مر عقدان من الحرب الأمريكية على أفغانستان دون أن تحقق الولايات المتحدة الهدف الأساسي من هذه المعركة وهو القضاء على حركة طالبان التي كانت يوماً ما تحكم كابول، ولكن رغم كل الخسائر المادية والبشرية باتت طالبان على بُعد أشهر من العودة إلى الحكم وأصبحت أمريكا تستعد للرحيل عنها نهائياً.
قبل 20 عاماً، كانت قاعدة باغرام الجوية في أفغانستان مُرتَكَز الحرب الأمريكية، التي يُستخدَم مهبطاها المزدوجان الممتدان لمسافة طويلة منصةً لشن الغارات الجوية، وإقلاع الرحلات العائدة إلى الوطن، وإجلاء الحالات الطبية، من بين مهمات أخرى، بحسب تقرير لصحيفة The New York Times الأمريكية.
لكن على الرغم من سنوات التحضير للحظة رحيل الأمريكيين، صاحب رحيلهم من باغرام في الأسبوع الماضي ضجة قليلة، وبدا مُفكَّكاً مثل خطة الحكومة الأفغانية لما سيحدث بعد ذلك.
ومنذ أسابيع، تشن حركة طالبان هجمات في جميع أنحاء البلاد؛ مما أسفر عن مقتل أفراد من قوات الأمن الأفغانية وإجبار مئات آخرين على الاستسلام. ويشير التقارب بين القوات الحكومية ومقاتلي طالبان وأمراء الحرب وميليشيات المواطنين إشارةً شبه مؤكدة إلى أن الحركة باتت قريبة من العودة للمشهد السياسي مرة أخرى.
ماذا تركت الولايات المتحدة في أهم قاعدة بأفغانستان؟
في باغرام، السكان الجدد في القاعدة هم قوات الأمن الأفغانية التي سترث الصراع الذي بنته الولايات المتحدة لهم، إلى جانب حقول المعدات العسكرية والمركبات والأسلحة التي ستمثل لفترة طويلة إرث الحرب القاتم ومستقبل البلاد المجهول.
ولمواصلة القتال، تركت الولايات المتحدة وراءها شاحناتها الصغيرة ذات اللونين البني والأخضر وعرباتها الهامفي (سيارات أمريكية متعددة المهام عالية الأداء)، جنباً إلى جنب مع حواجز Hesco العسكرية، والصناديق المُكعّبة المليئة بالأوساخ التي استُخدِمَت لبناء المعسكرات الاستيطانية الأمريكية وحمايتها، التي أصبحت أفغانية الآن.
لكن مسلحي طالبان استولوا على العديد من الأسلحة التي قدمتها الولايات المتحدة أو اشتروها؛ لدرجة أنه إذا قالت طالبان إنَّ بحوزتها بنادق "إم-16" أكثر من بنادق الكلاشينكوف الروسية، فسيكون من الصعب التحقق من صحة ذلك. حتى المفتش العام الأمريكي الخاص الذي يشرف على الحرب في أفغانستان ليس متأكداً من عدد الأسلحة النارية الأمريكية التي أُرسِلَت إلى البلاد لدعم قوات الأمن في العقدين الماضيين.
والأشياء المادية التي تُرِكَت هي تذكير بعقود من الخسارة شهدت أعداداً هائلة من القتلى من جميع الجوانب، لا سيما بين المدنيين الأفغان، فضلاً عن الإصابات المدمرة. كما أنَّ جزءاً من التاريخ الآن هو الاستراتيجيات الفاشلة التي جمعها معاً سلسلة من الجنرالات الأمريكيين، الذين قالوا إنَّ كل شيء يسير في موعده المحدد وعلى ما يرام.
وعلى بعد كيلومتر ونصف تقريباً من القاعدة الجوية التي خلَّفتها القوات الأمريكية ليل الخميس 1 يوليو/تموز، يوجد صف عشوائي من متاجر الطوب والصلب يعمل بها بائعون أفغان، وحراس الآثار المادية التي سقطت من ظهور الشاحنات أو انتُشِلَت من الركام. من القمامة. وعلى كوب قهوة أسود مكتوب عبارة: "كنت هناك.. فعلت ذلك، عملية الحرية الدائمة"، الذي لا يزال ملصق الرمز الشريطي الخاص به مرفقاً، وهو مجرد واحد من آلاف العناصر التي تحكي قصة مما كانت تُعتبَر في السابق "الحرب الجيدة".
جلس حشمت الله غولزادا خلف المنضدة في أحد تلك المتاجر، وهو مكان بحجم خزانة افتتحه قبل عام. كانت مساحة المتجر الضيقة معبأة من الأرض إلى السقف بآثار الحرب والوجبات الخفيفة والحقائب ومنتجات العناية بالجسم.
حتى مع تحليق بعض آخر طائرات الشحن الأمريكية في أواخر يونيو/حزيران، لم يكن غولزادا متأكداً تماماً مما إذا كانت الولايات المتحدة سترحل بالكامل.
وقال غولزادا: "إذا غادروا، فسوف تسوء حركة التجارة".
حتى مشروبات الطاقة تركوها!
وبالقرب من حافة النافذة، كانت هناك علبة واحدة من Rip It، وهو مشروب طاقة عالي السكر والكافيين أبقى الآلاف من القوات الأمريكية وحلف شمال الأطلسي (الناتو) مستيقظين خلال الدوريات، أو في قُمرات المركبات المدرعة التي من ضخامتها يسميها بعض الأفغان دبابات.
ويقول غولزادا إنَّ تكلفة Rip It تساوي 120 أفغانياً، أي حوالي 1.50 دولار، وهو سعر باهظ مرتبط بحب مشروبات الطاقة التي طورها الشباب الأفغان بعد الغزو الأمريكي عام 2001.
وعلى أرضية متجره، يوجد شريط أسود بالٍ مع أحزمة واسعة من ماركة "فيلكرو" تُعرَف باسم "عاصبة تطبيق القتال". وكان كل جندي أو متعهد أمريكي جاء إلى أفغانستان يحمل واحداً منها، وقد أنقذت سهولة استخدامها العديد من الأرواح.
وأصيب أكثر من 20 ألف جندي أمريكي في أفغانستان، وقُتِل 1897 آخرون أثناء القتال، فيما تُوفِي 415 لأسباب "غير عدائية". وكانت عصابة التطبيق القتالية موجودة في كثير من الحالات، وهي عنصر أساسي في حالات المذابح التي تتسبب بها القنابل المزروعة على جانبي الطريق أو الهجمات المسلحة؛ إذ تُخرَج سريعاً من الحقيبة لتغطية بعض الأطراف المصابة وتُشَد لوقف النزيف.
ويبيع غولزادا العصابة مقابل 25 سنتاً تقريباً، أي أقل من سعر Rip It. ويقول أصحاب المتاجر إنَّ مقدمي الخدمات الطبية كانوا يشترونها، إلى جانب النقالات الأمريكية القابلة للطي التي تحمل الجرحى والقتلى عبر ساحة المعركة، وهي الآن معروضة للبيع.
لكن باغرام لم تعُد كما كانت في ذلك الوقت، إذ فُكِّكَت ببطء مع بداية تراجع الوجود الأمريكي. وعندما غادر الأمريكيون، دمروا أشياء مثل السيارات المدرعة وأكثر من 15000 قطعة أخرى من المعدات التي اعتُبِرَت ملكية زائدة، وهو نظام يسمح للقوات الأمريكية بتدمير عناصر معينة حتى لا يبيعها الأفغان من أجل الربح.
800 ألف جندي تناوبوا على القتال في أفغانستان
لكن لم يُفكَّك أو يُتلَف كل شيء؛ إذ يوجد أسفل سرير تخييم في متجر آخر زوجٌ من الأحذية القتالية البنية المستخدمة، وهي علامة مميزة لما يقرب من 800 ألف جندي أمريكي تناوبوا عبر أفغانستان على مدار العقدين الماضيين.
ومكَّنت الطبعات المميزة لهذه الأحذية عناصر طالبان من تتبع الدوريات الأمريكية في الجنوب الصحراوي. وفي التضاريس القاسية في الشرق، كما هو الحال في وادي كورنغال، تلفت هذه الأحذية سريعاً بسبب تنفيذ الجنود مهام تسلق شاقة بجانب تيارات الجليد الباردة.
وبالنسبة للأمريكيين، كانت الأحذية هي ما رأوه وهم يحدقون في الأرض، ومع خطوة تلو الأخرى، ودورية تلو الأخرى، يتساءلون عمّا إذا كان وزن خطواتهم على الأرض سيحفز انفجار قنبلة مزروعة على الطريق ومدفونة تحته.
وعقب كل سنوات القتال هذه، أصبحت العديد من الأماكن التي سارت فيها القوات الأمريكية والدولية في أيدي طالبان. وهذا الحال ينطبق تحديداً الآن، مع اقتراب المجموعة المتمردة من كابول ومع سقوط منطقة تلو الأخرى بالقوة العسكرية أو غير ذلك في أيديهم. وقد استعادت القوات الأفغانية بعض السيطرة، لكن ليس بما يكفي لكسر زخم الهجوم.
وحتى الآن، تبعد طالبان أقل من 50 ميلاً (80.4 كيلومتر) عن باغرام، وهو شيء شعرت به المتاجر القريبة من القاعدة الجوية. وأشار صاحب متجر، رفض ذكر اسمه، إلى لوح مضاد للرصاص يُستخدَم في الدروع الواقية للبدن، وقال إنه لم يعُد معروضاً للبيع.