لقي مئات الأشخاص مصرعهم في موجة الحر التاريخية التي ضربت منطقة شمال غرب المحيط الهادئ، وسبّبت ارتفاعاً قياسياً بدرجات الحرارة في مقاطعة كولومبيا البريطانية بكندا وولايتي أوريغون وواشنطن الأمريكية الأسبوع الماضي. فماذا وراء هذه الموجة القاتلة غير المسبوقة؟
أسوأ حالة جفاف في التاريخ الحديث
وتقول صحيفة Washington Post الأمريكية، إن سلطات المنطقة فتحت التحقيق في حالات الوفاة الأخيرة، لكنها أشارت إلى أنها حدثت نتيجة "قبةٍ حرارية حبست الهواء الساخن داخل منطقة كندا والولايات المتحدة التي يسودها الطقس المعتدل عادةً، مما تسبّب في آلاف مكالمات الطوارئ وزيارات المستشفيات". وقد نسب العلماء والمسؤولون موجة الحر التاريخية هذه إلى تغيّر المناخ الذي تسبّب في أسوأ حالة جفاف في التاريخ الحديث.
وقد أبلغت مقاطعة كولومبيا البريطانية عن 486 "حالة وفاة مفاجئة وغير متوقعة" بين يومي الجمعة 25 يونيو/حزيران والأربعاء 30 يونيو/حزيران، وذلك وفقاً لرئيسة الطب الشرعي ليزا لابوان. وأوضحت ليزا لوكالة Associated Press الأمريكية أنّ هذا الرقم أكبر بعدة مئات من عدد الكنديين الذين يموتون عادةً في فترة خمسة أيام.
كما قالت ليزا في تصريحها: "ربما من المبكر الحكم بثقة على عدد الوفيات المرتبطة بالحرارة، ولكن من المعتقد على الأرجح أنّ الزيادة الواضحة في أعداد الوفيات المبلغ عنها كانت بسبب الطقس القاسي".
إذ وقعت 98 حالة وفاة في مدينة فانكوفر، حيث كان ثلثا الضحايا ممن تتجاوز أعمارهم الـ70 عاماً بحسب تصريحات الشرطة عبر تويتر. وقد ذكرت سلطات فانكوفر أنّ العديد من منازل المنطقة، كما هو الحال عموماً في شمال غرب المحيط الهادئ، لا يحتوي على أجهزة تكييف الهواء. مما ترك السكان عرضةً للحرارة.
إذ قال رقيب شرطة فانكوفر ستيف أديسون في بيانٍ صحفي: "لم تتعرض فانكوفر لموجة حرٍ شديد كهذه من قبل، ومن المؤسف أنّ عشرات الأشخاص يموتون بسببها. وضباطنا في حالة إنهاك، لكننا نفعل كل ما بوسعنا للحفاظ على سلامة الناس".
الحرائق تجتاح مناطق جديدة
بينما سجلت بلدة لايتون في كندا ارتفاعاً قياسياً في درجات الحرارة لثلاثة أيامٍ متتالية؛ إذ وصلت موجة الحر لذروتها يوم الإثنين 28 يونيو/حزيران مع وصول درجة الحرارة إلى 49 درجة مئوية، وهي أعلى درجة حرارة مسجلة في تاريخ البلاد، والأعلى أيضاً شمال خط عرض 50. واضطر السكان لإخلاء البلدة يوم الأربعاء بعد أن اجتاحت الحرائق الناجمة عن الحرارة البلدة، وقال العمدة جان بولدرمان إنّ "البلدة بأكملها تحترق".
في حين وصف رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو موجة الحر، التي قتلت المئات وزادت خطر اندلاع حرائق الغابات، بأنّها "غير مسبوقة".
أما ولاية أوريغون الأمريكية فقد شهدت مصرع 63 شخصاً منذ يوم الجمعة، بحسب تصريحات مكتب الطبيب الشرعي في الولاية، بينما أشارت تحقيقات الشرطة الأولية إلى أنّ الوفيات "قد تكون مرتبطةً بموجة الحر التي ضربت شمال غرب المحيط الهادئ". حيث وصلت درجات الحرارة في الولاية إلى ذروتها بـ47 درجة مئوية الأسبوع الجاري.
وقالت جولي سوليفان-سبرينغيتي، المتحدثة باسم مقاطعة مولتنوماه، لصحيفة The Oregonian الأمريكية إنّ المقاطعة استقبلت رقماً قياسياً بلغ 491 مكالمة من أجل المساعدة الطبية الطارئة يوم الإثنين.
وأردفت: "كنا ندق جرس الإنذار بشكلٍ يومي، ونحذر السكان من أنّ موجة الحر الحالية قد تكون مميتة".
أما ولاية واشنطن فقد شهدت مصرع 20 شخصاً على الأقل بسبب الحر، وهو رقم قال المسؤولون إنّه من المتوقع أن يزيد. وقال الطبيب الشرعي في مقاطعة كينغ، التي تضم سياتل، إنّ 13 من أصل 20 ضحية كانوا من المقاطعة. كما كسرت سياتل رقمها القياسي لأعلى درجة حرارة في يومٍ واحد مرتين خلال الأسبوع الماضي، آخرها في يوم الإثنين حين بلغت 41 درجة مئوية بحسب المنظمة العالمية للأرصاد الجوية.
"الحر القاسي أصبح الوضع الطبيعي الجديد"
أما في مركز هاربورفيو الطبي بسياتل، فقد قارن المدير الطبي لقسم الطوارئ ستيف ميتشيل بين الأعداد الحالية وبين الأعداد التي شهدها القسم في الأيام الأولى لتفشي جائحة فيروس كورونا العام الماضي.
حيث قال ميتشيل لصحيفة Seattle Times الأمريكية: "بدت الأمور وكأنها تشبه إلى حدٍ كبير ما حدث في الأيام الأولى أثناء محاولتنا التعامل مع التفشي الأصلي للفيروس؛ إذ وصلنا إلى مرحلة مكافحة المنشآت لتوفير المعدات الأساسية، مثل أجهزة التنفس".
كما أثرت درجات الحرارة المرتفعة لفترةٍ طويلة على أجزاءٍ أخرى من الولايات المتحدة مثل ولاية أريزونا، التي تجاوز درجات الحرارة فيها الـ47 درجة خلال الشهر الجاري، ما أسفر عن عشرات الوفيات التي يُشتبه في ارتباطها بالحرارة.
وقال الرئيس الأمريكي جو بايدن، يوم الأربعاء الماضي، إنّ تغير المناخ هو السبب وراء الحر وزيادة خطر اندلاع حرائق الغابات: "إنّ خطورة الحر القاسي الذي نشهده في الغرب لا تكمُن في تضخيم حرائق الغابات فقط، بل يمثل هذا الحر تهديداً منفصلاً في حد ذاته. والناس يتألمون. كما أنّه من الخطير للغاية السماح للأطفال باللعب في الخارج. بينما تنهار الطرق تحت وطأة الحرارة… ونحن بحاجة لأن يطمئن الناس على جيرانهم، خاصةً كبار السن الذين قد يحتاجون إلى يد العون".
وقد أكّدت مستشارة المناخ القومي في البيت الأبيض جينا مكارثي على تصريحات الرئيس بشأن تأثير تغير المناخ على الطقس، حيث قالت لشبكة CNN الأمريكية إنّ الحر القاسي بات "الوضع الطبيعي الجديد. وعلينا أن نتكيف مع الأمر قدر الإمكان. ولكن يجب أن نبدأ التفكير بشأن شكل المستقبل بكل صراحة".
خطر يهدد حياة ملايين البشر ويرتفع سنوياً
يعتقد العلماء أن متوسط درجات الحرارة المسجلة في الفترة بين 2010 وحتى الآن قد تجعلها العقد الأكثر دفئا منذ بدء تسجيل درجات الحرارة.
وتشير تقديرات غير نهائية صادرة عن المنظمة العالمية للأرصاد الجوية إلى أن ارتفاع الحرارة يزداد عاماً بعد عام. وتقول المنظمة إن ارتفاع درجات الحرارة عالمياً بصورة "استثنائية" يرجع إلى انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، وتآكل مساحات الغابات وحرق الفحم للحصول على الطاقة.
ويقول العلماء إن الاحترار الذي حدث خلال العقد الماضي يؤثر سلباً على العالم؛ إذ يذوب الجليد في القطبين، ويتسارع ارتفاع مستوى سطح البحر.
وبالإضافة إلى الإضرار بالطبيعة، تؤثر الحرارة المتزايدة أيضا على البشر، حيث تشكل موجات الحرارة خطراً كبيراً على المسنين. وبين عامي 2000 و2016 زاد عدد من يتعرضون لموجات الحرارة المرتفعة بحوالي 125 مليون شخص، بحسب منظمة الصحة العالمية.
وشهدت هذه الفترة عدداً من الوقائع الصعبة، منها ما وقع في 2003 والتي لقي فيها 70 ألف شخص مصرعهم في أوروبا نتيجة للحر الشديد؛ وواقعة أخرى في 2010 والتي شهدت زيادة في عدد الوفيات بنحو 56 ألف شخص إبان موجة حر استمرت نحو 44 يوماً في روسيا الاتحادية (بحسب إحصاءات منظمة الصحة العالمية).
هناك دول لن تستطيع تحمُّل هذا الارتفاع الكبير في الحرارة
درجات الحرارة الرطبة العالية تلك أثرت حتى الآن كثيراً على دول الخليج الثرية، التي تملك القدرة على التغلب على ذلك بفضل أجهزة التكييف. لكن ومع استمرار التغير المناخي، سيطال الاحترار الشديد أجزاءً أكبر من باكستان والهند على سبيل المثال، اللتين قد لا تملكان القدرة على التأقلم مثل دول الخليج.
ولو كانتا تملكانها حتى فإن التبريد سيحتاج كمياتٍ كبيرةً من الطاقة، التي ستُفاقم بدورها أزمة المناخ لو أنها جاءت من وقود أحفوري؛ لذلك فإن هذا الارتفاع الكبير في درجات الحرارة الرطبة التي تفوق احتمال الجسد البشري ليست بعيدةً عنّا في المستقبل كما كنا نظن سابقاً.
وتعرف موجة الحر بأنها ارتفاع نسبي في درجة الحرارة لمدة طويلة، مصحوبة بارتفاع في نسبة الرطوبة، ولا يمكن تحديد قيمة ثابتة لدرجة الحرارة هذه.
بل تقاس بالنسبة إلى متوسط معدلات درجات الحرارة في المنطقة التي تتعرض لتلك الموجة، فدرجات الحرارة التي يمكن أن تعتبر عادية في دول المناطق الحارة قد تعد في الوقت نفسه كموجة حر في دول المناطق الأبرد.