تحوّل حي عدنان الحمدو إلى أطلال، بعد أن دمّرت نيران المدفعية البيت أو أحرقتها، وصارت المحال فارغة أو متهدمة، بينما باتت الحقول المجاورة قاحلة بعد أن هجرها مزارعوها، إذ تقع بلدته على خط المواجهة بين المعارضة السورية وقوات النظام، وقد نزح جيرانه وملايين آخرون بطول وسط وجنوب محافظة إدلب باتجاه المناطق الأكثر أماناً نسبياً في الشمال -بطول الحدود التركية- حيث تقع مخيمات النازحين التي تضخّمت لتصير أشبه بالمدن.
لكن الحمدو لا يزال صامداً، حتى بعد أن تفككت بلدته من حوله، إذ قال في مقابلةٍ أجراها مع صحيفة Washington Post الأمريكية داخل منزله: "الله وحده يعلم متى قد تتصاعد الأمور، لكن هذا المنزل هو أفضل من المخيمات".
إدلب.. خزان بشري ضخم في ظروف قاسية
فبعد سنواتٍ من التردد والجمود الذي أصاب المجتمع الدولي حول مصير إدلب، إحدى أهم معاقل المعارضة داخل سوريا؛ بدأت المحافظة تتغير، حيث انتصبت المباني السكنية والأسواق وسط الأراضي التي كانت في يومٍ من الأيام بساتين زيتون شاسعة بطول الحدود التركية، بينما يتحول مركز ثقل محافظة إدلب من الجنوب إلى الشمال، وهناك تعُجّ المدارس بالطلاب، وتصل الكهرباء بشكلٍ منتظم في بعض المناطق، كما أنّ حركة المرور صارت في حالة زحامٍ دائم.
وبالمقارنة، نجد أنّ مناطق إدلب الأخرى تبدو مُهملةً بقوسٍ يمتد من الشرق -قرب حلب- وحتى الجنوب عند خطوط المواجهة الأمامية وصولاً إلى مدينة جسر الشغور، التي تقع على طريق يقود إلى الساحل بطول الجنوب المهجور، نتيجة الصراع بين قوات المعارضة والحكومة التي تحاول منذ سنوات استعادة السيطرة على المحافظة المضطربة.
والسبب الكامن وراء تحوّل إدلب هو النزوح المستمر منذ سنوات بلا رحمة لملايين السوريين من كافة أنحاء البلاد، والعديد منهم نزح من منزله عدة مرات قبل أن ينتهي به المطاف داخل هذا المعقل. وإن بدا شمال المحافظة أشبه بالمدينة المزدهرة، لكن العديدين يرون فيها "مدينةً بائسة ومليئة بأشخاص يقتاتون على المعونات من المنظمات الإنسانية، بينما ينتظرون العودة إلى منازلهم"، كما تقول الصحيفة الأمريكية.
صعود مدن جديدة في الشمال السوري
تقول واشنطن بوست، إن نحو مليون شخص استقروا في منطقةٍ تضم أجزاءً من شمالي إدلب، بالقرب من الحدود التركية، وفقاً للأمم المتحدة. وتُنذِر السقالات الخشبية المتينة بتدشين مواقع إنشاءات جديدة، بينما تزدحم الأسواق المحلية بالباذنجان والبصل والبطيخ والكرز، في حين تُصارع الدراجات النارية مع الجرارات الزراعية على الطرق غير الممهدة.
وفي السنوات الماضية كان السكان المحليون يُشيرون إلى "عتمة"، أكبر مخيمات النازحين، بأنّه مخيمٌ لأولئك "العالقين على الحدود". وبالنسبة للبعض كان المخيم مجرد محطة على طريق محاولة العبور إلى تركيا بشكلٍ غير قانوني.
فحين وصل أحمد الحجازي هناك عام 2013، كانت هناك بضع مئات من العائلات في الخيام. وقبل خمس سنوات وصلت الأعداد إلى نحو 13 ألف عائلة داخل ما وصفته الأمم المتحدة بمخيم عتمة "المكتظ"، والآن هناك أكثر من 30 ألف عائلة، أو نحو 160 ألف شخص، إذ يقول الحجازي: "لقد صارت مدينة".
اللاجئون فقدوا الأمل في العودة إلى قراهم وبلداتهم
وبعد أن فقد الناس الأمل في العودة إلى بلداتهم وقراهم، مثل الحجازي؛ بدأوا في بناء المنازل، حيث قال الحجازي، الذي يعمل لدى منظمةٍ غير ربحية، إنّه بنى منزلاً من غرفتي نوم كلّفه نحو 10 آلاف دولار، بينما كان "الأثرياء" يبنون منازل من طابقين أو ثلاثة. وقد خلقت فورة البناء بعض الوظائف في هذا المجال، لكنّها لا تدفع للعاملين أكثر من ثلاثة دولارات في اليوم. بينما لا تزال الغالبية في حالة بطالة، والكثير منهم عالقٌ داخل الخيام.
ولا تتوافر الكهرباء بشكلٍ متواصل داخل عتمة، لكن إحدى الشركات السورية الجديدة وفّرت هذه الخدمة مؤخراً لبعض المناطق في شمالي إدلب. وهناك خطط -لم تتحقق بعد- لإعادة رصف الطرق المحلية وتوسعتها من أجل استيعاب حركة المرور المتزايدة.
وعلى نحوٍ متزايد، بدأت المنطقة تُشبه المدن التركية في ظل استخدام الليرة التركية كعملةٍ محلية -إلى جانب الدولار- وتوافر خدمات الهاتف الخليوي عبر الشبكات التركية. بينما تبني منظمة إغاثة تركية عشرات الآلاف من المنازل في المنطقة، وتقول دارين خليفة، كبيرة محللي سوريا في مجموعة الأزمات الدولية: "بدأت المخيمات تتحول إلى وضعٍ شبه دائم".
نيران الحرب لا تهدأ جنوبي إدلب
أنذرت موجة العنف خلال الأسابيع القليلة الماضية بالسوء، حيث اندلعت الاشتباكات بطول الخطوط الأمامية في جنوبي إدلب. إذ قتلت صواريخ النظام وضربات المدفعية على المناطق السكنية في إدلب وريف حلب نحو 13 طفلاً منذ أواخر الأسبوع الماضي. وكان أولئك الأطفال من بين عشرات المدنيين الذي لقوا مصرعهم في الهجمات الأخيرة بحسب عمال الإغاثة ومجموعات مراقبة الصراع، في تصعيدٍ أثار قلق السكان المحليين من اختمار مواجهةٍ عسكرية أكبر.
لكن الحمدو لا يزال عازماً على البقاء في منزله، وربما لديه القليل من الكهرباء -باستثناء ما توفره الألواح الشمسية- وهي تكفي بالكاد لتشغيل بعض الأضواء وربما "مروحة هواء" أحياناً، وضحك عند سؤاله عن كيفية تشغيل الثلاجة، ثم قال إنّه ليست هناك حاجة للثلاجة في غياب الكهرباء، إذ كان قد نزح ذات مرة، وسرق أحدهم كافة أبواب منزله في غيابه، لكن السارق لم يجد شيئاً آخر لسرقته.
ولبعض الوقت، عقب وقف إطلاق النار العام الماضي: "بدت الأمور شبه طبيعية". ورغم تصاعد التوترات مجدداً يرفض أشخاصٌ مثل الحمدو -الذين عادوا من المخيمات- أن يتركوا منازلهم مجدداً، حيث يرغبون في الدفاع عن ممتلكاتهم.
وقد وجد استطلاعٌ أجرته مؤخراً لجنة الإنقاذ الدولية أدلةً على تصاعدٍ مقلق في حالات الانتحار بشمال شرق سوريا، مع قول غالبية المشاركين إنّ الأسباب تشمل الاكتئاب ومشكلات الصحة العقلية أو العنف المنزلي ضد النساء. بينما قال 53% إنّ حالات الانتحار تحدث "نتيجة فقدان الأمل بسبب الأزمة المستمرة وتدهور الأوضاع". وأوضح الحمدو: "لقد خلّف العائدون من المخيمات وضعاً سيئاً وراءهم في المخيمات".