اتخاذ خيارات سياسية ذكية، وتنفيذها بنجاح، وإقناع الآخرين بالسير على خطاها.
إذاً، السؤال الأول الذي نحتاج لإجابته هو ما إذا كانت الولايات المتحدة تُمثِّل نموذجاً جيداً للدول الليبرالية الأخرى. أما السؤال الثاني فهو ما إذا يمكن للآخرين الوثوق بحُكمها السياسي واتباعه، وبالأخص ما يتعلق منه بالسياسات الخارجية. إجمالاً، الإجابة عن السؤالين هي: "لا"، بحسب تقييم فورين بوليسي.
لنبدأ بالسؤال الأول: هل الولايات المتحدة نموذج جذاب يجب على المجتمعات الحرة الأخرى الاقتداء له؟ من المؤكد أنَّ مجلة The Economist، ذات التوجه اليميني الوسطي، لا تعتقد ذلك، حتى أنها خفَّضت مكانة الولايات المتحدة على مؤشر الديمقراطية السنوي من فئة "الديمقراطية المتكاملة" إلى "الديمقراطية المعيبة" في عام 2017 وتُبقِي عليها في تلك الفئة منذ ذلك الحين.
ومن السهل تبيُّن سبب ذلك؛ إذ تحتل الولايات المتحدة المرتبة الـ26 عالمياً من حيث معدل إقبال الناخبين على التصويت، بجانب أنَّ ثقة الجمهور في الحكومة منخفضة إلى أدنى مستوياتها تاريخياً. ويعتقد 25% من الشعب الأمريكي، و53% من الجمهوريين أنَّ ترامب فاز في انتخابات 2020، وأنه "الرئيس الحقيقي"، بينما يقول نصف الجمهوريين تقريباً إنه كان الأجدر بمُشرّعي الولايات محاولة تغيير الأصوات الانتخابية لصالح ترامب في الولايات التي فاز فيها بايدن. وأُقِيل الجمهوريون الذي يرفضون كذبة سرقة الانتخابات، مثل النائبة ليز تشيني، من الوظائف القيادية في الحزب الجمهوري.
إضافة إلى ذلك، منذ نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، فرضت 17 هيئة تشريعية في الولايات التي يسيطر عليها الجمهوريون قيوداً جديدة على التصويت، وفي يونيو/حزيران الماضي، انضم القضاة الثلاثة الذين عيَّنهم ترامب في المحكمة العليا إلى محافظين آخرين في جهود تقويض قانون حقوق التصويت لعام 1965.
هل أمريكا "بلد الأحرار" فعلاً؟
والأمر لا يقتصر على السياسة فحسب. يحب الأمريكيون وصف بلادهم بـ"أرض الأحرار"، لكن الولايات المتحدة لديها أعلى معدل لنزلاء السجون في العالم، تقريباً ضعف معدل روسيا. ومثلما أشار الصحفي في The New York Times، نيكولاس كريستوف، في الشهر الماضي، تحتل الولايات المتحدة المرتبة الـ28 على مؤشر التقدم الاجتماعي غير المتحزّب.
وبالمثل، تُدمِن مؤسسة الأمن القومي الأمريكية السرية، وتقاوم المساءلة. ويمكن لكبار المسؤولين التصريح باستخدام التعذيب، وفرض مراقبة غير قانونية على مواطنين أمريكيين، والبوح بمعلومات سرية لأحبائهم، ثم الكذب على مكتب التحقيقات الفيدرالي بهذا الشأن والبقاء رغم ذلك شخصيات تتمتع بالاحترام داخل المؤسسة. ونفس الشيء بالنسبة للقادة العسكريين، الذين لا يمكنهم الانتصار في الحروب التي أمروا بخوضها، ولا يمكنهم تفسير سبب الفشل في الفوز بهذه الحروب أو لماذا لم يكن يجب خوضها من الأساس.
وفي الوقت نفسه، كثّف كلٌّ من الرؤساء الجمهوريين والديمقراطيين جهودهم لمقاضاة الصحفيين والمُبلّغين عن الانتهاكات الذين يسعون إلى إعلام الجمهور بمخالفات الحكومة. ونتيجة لذلك، تحتل البلاد الآن المرتبة 44 فقط على مؤشر حرية الصحافة العالمي.
وما يزيد الطين بلّة، تتعرض حرية التعبير والفكر الآن لتهديد المتطرفين من تياري اليمين واليسار الذين يسعون لإسكات الآراء التي لا تتفق معهم أو تهميشها. ويشمل هذا التوجه محاولات المسؤولين حظر تدريس وجهات النظر الناقدة في التاريخ في الجامعات والمدارس الحكومية، وفرض رواية مُصحَّحة واحدة.
ويختلف هذا الشكل من الرقابة اختلافاً حاداً مع مبادئ المجتمع الحر. وفي هذه الأثناء، تفشّت جائحة جنونية في الدولة، وأُقنِعَت الأقليات المهمة في الدولة خلالها خطأً بأنَّ اللقاحات المُنقِذَة للحياة أخطر من "كوفيد-19" نفسه، أو أنَّ الدولة تديرها شبكة سرية من مُستغلّي الأطفال جنسياً (مؤامرة حركة كيوأنون).
أمريكا نموذج للفشل السياسي والعسكري
وبالنظر إلى كل ذلك وأكثر، كيف يمكن لأي أحد اعتبار النظام السياسي الأمريكي نموذجاً يُحتذى به؟ وماذا عن النوع الثاني من القيادة؛ ألا وهي القدرة على اختيار المسار الصحيح وتنفيذه بنجاح ودفع الدول الأخرى لاتباعه؟ اعتادت الولايات المتحدة تأدية هذا الدور جيداً، لكن العقود العديدة الماضية ألقت بظلالٍ من الشك على حكمتها السياسية الجماعية، خاصة عندما يتعلق الأمر بالسياسة الخارجية.
بادئ ذي بدء، تقاعست الولايات المتحدة عن التعامل مع أزمة التغير المناخي، التي يمكن القول إنها أهم مشكلة تواجه البشرية اليوم. ويبدو أنَّ إدارة بايدن تستوعب خطورة هذه المسألة، لكن يظل السؤال حول ما إذا كانت الدولة ككل ستبذل ما يلزم في هذا الصدد، بلا إجابة؛ فحتى الآن لم يقتنع الحزب الجمهوري بأهمية الأزمة.
علاوةً على ذلك، قادت الولايات المتحدة جهود الدفع نحو العولمة المفرطة في التسعينيات؛ ما أدى إلى مزيد من عدم الاستقرار المالي، وسرّع من صعود الصين بوصفها منافساً رئيسياً، وأدى في النهاية إلى رد فعل شعبوي عنيف هناك وفي أماكن أخرى. إنَّ وجود اقتصاد عالمي مفتوح نسبياً أمر مرغوب فيه، ويجب مقاومة الدوافع الحمائية باستمرار، لكن واشنطن دفعت التحرير إلى مستوى عالٍ جداً وبسرعة كبيرة.
وراهنت النخبة الأمريكية من كلا الحزبين أنَّ الانخراط عن قرب مع الصين سيجعلها "طرفاً مؤثراً مسؤولاً"، ويُسرِّع تحولها إلى الديمقراطية؛ ومن ثم يجلب مليار شخص إلى "العالم الحر". غير أنَّ هذا الرهان لم يؤتِ ثماره، وصار الجمهوريون والديمقراطيون الآن يتنافسون للتعبير عن قلقهم من النظير المنافس الذي ساعدت السياسة الأمريكية في إفرازه.
والقائمة تطول: فقد أساءت أربع إدارات أمريكية متتالية إدارة عملية السلام في الشرق الأوسط، وانتهت حروبها في العراق وأفغانستان وليبيا وأماكن أخرى بهزائم وكارثة مُكلِّفة لملايين آخرين.
في غضون ذلك، تواصل الولايات المتحدة دعم مجموعة من العملاء في الشرق الأوسط الذين تتعارض قيمهم وسلوكياتهم السياسية تعارضاً حاداً مع المُثل الليبرالية. وتشمل تلك القائمة مصر والمملكة العربية السعودية وكذلك إسرائيل، التي أعلنت منظمة هيومن رايتس ووتش ومنظمة الحقوق الإسرائيلية "بتسيلم" أنها تدير نظام فصل عنصري.
واتسمت السياسة الأمريكية الخاصة بإيران بالفشل أيضاً؛ فقد عزَّز غزو العراق من نفوذ إيران في المنطقة، ولم يمنع تصعيد العقوبات طهران من تطوير القدرة على بناء سلاح نووي وقتما تقرر فعل ذلك. ولسوء الحظ، انسحب ترامب من اتفاقية 2015 التي خفّضت سعة تخصيب اليورانيوم الإيرانية، ومدّ "فترة إخلالها بالالتزامات"، وأعقب ذلك تهديد الإدارة بفرض عقوبات على العديد من حلفاء الولايات المتحدة -وجميعهم من دول العالم الحر بالمناسبة- إذا ما واصلوا التمسك بالاتفاقية. إذاً، إلام آلَ هذا الاحتجاج البارع من القيادة الأمريكية في النهاية؟ صارت إيران أقرب من أي وقتٍ مضى لبناء قنبلة نووية، ولم تستطع إدارة بايدن العثور على طريق للعودة إلى الاتفاق الأصلي.
بالنظر إلى كل ما سبق، فليس من المستغرب أنَّ جهود الولايات المتحدة لنشر الديمقراطية والقيم الليبرالية الأخرى في أنحاء العالم قد فشلت. ووفقاً لمؤسسة فريدوم هاوس، كان عام 2020 هو العام الخامس عشر على التوالي الذي تنخفض فيه مستوى الحرية العالمية، ويرفض حلفاء الناتو مثل بولندا والمجر الآن علناً القيم الليبرالية الرئيسية تحت غطاء الحماية الأمريكية.
وتقدم وحدة الاستخبارات الاقتصادية في مجلة The Economist تقييماً كئيباً بنفس القدر، إذ خلُصت إلى أنَّ "الديمقراطية العالمية واصلت تراجعها في عام 2020″، ولا يعيش سوى 8.4% فقط من سكان العالم في بلد ديمقراطي بالكامل. (لا يُحسَب الأمريكيون من بينهم). وبالنظر إلى هذا السجل، لا يوجد سببٌ كافٍ ليعتبر الأمريكيون أنفسهم قيادة رشيدة تستحق أن يتَبِع الآخرون في العالم الحر توجيهاتها دون تشكيك.
ومع ذلك، ينبغي على الولايات المتحدة مواصلة أداء دورٍ نشط في الشؤون الدولية، لكن على الأمريكيين إعادة التفكير في ماهية هذا الدور. وبدلاً من الافتراض أنَّ مكانة "قائد العالم الحر" هي حق مُكتسَّب ونتيجة حتمية لقوتها الخشنة، أو أنها شيء ينبثق طبيعياً من فضائلها "الاستثنائية" المُفترَضَة، يجدُر بالولايات المتحدة أن تسأل نفسها لماذا من مصلحة الدول الأخرى الاقتداء بها أو اتباع مشورتها. ومع الأسف، هذا ليس سؤالٌ تسهُل الإجابة عنه الآن.