تمثل ندرة المياه مصدراً للتوترات الجيوسياسية حول العالم، ويبدو أن الفشل في التوصل لحل "دولي" يفرضه مجلس الأمن، يهدد باقتراب لحظة صدام تبدو حتمية بين مصر والسودان وإثيوبيا.
وتناولت صحيفة The Wall Street Journal الأمريكية الموقف المتأزم، مستخدمة وصف "الصدام المصري الإثيوبي حول سد النهضة"، في تقرير لها استعرض تاريخ العلاقة بين القاهرة وأديس أبابا منذ قرون مضت، وكيف تحول الموقف بصورة درامية في العقد الأخير.
وقالت الصحيفة في تقريرها إن "النزاع يتصاعد على نهر النيل، أطول نهر في العالم، مقترباً من ذروته. وعلى المحك يتفاقم الخطر على حياة وسبل عيش الملايين من الناس الذين يعتمدون على مياهه".
السبب الرئيسي للصراع بشأن سد النهضة
الموقف المصري الحالي من سد النهضة الإثيوبي مختلف بشكل عام عن المواقف السابقة بشأن نفس القضية بين البلدين، فالقاهرة الآن لا تعترض على إنشاء أديس أبابا لسد النهضة من حيث المبدأ، لكنها تريد اتفاقاً قانونياً ملزماً يضمن لها حصتها التاريخية من مياه النهر، خصوصاً في مواسم الجفاف والجفاف الممتد.
وتتركز اعتراضات مصر حالياً على مساعي إثيوبيا لبدء تشغيل السد بطريقة أحادية. وتقول إثيوبيا إنه مشروع لتوليد الطاقة الكهرومائية تأمل في أن يؤدي إلى نهضة اجتماعية واقتصادية في البلاد، غير أن وجه الاعتراض المصري أن إثيوبيا تفعل ذلك بلا اتفاق ملزم يحفظ حقوق القاهرة في مياه نهر النيل.
وفي هذا السياق وبعد أن بدأت إثيوبيا في الملء الثاني بالفعل، باتت مصر تعتبر هذا المشروع تهديداً قد يُفضي إلى قطع جميع المصادر الرئيسية للمياه تقريباً عن سكان البلاد، الذين يتزايد عددهم بسرعة، لاسيما أن مصر كانت لها سيطرة كبيرة على الوصول إلى مياه نهر النيل منذ الأزل.
وبشكل أكثر عمومية، أصبحت "ندرة المياه" تمثل مصدراً للقلق الجيوسياسي والاقتصادي والتجاري في جميع أنحاء العالم، في وقت تتسارع فيه الزيادة السكانية مع الحاجة المتزايدة إلى أنشطة الزراعة والصناعة التي تعتمد على المياه اعتماداً أساسياً.
ومن هذه الزاوية، يبرز الخلاف على نهر النيل، بوصفه أحد بؤر التوتر الرئيسية في العالم حول حقوق المياه، وقد اشتدت الخلافات في السنوات الأخيرة حول كمية المياه التي يُمكن لكل دولة على طول نهر النيل وروافده الاستفادة منها.
أخطرت الحكومة الإثيوبية نظيرتَها المصرية رسمياً، في 5 يوليو/تموز، بأنها بدأت المرحلة الثانية لملء الخزان العملاق الذي يقع خلف السد، دون اتفاق ملزم حتى الآن مع مصر والسودان بشأن كمية المياه التي ستُخصَّص لكل دولة بمجرد ملء السد. وقال مسؤولون إثيوبيون إنهم يأملون أيضاً في إجراء تجارب لتوليد الطاقة الكهرومائية من السد هذا العام.
ماذا الآن وقد أعاد مجلس الأمن القضية للمربع صفر؟
من جانبها، قالت وزارة الخارجية المصرية إن خطوة استئناف ملء الخزان بعد إتمام المرحلة الأولى العام الماضي، بلا اتفاق ملزم، هي خطوة تهدد "الأمن والسلام" في المنطقة.
وسعت مصر والسودان إلى حشد ضغوط على الأمم المتحدة والولايات المتحدة ودول أخرى، للمعاونة في منع إثيوبيا من ملء السد قبل أن تتوصل الدول الثلاث إلى اتفاق ملزم قانوناً بشأن تشغيله. فيما أيَّد أعضاء مجلس الأمن الدولي يوم الخميس 8 يوليو/تموز، جهودَ الاتحاد الإفريقي للتوسط في النزاع، وهو ما يعني عملياً إعادة المفاوضات إلى المربع الأول.
ورغم تشديد الرئيس الأمريكي جو بايدن على اهتمام الولايات المتحدة بالتوصل إلى حل دبلوماسي يلبي الاحتياجات المشروعة للدول الثلاث، فإن مناقشات مجلس الأمن أظهرت بوضوح أن الاتجاه العام للدول الكبرى هو عدم التدخل في النزاع، رغم أن مصر والسودان وإثيوبيا تتفاوض منذ أكثر من عقد كامل دون الوصول لاتفاق.
وحالياً تستهلك مصر، التي يزيد عدد سكانها على 100 مليون نسمة نحو 84 مليار متر مكعب من المياه، وبحسب بيانات وزارة الري المصرية، فإنها تحتاج إلى نحو 114 مليار متر مكعب كل عام، يأتي منها نحو 55.5 مليار متر مكعب من نهر النيل، وهو ما يعني أن أي نقصان في حصة مصر من مياه نهر النيل يمثل تهديداً وجودياً للبلاد، بحسب وصف المسؤولين المصريين.
فالدولة المصرية تعتمد على نهر النيل في أكثر من 90% من احتياجاتها من المياه العذبة، ولتلبية بقية احتياجاتها، تعتمد مصر على إعادة تدوير مياه الصرف الصحي وتحلية مياه البحر، وكذلك توفير المياه العذبة عن طريق الاعتماد بدرجة أكبر على استيراد احتياجاتها الغذائية (ما يُعرف باستيراد الماء الافتراضي).
كيف وصلت الأمور لهذا الطريق المسدود؟
تعتبر إثيوبيا، وهي دولة يبلغ عدد سكانها قرابة 115 مليون نسمة، وكانت حتى وقت قريب أحد أسرع الاقتصادات نمواً في العالم، السد حافزاً لتسريع عملية تحول البلاد من الاقتصاد الزراعي إلى الاقتصاد الصناعي، وتأمل أن يقطع مشروع سد النهضة بها شوطاً طويلاً في سد عجز الطاقة.
تتدفق المياه إلى نهر النيل من روافد 10 دول، ووفقاً لمجموعةٍ متنوعة من الاتفاقيات طويلة الأمد، يجب إطلاق كمية معينة من المياه من كل دولة، ما يضمن بدرجة أساسية تدفقاً ثابتاً لدولة المصب الأخيرة مصر.
وتتمتع مصر بحقوق تاريخية في استخدام مياه النيل، فقد أعطت اتفاقية عام 1929، التي شملت المملكة المتحدة (الاحتلال البريطاني)، التي حكمت معظم منطقة النيل في ذلك الوقت، مصر الحقَ في نقض أي مشروعات لبناء سدود، حتى في دول المنبع، ما دامت تؤثر على كمية المياه التي ستصل إليها بصفتها دولة المصب.
ووفقاً لاتفاقية عام 1959، تتلقى مصر 55.5 مليار متر مكعب من مياه النيل سنوياً، وتسحب السودان 18.5 مليار متر مكعب. ولا تمثل مياه نهر النيل مصدراً للمياه في إثيوبيا، لتعدد مواردها المائية الأخرى، لكن السد الجديد ستكون له سعة تخزين تصل إلى 74 مليار متر مكعب من المياه، بينما تعاني مصر شحاً في إمدادات المياه، وتتوقع الأمم المتحدة أنها ستواجه مشكلات أكثر وعورة حيال ندرة المياه بحلول عام 2025.
طالبت دول منطقة منابع النيل بمزيدٍ من الحقوق لها في مياه النيل، وفي التسعينيات احتشدت معاً لمعارضة ما تدعيه من سيطرة لمصر على حوض النيل، وحق النقض الذي تحوزه ضد مشروعات بناء السدود المهددة لحصتها على طول النهر.
ولطالما كان الخلاف حول الوصول إلى نهر النيل مصدرَ قلق وتوترات في العلاقات بين مصر وإثيوبيا، وهي علاقات تعود إلى عصور قديمة، وتعد من بين أقدم العلاقات في القارة الإفريقية، وقبل قرون هدد إمبراطور إثيوبي بقطع مياه النهر المتدفقة إلى مصر.
وفي عام 1979، سعت مصر إلى منع خطط إثيوبيا الناشئة لبناء سد على نهر النيل، فيما عارضت إثيوبيا خطةً مصرية لتحويل مسار النهر لري شبه جزيرة سيناء، وهي خطوة زعمت إثيوبيا أنها قد تخفض مستويات المياه في حوض النيل.
وازدادت العلاقات تدهوراً بعد محاولة لاغتيال الرئيس المصري الراحل حسني مبارك في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا عام 1995، عندما نصب مسلحون كميناً لموكبه خلال زيارة للاجتماع مع زعماء أفارقة.
وفي عام 2011، عندما كانت مصر في غمار احتجاجات الربيع العربي، بدأت إثيوبيا مشروعها العملاق لبناء السد. وأبرمت إثيوبيا صفقةً مع شركة Webuild، وهي شركة إيطالية لها باع في بناء السدود ومحطات توليد الطاقة الكهرومائية في إثيوبيا.
وفي عام 2015، وقّعت إثيوبيا ومصر والسودان إعلان مبادئ أعطى الأولى الحق في إكمال سد النهضة دون الإضرار بدولتي المصب، وهو الاتفاق الذي تقول أديس أبابا الآن إنها ملتزمة ببنوده، بينما تتهمها القاهرة والخرطوم بالعكس. وكان من المفترض أن تؤدي جولات المفاوضات اللاحقة إلى توقيع اتفاقٍ كامل، لكن لا تزال الخلافات قائمة بشأن تدابير التعامل مع فترات الجفاف وحل النزاعات، وما إذا كان الاتفاق سيتمتع بالإلزامية القانونية.
هل لا يزال الحل الدبلوماسي قائماً؟
تريد مصر والسودان اتفاقاً ملزماً، فيما تفضل إثيوبيا أن تحظى بمزيد من المرونة، وقد وقف السودان إلى جانب كل طرف في نقاط مختلفة من المواجهة. وقالت الأمم المتحدة هذا الشهر إن أعمال بناء السد شارفت على الانتهاء، وذكرت وسائل إعلام إثيوبية أن 80% من أعمال بناء السد تمَّت.
وعندما بدأت إثيوبيا في ملء السد في يوليو/تموز 2020، سعت مصر إلى وساطة دولية. وحشدت مصر دعماً من جامعة الدول العربية للضغط على إثيوبيا لوقف الملء حتى التوصل إلى اتفاق ملزم، وحصلت مصر على دعم كبير، لكن ليس دعم السودان، الذي كان يخشى صراعاً عربياً مع إثيوبيا. وفي يونيو/حزيران، حاولت مصر دون جدوى إقناع مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بالتدخل.
وقالت حفصة حلاوة، وهي محللة معنية بشؤون القرن الإفريقي وزميلة غير مقيمة في معهد الشرق الأوسط، للصحيفة الأمريكية إن المشكلة الرئيسية لمصر هي أنه حتى الآن لم يُوقع اتفاق ملزم ولم تُعقد دراسات تامة حول قدرة تأثير السد على تدفق النيل وتأثيره المادي على دول المصب.
تعثرت المحادثات منذ أن بدأت إثيوبيا في ملء السد دون اتفاق منذ العام الماضي. وأدى استئناف الملء واحتمال أن يبدأ السد في توليد الطاقة قريباً إلى تصعيد الضغوط المحيطة بالمحادثات.
في إثيوبيا، أصبح السد، الذي سيكون الأكبر في إفريقيا عند اكتماله، محلّ فخر، ويعمل نحو 8500 عامل ليلاً ونهاراً لإتمام بنائه. وتبشر الحكومة الإثيوبية بأهمية السد لما سيوفره لها من نفوذ سياسي، بالإضافة إلى المكاسب الاقتصادية والاجتماعية.
وفي المقابل، يقول مسؤولون سياسيون في مصر إن الحكومة لديها القدرة على إيقاف المشروع، بالقوة إذا لزم الأمر. وكان السيسي استبعد في السابق إمكانية اللجوء إلى عمل عسكري ضد إثيوبيا، قائلاً إنه يفض المفاوضات، لكن مع انهيار المحادثات مع إثيوبيا هذا العام، عاد السيسي ليقول إن "كل الخيارات مفتوحة".
في الوقت نفسه، اتجهت مصر إلى تحديث أنظمة الري في البلاد، والتحول إلى الري بالتنقيط الأقل هدراً والأكثر كفاءة من أنظمة الري بالغمر القديمة. والري هو الخيار الوحيد للإنتاج الزراعي على نطاق واسع في مصر، ويساعد خزان السد العالي في أسوان البلاد على التخفيف من آثار نقص المياه في فترات الجفاف. كما أطلقت مصر كذلك حملةَ توعيةٍ عامة تهدف إلى حثِّ السكان على الحفاظ على المياه.
وفي حين أن النيل هو مصدر المياه الأساسي لمصر، فإن دول حوض النيل الأخرى، وعلى رأسها إثيوبيا تتلقى المياه أيضاً من مصادر عديدة أخرى، مثل الأمطار والمياه الجوفية والبحيرات والأنهار، غير أن إثيوبيا شهدت عدة موجات جفاف مدمرة تلاها نقص في إمدادات الغذاء ومجاعات.
الخلاصة هنا أن إثيوبيا تعتبر إعادة مجلس الأمن قضية السد إلى الاتحاد الإفريقي يمثل نجاحاً لدبلوماسيتها، بينما ترى مصر أن المفاوضات لا يمكن أن تستمر للأبد مع الإصرار على أن "جميع الخيارات مطروحة" للحفاظ على حقوقها المائية، والسؤال الآن يتعلق بمدى اقتراب لحظة "الصدام" التي يبدو أنها باتت حتمية.