كانت ديفلا أجسيتش تبلغ من العمر 21 عاماً، وكانت حاملاً في شهرها الثالث في يوليو/تموز 1995 عندما تعرضت لاعتداءات جنسية واغتصابات متكررة في سريبرينيتسا في البوسنة، بينما أُخِذ خطيبها وآلاف من الرجال والصبية معظمهم من المسلمين، وأُعدِموا في الإبادة الجماعية الوحيدة المعترف بها في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية.
وبعد عقدين ونصف العقد لم تتحدث أجسيتش علناً عن الفظائع التي كَابَدتها بعدما اقتحمت قوات صرب البوسنة البلدة الشرقية في البوسنة في الأشهر الأخيرة من حرب الدولة البلقانية 1992-1995.
وقالت ديفلا، البالغة من العمر 47 عاماً، لصحيفة The Washington Post الأمريكية: "كتمت كل شيء بداخلي لمدة 26 عاماً وعانيت في صمت. لم يكن لدي أحد أثق به، ولا أحد أشاركه ألمي"، وهي تقوي نفسها وتتحدث علناً أخيراً عن محنتها عشية الذكرى الـ26 للمذبحة، التي توافق يوم الأحد 11 يوليو/تموز.
خدّروها وقيّدوها واغتصبوها مراراً في سريبرينيتسا
عندما استولت القوات الصربية البوسنية على سريبرينيتشا، التي أعلنتها الأمم المتحدة "ملاذاً آمناً" للمدنيين في عام 1993، هرع نحو 30 ألفاً من سكانها المسلمين المذعورين إلى مُجمَّع الأمم المتحدة عند مدخل المدينة؛ على أمل أن تحميهم قوات حفظ السلام الهولندية هناك.
ومع ذلك، وقفت قوات حفظ السلام تراقب بلا حول ولا قوة القوات الصربية، التي فاقتها سلاحاً وعدداً، وهي تقتاد نحو 2000 رجل وصبي من المُجمَّع لإعدامهم، وتغتصب النساء والفتيات، ثم تنقل النساء والأطفال وكبار السن إلى الأراضي التي يسيطر عليها مسلمو البُشناق (البوسنة).
وقالت ديفلا إنها تعرضت لاعتداء جنسي وتعذيب لمدة ثلاثة أيام قبل أن تغادر سريبرينيتسا في واحدة من آخر الحافلات المكتظة باللاجئين.
وكشفت ديفلا أنَّ الجنود الصرب خدَّروها؛ مما أدى إلى تشوش ذهنها، لكنها كانت تدرك تماماً أنها ليست المرأة الوحيدة التي ظلَّت مقيدة وتتعرض لاغتصاب مروعّ في أحد عنابر مُجمَّع الأمم المتحدة آنذاك.
وقالت عن هؤلاء النساء إنه "لا توجد كلمات لوصف صراخهن وبكائهن طلباً للمساعدة. كنا مثل الحملان، مثل قرابين تنتظر سكيناً لتذبحنا".
مطاردات وإعدامات ودفن في مقابر جماعية
ومع ذلك، فهي تعتقد أنَّ كابوسها الشخصي، بما في ذلك فقدان الجنين الذي اضطرت لإجهاضه بعد فرارها من سريبرينيتسا، يتضاءل أمام موجة القتل التي استمرت أسبوعاً من قبل صرب البوسنة والتي قُتِل خلالها أكثر من 8000 رجل وصبي معظمهم من المسلمين من المدينة.
وتعرَّض معظم الضحايا للمطاردة، ثم الإعدام بإجراءات موجزة، أثناء محاولتهم الفرار إلى الغابة المجاورة. ودُفِعَت جثثهم إلى مقابر جماعية حُفِرَت على عجل، ثم نُبِشَت في وقت لاحق بالجرافات ووُزِعَت بين مواقع الدفن الأخرى لإخفاء أدلة على الجريمة.
وقد كرَّست العديد من زوجات وأمهات وأخوات وبنات القتلى في سريبرينيتسا حياتهن للنضال من أجل كشف حقيقة ما حدث لرجالهن والبحث عن رفاتهم. لكن برغم مرور أكثر من ربع قرن، تحدث عددٌ قليل فقط علناً عن الاعتداء الجنسي الذي تعرضن له خلال سقوط سريبرينيتسا.
وأصرت النساء بعناد على موقفهن عندما واجهن معارضة سياسية لطلبهن إقامة مقبرة تذكارية على الجانب الآخر من قاعدة الأمم المتحدة الهولندية السابقة، حيث يُعَاد دفن رفات أحبائهن المُكتَشَفَة، في ذكرى 11 يوليو/تموز من كل عام منذ 2002.
ومثَّلت نساء البوسنة (البُشناق) في سريبرينيتسا أيضاً عنصراً أساسياً في القضايا المرفوعة ضد الأمم المتحدة وهولندا بسبب فشل قوات الأمم المتحدة الهولندية في حماية المدنيين في البلدة في عام 1995، واعتماد قرار البرلمان الأوروبي لاعتماد يوم 11 يوليو/تموز ذكرى الإبادة الجماعية في سريبرينيتسا.
ومن بينهن، منيرة سوباشيتش، التي فقدت زوجها وابنها و22 من أقاربها الذكور في المذبحة. وأدلت منيرة مع عشرات أخريات بشهاداتهن أمام محكمة خاصة لجرائم الحرب تابعة للأمم المتحدة في لاهاي لمحاكمة مرتكبي الجرائم خلال حروب البلقان في التسعينيات التي أعقبت تفكك يوغوسلافيا السابقة؛ مما ساعد على وضع القائدين السياسيين والعسكريين من صرب البوسنة وقت الحرب، كارادزيتش وراتكو ملاديتش، خلف القضبان، بعد إدانتهما بارتكاب جرائم إبادة جماعية وجرائم حرب ومعاقبتهما بالسجن مدى الحياة.
الصرب ما زالوا ينكرون جرائمهم المروعة بحق مسلمي البوسنة حتى اليوم
وبرغم وصف المحاكم الدولية والوطنية لمذبحة سريبرينيتسا بأنها إبادة جماعية، ما يزال المسؤولون الصرب والصرب البوسنيون يقللون من فداحة الجرائم المُرتَكَبة أو ينكرونها.
قالت منيرة سوباشيتش: "علينا أن نواصل النضال من أجل الحقيقة والعدالة من أجل منع الأجيال الشابة (في البلقان) من انتقال الكراهية إليهم بسبب السعي للانتقام".
وأضافت: "آمل أن يستيقظ ضمير العالم وأن يحمينا مثلما حمى الأمهات اليهوديات، وأن يساعدنا في استصدار قانون ضد إنكار الإبادة الجماعية، وتجنيبنا الإساءة والإذلال بسبب نكرانه ما حدث". وأكدت: "حينها فقط سنبدأ نحن وأطفالنا في عيش حياة طبيعية".
لقد منع القادة السياسيون من صرب البوسنة باستمرار البلاد من تبني قانون يحظر إنكار الإبادة الجماعية، حتى إنَّ العضو الصربي في رئاسة البوسنة، ميلوراد دوديك، وصف علناً مذبحة سريبرينيتسا بأنها "أسطورة مُلفَّقة".
"إنكار نشط ومؤسسي للإبادة الجماعية"
من جانبه، قال أمير سولاغيتش، مدير مركز سريبرينيتسا التذكاري، إنَّ ما تواجهه النساء المسلمات البوسنيات مثل منيرة هو "إنكار نشط ومؤسسي للإبادة الجماعية" من المسؤولين الصرب والصرب البوسنيين.
وأضاف سولاغيتش أنَّ "الأشخاص الذين شاركوا في الإبادة الجماعية ما زالوا على قيد الحياة والطبقة السياسية التي استثمرت بشدة في (جرائم الحرب) في التسعينيات لا تزال في السلطة"، مشيراً إلى أنَّ الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش كان وزيراً متطرفاً سابقاً، وفي يوليو/تموز 1995، هدَّد بقتل 100 بوسني مسلم مقابل كل صربي يُقتَل إذا تدخَّل المجتمع الدولي لوقف مذبحة سريبرينيتسا.
لكن الآن أعاد فوتشيتش توصيف نفسه بأنه مُصلِح مؤيد للاتحاد الأوروبي، ومع ذلك، لم يمنعه هذا من إدانة ما اعتبره قرارات "خائنة"، والتي صدرت مؤخراً من دولتي مونتينيغرو (أو الجبل الأسود) وكوسوفو، التي تدين الإبادة الجماعية في سربرينيتسا وتحظر إنكارها.
بعد أن عادت ديفلا أجسيتش قبل عام إلى سريبرينيتسا مع ابنها البالغ من العمر 24 عاماً وعائلته، بعدما عاشت لعقود في منطقة وسط البوسنة، لم تعد تعتقد أنَّ الحياة الطبيعية ممكنة بعد ما تكبدته من أهوال.
وقالت: "عدت للعيش في سريبرينيتسا، لكنني خائفة من السير في الشوارع هنا لأنني لا أعرف من هم الأشخاص الذين يقودون السيارات من حولي، وما طبيعتهم".