يمثل إنقاذ الاقتصاد الإيراني من أزماته، هدفاً أساسياً بالنسبة للرئيس الإيراني المنتخب، إبراهيم رئيسي، والنظام بأكمله بعدما تسببت العقوبات الأمريكية، في تدهور اقتصاد البلاد، فهل يؤدي التوصل لصيغة مع الأمريكيين لإحياء الاتفاق النووي الإيراني لإنقاذ اقتصاد البلاد؟
ويحظى رئيسي ذو الشخصية المحافظة المبدئية بعلاقات وثيقة مع المرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي، ومن ثم يمكن القول إنه قومي ديني إسلامي يرى أن الحفاظ على أمن الجمهورية الإيرانية واستقرارها هو مفتاح فترة رئاسته وهدفها الأساسي، حسبما ورد في تقرير لموقع Al-Monitor الأمريكي.
وفي حين أن الإصلاحيين والوسطيين، مثل الرئيس المنتهية ولايته حسن روحاني، قد قدموا أفكاراً عن السعي من أجل الاندماج في التكامل الاقتصادي الدولي والاعتماد على السياسات المعتدلة والعلاقات الدبلوماسية واسعة النطاق بوصفها أمراً حاسماً لحماية استمرارية الجمهورية الإيرانية، فإن الشخصيات المحافظة، مثل رئيسي، عادةً ما ترى أن هذه السياسات ما هي إلا تنازلات تُوهن الركائز الأساسية للثورة وتنقلب عليها.
والحال كذلك، يُتوقع أن يدعم رئيسي سياسات تعزز الاستقلال الاقتصادي والقدرة على امتصاص الضغوط الدولية ومقاومتها والتواصل الدولي القائم على تبادلات المصالح، ومن المثير للمفارقة أن العودة إلى الاتفاقية النووية، أو ما يُعرف بـ"خطة العمل الشاملة المشتركة"، قد تكون هي نفسها سبيل التمهيد لهذا النهج.
يأتي رئيسي إلى منصبه على خلفية من عقوبات الضغط القصوى التي فرضتها الولايات المتحدة على إيران في أعقاب انسحاب إدارة ترامب من الاتفاقية النووية في 2018. وبعدها، كانت النجاة من هذه الضغوط دون انهيار البلاد أو اقتصادها مغنماً حصده المحافظون.
في غضون ذلك، أصدرت واشنطن أكثر من 1500 تصنيف لعقوبات قطعت الاقتصاد الإيراني عن روابطه التجارية والمالية. وقد صُمِّمت تلك العقوبات بنيةِ إضعاف إيران وإجبارها على التخلي عن دعمها للمجموعات الفاعلة غير الحكومة التي تعمل بالوكالة عنها في الدول العربية خارج الحدود، ودفعها إلى العودة إلى طاولة المفاوضات وتقديم مزيدٍ من التنازلات النووية والإقليمية.
كما تعرضت إيران لحصار فعلي، ولكن غير معلن من جانب الكتل الرئيسية في العالم، فحتى الدول الأوروبية المشاركة في الاتفاق النووي والصين تتجنب شركاتها التعامل مع إيران؛ خوفاً من استهدافها بالعقوبات الأمريكية.
لكن ما حدث جاء مخالفاً لهذه التحولات المفترضة، فقد أطلقت إيران حملة مقاومة قصوى سرَّعت فيها من خطوات برنامجها النووي وصدَّرت مزيداً من الاضطرابات إلى دول المنطقة. علاوة على ذلك، وعلى الرغم من موجة الضغط الاقتصادي التي لم نشهد لها مثيلاً منذ الحرب الإيرانية العراقية، لم يشهد الاقتصاد الإيراني الانهيارَ المتوقع.
واللافت أن الاقتصاد الإيراني بدا أنه يتكيف جزئياً مع العقوبات، إذ تعيد قطاعاتٌ واسعة من الاقتصاد الإيراني تنظيم نفسها استجابةً لأكثر من عامين من العقوبات الأمريكية، تعمل الشركات الإيرانية بصورةٍ متزايدة على إنتاج أنواع البضائع التي كانت إيران تستوردها منذ فترةٍ طويلةٍ من الخارج، في حين تلجأ الشركات الأصغر والمتنامية إلى التوظيف، حسبما ورد في تقرير لصحيفة Wall Street Journal الأمريكية.
ولا شك في أن إيران شهدت بالفعل العديد من التحديات التي شملت التراجعات المتعددة في قيمة العملة، والاحتجاجات التي قمعها النظام بوحشية في نوفمبر/تشرين الثاني 2019 على ارتفاع الأسعار، ومقتل قائد فيلق القدس بالحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني، وإسقاط الطائرة الأوكرانية، وذلك على سبيل المثال لا الحصر.
أما الآن، ومع تولي رئيسي للقيادة التنفيذية في البلاد، فيُتوقع أن يكون الهدف الأساسي من العمل محلياً هو تجاوز استراتيجيات البقاء والاستعاضة بخطوات من شأنها إعادة تفعيل أجندة التنمية الاقتصادية الإيرانية المتعثرة، خاصة ما يتعلق بالعدالة الاجتماعية، والتي سقطت على إثر سنوات العقوبات القاسية.
وهو ما صرَّح به رئيسي في مؤتمره الصحفي الأول، الذي قال فيه: "نأمل في أن تؤدي الإجراءات التي سنتخذها إلى تحسين الأوضاع الحياتية للناس وإعادة الأمل إليهم، واستعادة الثقة التي تقوَّضت لأسباب مختلفة".
أدَّى سوء الإدارة الاقتصادية والفساد والعقوبات إلى ارتفاع معدلات الفقر في إيران. ولا يزال مستوى التضخم أعلى من 30%. كما كشفت تقارير محلية نُشرت في عام 2020 أن واحداً من كل اثنين من الإيرانيين يعيش تحت خط الفقر، وأن 70% من العمال العاديين لا يستطيعون الوفاء إلا بنحو 33% من احتياجاتهم الأساسية.
العودة للاتفاق النووي أمل رئيسي في إنقاذ الاقتصاد الإيراني
ويشير الخبير الاقتصادي الإيراني، جواد صالحي أصفهاني، إلى أن الطبقة الوسطى المتيسرة في إيران قد تقلصت بنحو 8 ملايين منذ عام 2011. واعتبر أصفهاني الاحتجاجات التي اندلعت على مستوى البلاد في نوفمبر/تشرين الثاني 2019، بسبب ارتفاع أسعار الغاز، أشبه بجرس إنذار من أن البلاد قد تشهد مزيداً من الاضطرابات في الفترة القادمة.
مع عودة السلطة التنفيذية الآن إلى أيدي المحافظين، تبدو أسرع صيغة لمواجهة هذه التحديات الاقتصادية هي البدء بإحياء خطة العمل الشاملة المشتركة. ومع ذلك، فإن المفاوضات الجارية حالياً في فيينا، والتي وصلت إلى نهاية جولتها السادسة، لم تُسفر عن اتفاق بشأن خطوات وتسلسل عودة طهران وواشنطن إلى الاتفاق النووي، لكن كثيراً من التوقعات تذهب إلى إمكانية التوصل إلى اتفاق قبل نهاية الصيف وفترة رئاسة رئيسي التي تبدأ في مطلع أغسطس/آب المقبل.
وفي حين أنه لا يمكن توقع تخفيف كامل للعقوبات، فإن رفع العقوبات الاقتصادية التي تقيد الأنشطة التجارية للبلاد والوصول إلى السيولة المالية من شأنه أن يعزز الإنفاق العام ويدعم الجهود الحكومية لزيادة التوظيف ومكافحة التضخم.
تعزيز العلاقات الثنائية
وبالإضافة إلى العمل على تخفيف العقوبات، يُتوقع أن يواصل رئيسي المناقشات الإقليمية الثنائية لخفض التوترات. وقد شدَّد رئيسي في مقابلة صحفية على أهمية العلاقات الإقليمية، قائلاً إنه "عازم على تعزيز العلاقات مع جميع دول العالم وخاصة دول الجوار. وأولويتنا ستكون توطيد العلاقات مع جيراننا".
وأفادت تقارير بوجود اتفاق صيني إيراني سرّي جرت صياغته دون ضجيج، قد يكون في طريقه للتنفيذ، رغم اعتراضات إيرانية داخلية عليه، يتضمّن شراكةً اقتصاديةً وأمنية شاملة، يمكن أن تمهّد الطريق أمام مليارات الدولارات من الاستثمارات الصينية في قطاع الطاقة والقطاعات الأخرى الإيرانية، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The New York Times الأمريكية، ولكن من الواضح أن الصين تتريث لعدم إغضاب دول الخليج أو أمريكا.
تهدئة التوترات مع السعودية قد تكون الحل
وعلى صعيد العلاقات مع الدول الإقليمية، كشفت تسريبات أمنية أخيرة عن اجتماعات سعودية إيرانية تُعقد في بغداد، ما يشير إلى إعادة ضبط تكتيكية للأمور بعيداً عن فترة التوترات المتصاعدة والحدة التي شهدتها سنوات ترامب المليئة بالاضطرابات.
وعلى الرغم من أن هذه المناقشات لا تزال في مرحلة مبكرة، فإنها بمرور الوقت قد تمهد الطريق لمزيد من الانفراج الرسمي في العلاقات بين طهران والرياض، حسب موقع Al-Monitor الأمريكي.
هذا التحسن في العلاقات قد يؤدي بعد ذلك إلى استفادة طهران من تقبل سعودي لخطة العمل الشاملة المشتركة، إلى جانب الاستئناف الرسمي للعلاقات. كما أن هذا التحول من شأنه أن يقلص من شعور طهران بالعزلة الإقليمية، ومن ثم التقليل مباشرة من التوترات الإقليمية. وللوصول إلى هذا الهدف، يجب أن تكون إيران على استعداد لتجاوز مبادرات النية الحسنة الرمزية وتقديم تنازلات ملموسة للرياض، مثل إيقاف دعمها المالي والعسكري للحوثيين في اليمن.
كل هذه الخطوات أسهل قولاً من الفعل، خاصة أن هذه الملفات في يد المرشد على خامنئي والحرس الثوري.
والواقع أن إدارة رئيسي إذا أرادت حقاً العودة إلى خطة العمل الشاملة المشتركة وسيناريوهات خفض التصعيد الإقليمي، فمن الأهمية بمكان ألا يبالغ رئيسي في رؤيته لدوره وألا يهوِّن من خيبة الأمل الدولية حيال طهران، حسب الموقع الأمريكي.
إذ قد تؤدي سياسة التباطؤ والمساومة حول إعادة الانضمام إلى خطة العمل الشاملة إلى استنتاج مفادة أن طهران ليست شريكاً جاداً في مفاوضات فيينا، وأن خطة العمل الشاملة المشتركة باتت شديدة الهشاشة؛ لدرجة أنها أصبحت عصية على الإنقاذ.
تبدو الأمور الآن قابلةً للتحرك في أي من المسارين، فإذا كان النجاح حليف العودة إلى خطة العمل الشاملة المشتركة، يُرجح أن تحذو الدول الأوروبية حذو إدارة بايدن وتعمد إلى تحسين العلاقات مع إيران، إضافة إلى أن السعودية تعمل أيضاً على ربط حوارها مع طهران بإحياء الخطة.
لكن على الجانب الآخر، فإن إيران إذا اتخذت مساراً تملصت فيه من أي تحسينات ذات مغزى فيما يتعلق بسلوكها الداعم الحوثيين، فإن المناقشات السعودية الإيرانية قد تتقوض، معيدةً طهران مرة أخرى إلى النقطة التي بدأت منها: معزولة وخاضعة لعقوبات وضعيفة اقتصادياً.