فشلت الولايات المتحدة في تحقيق أهدافها من غزو أفغانستان، وانسحبت بعد عقدين كاملين، والآن ترتبط أي خطط مستقبلية تسعى إدارة جو بايدن إلى وضعها بموافقة بوتين، الذي وصفه بايدن "بالقاتل".
فمنذ إعلان الرئيس الأمريكي أن بلاده ستنهي انسحابها من أفغانستان قبل الذكرى العشرين لهجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001، يسعى كبار المسؤولين في إدارته إلى التوصل لاتفاق مع أي من دول آسيا الوسطى المجاورة لأفغانستان، للسماح بتمركز قوات أمريكية قادرة على التدخل لمنع ما قد تراه واشنطن تهديداً لها مصدره أفغانستان.
لكن تحتاج الولايات المتحدة إلى مساعدة من "خصم أزلي" حتى تتمكن من تخليص نفسها من أطول حرب خاضتها أمريكا، والمقصود هنا هو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بحسب تقرير لمجلة Politico الأمريكية، عنوانه "كيف يستطيع بوتين تعطيل خطط بايدن لما بعد الانسحاب من أفغانستان".
أي مأزق يواجهه بايدن بعد الانسحاب؟
تواصلت إدارة بايدن في الأسابيع الأخيرة بهدوءٍ مع حكومات آسيا الوسطى، أملاً في استخدام واحدة أو أكثر من أراضي هذه الدول لاستضافة قواعد لها، بعد إكمال الانسحاب من أفغانستان، إذ لدى الولايات المتحدة مطلبان أساسيان: مركز انطلاق كي تواصل من خلاله مراقبة ما يحدث في أفغانستان، واستضافة مؤقتة لآلاف الأفغان الساعين للحصول على تأشيرات إلى الولايات المتحدة.
فالتساؤلات المزدوجة المتعلقة بالوصول إلى طريقة لمراقبة ما يحدث على الأرض، وتأمين الأفغان الذين عملوا مع القوات الأمريكية بعد انسحاب الولايات المتحدة صارت أكثر إلحاحاً يوم الجمعة 2 يوليو/تموز، حينما تركت القوات الأمريكية قاعدة باغرام الجوية، التي تعد أكبر قاعدة عسكرية لها في أفغانستان ومركز الحرب الأمريكية هناك لأكثر من عقدين. وحتى الثلاثاء 6 يوليو/تموز، أتم الجيش الأمريكي 90% من عملية الانسحاب، وذلك حسبما أفادت القيادة المركزية.
وكان المقترح حاضراً ضمن الأجندة يوم الخميس 1 يوليو/تموز، عندما التقى وزير الخارجية أنتوني بلينكن في مقر وزارة الخارجية بنظرائه من طاجيكستان وأوزبكستان، اللتين تعدان الدولتين الأقرب من بين دول آسيا الوسطى الست التي ينظر إليها مخططو الجيش الأمريكي من أجل تنفيذ هذه الخطة، وذلك وفقاً لمصدر من الكونغرس.
تجاور كلتا الدولتين أفغانستان، ويمكن أن تسمح كلتاهما بدخول أفغانستان مرة أخرى أسرع من القواعد الأمريكية الموجودة في الشرق الأوسط ومن حاملات الطائرات المتمركزة في مياه الخليج، التي تبعد مئات الأميال.
كذلك التقى وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن بوزير خارجية طاجيكستان الجمعة 2 يوليو/تموز. وفي غضون ذلك، سافر مبعوث الولايات المتحدة إلى أفغانستان، زلماي خليل زاد، إلى طاجيكستان في مايو/أيار. لم تأت بيانات اجتماعات بلينكن المنعقدة يوم الجمعة على أي ذكر للمقترح، لكنها ذكرت أن المسؤولين اتفقوا على أن إنهاء الصراع الأفغاني يمكن أن يفيد المنطقة.
لماذا تحتاج أمريكا لموافقة روسيا؟
يتمثل المأزق الأمريكي في كل تلك التحركات في قدرة موسكو على استخدام نفوذها الاقتصادي والعسكري في المنطقة لتعطيل هذه المخططات، وذلك حسبما يقول مسؤولون وخبراء أمريكيون.
لن تكون هذه المرة الأولى التي تتمركز فيها القوات الأمريكية في آسيا الوسطى دعماً للحرب الأفغانية، لكن احتمالية الوصول إلى اتفاقية كهذه مع إحدى دول آسيا الوسطى تبدو غير محتملة الآن، بالنظر إلى تعكر صفو العلاقة بين واشنطن وموسكو، التي وصلت إلى أدنى مستوياتها منذ الحرب الباردة.
ومن الواضح أن قمة بايدن وبوتين في جنيف، يونيو/حزيران الماضي، لم تحقق الكثير لتنقية الأجواء بين البلدين، رغم عودة السفراء إلى ممارسة مهامهم. وبالتالي فإن ما وصفه البعض "بالكابوس" الذي يواجهه بايدن في أفغانستان بعد الانسحاب يضع الرئيس الأمريكي تحت رحمة نظيره الروسي، بعد أن كان بايدن قد وصف بوتين "بالقاتل"، في معرض التعليق على اعتقال المعارض الروسي الأبرز أليكسي نافالني.
والقصة هنا تتعلق بكون غالبية الدول التي "تغازلها" واشنطن حالياً تعتمد على روسيا -وعلى الصين بدرجة ما- على صعيد الصادرات، وكذلك المعدات العسكرية والتدريب. إذ تحتاج جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابقة إلى موافقة ضمنية من موسكو كي تسمح للقوات الأمريكية بالتمركز فوق أراضيها، وهو ما يقوله الخبراء.
فالعلاقات التي تجمع دول آسيا الوسطى بروسيا تصعّب من أن تطلب منها الولايات المتحدة استضافة آلاف المترجمين الأفغان والآخرين الذين ساعدوا القوات الأمريكية خلال الحرب.
وقال تيمور عمروف، مستشار الأبحاث في مركز كارنيغي في موسكو، لبوليتيكو إن روسيا لا تطلب من مواطني البلاد التي ترجو أمريكا تنفيذ مخططها فيها، الحصول على تأشيرة لدخول البلاد -وهي أوزبكستان وطاجيكستان وكازاخستان- ولذا سوف يتوجب على موسكو إضافة مزيد من التدابير الأمنية للسيطرة على الحدود. فضلاً عن أن الأوضاع الاقتصادية المتدهورة والموجة الأخيرة من الجائحة تعني أن هذه البلاد لن توافق على الأرجح على قبول مزيد من المهاجرين.
جمهوريات الاتحاد السوفييتي تعتمد على روسيا
عندما يتعلق الأمر بتمركز القوات الأمريكية، فمن المؤكد أن روسيا لن تتقبل الفكرة بسماحة، بحسب عمروف، مع أن طاجيكستان لديها تاريخ شهد على العمل مع الولايات المتحدة، بما في ذلك السماح لطائرات الجيش الأمريكي بالتزود بالوقود من مطارات البلاد في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، تشهد العلاقات فتوراً مع الولايات المتحدة، إذ إن رئيس طاجيكستان، إمام علي رحمن، الذي لا يزال في السلطة منذ تسعينيات القرن الماضي لم يزُر الولايات المتحدة منذ عام 2002.
وعلى الصعيد العسكري، تعد طاجيكستان عضواً في منظمة معاهدة الأمن الجماعي، وهو تحالف عسكري من بعض دول الاتحاد السوفييتي السابقة، وتستضيف بالفعل قاعدة عسكرية روسية على أراضيها. وتُشيّد الصين هي الأخرى موقعاً على الحدود مع أفغانستان.
قال عمروف إن روسيا والصين لديهما اليوم كل الأسباب الوجيهة لعرقلة خطوة تمركز القوات الأمريكية في طاجيكستان، أو في أي دولة أخرى من دول آسيا الوسطى. في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول قبل 20 عاماً، تشاركت موسكو وبكين مع واشنطن في المخاوف المتعلقة بأفغانستان، لكن ذلك التهديد انحسر الآن، والمنافسة بين الدول الثلاث اشتدت. أضاف عمروف أن روسيا على وجه الخصوص ترى أن جهود أمريكا في أفغانستان ما هي إلا طريقة أخرى لتقليص نفوذ روسيا. وتابع قائلاً: "ثمة تفاهم بين موسكو وبكين حول هذه المسألة. وآسيا الوسطى لن تغامر بخسارة علاقاتها طويلة الأمد مع روسيا والصين لمساعدة الولايات المتحدة".
ومن بين الدول المجاورة لأفغانستان -وهي الصين وإيران وباكستان وأوزبكستان وتركمانستان- تبدو الخيارات المتبقية محدودة أمام واشنطن. فبعد استبعاد الصين وإيران من هذه الحسبة، أغلق رئيس الوزراء الباكستاني، عمران خان، الباب بعبارات لا لبس فيها أمام احتمالية تمركز القوات الأمريكية في البلاد.
أما تركمانستان، التي وصفها عمروف بأنها "كوريا الشمالية في آسيا الوسطى"، فلم تعرب عن أي اهتمام بالتعاون مع الولايات المتحدة على صعيد الصراع في أفغانستان، بل والأكثر من ذلك أنها أكثر اعتماداً على بكين من بقية جيرانها.
تشكل أوزبكستان إذن أكثر الفرص الواعدة بالنسبة للبلاد التي تشترك في حدودها مع أفغانستان، وذلك حسبما قال الخبراء، إذ إنها أقل اعتماداً على روسيا والصين من الدول الأخرى، وليست عضواً في منظمة معاهدة الأمن الجماعي، ولا تستضيف أي قواعد عسكرية أجنبية، وفي غضون ذلك أعاد الرئيس شوكت ميرضيايف العلاقات مع الولايات المتحدة، حتى إنه زار واشنطن مؤخراً.
وتملك أوزبكستان تاريخاً من إيواء القوات الأمريكية، فقد أجّر الرئيس الأوزبكتساني آنذاك، إسلام كريموف، قاعدة كرشي خان آباد الجوية إلى الأمريكيين بين عامي 2001 و2005. إضافة إلى أن العاصمة الأوزبكستانية طشقند كانت مقراً لضابط الاتصال المكلف من حلف الناتو في آسيا الوسطى.
غير أن عمروف قال إن احتمالية استضافة قوات أمريكية في أوزبكستان بعد الانسحاب سوف يقابَل على الأرجح بمعارضةٍ شديدةٍ من كل موسكو وبكين، وكذلك من المجتمع الأوزبكستاني، الذي يرى أن أي تدخل في الصراع في أفغانستان يحمل آثاراً سلبية.
وتجدر الإشارة إلى أن أي اتفاق لتمركز القوات سوف يتطلب تغيير القانون الأوزبكستاني، إذ ينص القانون الحالي على عدم السماح بتمركز أي قواعد أجنبية على الأراضي الأوزبكستانية، وذلك حسبما قال عمروف.
غياب الثقة في الولايات المتحدة
يمكن أن تنظر إدارة بايدن إلى أبعد من هذا المحيط، مثل قيرغيزستان، التي لا تتشارك حدوداً مع أفغانستان، لكنها لديها تاريخ من استضافة القوات الأمريكية. بيد أن قيرغيزستان، مثل طاجيكستان، تعتمد اعتماداً كبيراً على تحويلات الأموال التي يرسلها العمال المهاجرون إلى روسيا، وعلى الاستدانة من الصين، وذلك وفقاً لعمروف، الذي أضاف أن المشكلة الأكبر بالنسبة لواشنطن تكمن في الاضطرابات السياسية التي تشهدها البلاد. فقد شهدت قيرغيزستان ثلاث ثورات في الـ15 سنة الماضية، وإذا استمر انعدام القدرة على التنبؤ بالأوضاع فقد تعجز وزارة الدفاع (البنتاغون) عن ضمان أمن القوات الأمريكية داخل البلاد.
وفي غضون ذلك، تبدو كازاخستان خياراً أقل جدوى؛ نظراً إلى أنها تقع بين روسيا والصين، وتعد أحد أقرب حلفاء موسكو وأحد أكبر الشركاء التجاريين للصين في المنطقة، بجانب أن بُعدها عن أفغانستان يجعلها موقعاً أقل حيوية بالنسبة للقوات الأمريكية التي ستنتقل منها وإليها.
لعل واشنطن تستطيع بدرجة ما الاستفادة من تخفيف العقوبات ومنح الاعتراف الدولي مقابل الحصول على اتفاق، مثل أن تساعد أوزبكستان في تحقيق هدفها الرامي إلى الانضمام إلى منظمة التجارة الدولية.
لكن الطريقة الوحيدة في العموم لدى إدارة بايدن للوصول إلى اتفاق لتستضيف إحدى دول آسيا الوسطى قاعدةً للقوات الأمريكية على أراضيها، تكمن في إقناعها بأن "المزايا السياسية والمالية لهذا التعاون سوف تتجاوز الخسائر الأكيدة التي ستتكبدها دول آسيا الوسطى بكل تأكيد، نتيجة رفض روسيا والصين"، وذلك حسبما قال عمروف. وتابع قائلاً: "لا يمكن وصف آسيا الوسطى بأنها أولوية للسياسة الخارجية للولايات المتحدة. في الوقت الحالي تستوعب آسيا الوسطى أن الولايات المتحدة ليست مستعدة لموازنة ثقل روسيا والصين في المنطقة، لكنها تحتاج إلى آسيا الوسطى من أجل المصالح قصيرة الأمد".