"منْح بعض الحريات الاجتماعية للإيرانيين بهدف الإبقاء على النظام"، يعتقد كثيرون أن هذه سوف تكون معادلة النظام الإيراني خلال فترة الرئيس المتشدد إبراهيم رئيسي المقبلة، ولكن هل تنجح هذه المقاربة؟
يجسد ثنائي رومانسي إيراني تناقضات الوضع الاجتماعي والسياسي في إيران، ويكشفان التحدي الذي يواجه النظام فيما يتعلق بمحاولته منح بعض الحريات الاجتماعية للإيرانيين.
فالثنائي كانا يسيران وهما يمسكان بأيدي بعضهما أثناء تمشية ليلية بطول أحد شوارع طهران، في مظهر علني للعاطفة، وعندما مرا بمركز اقتراع لم تكن لديهما أدنى نية لدخوله في يوم الاقتراع.
كان حجم المشاركة في الانتخابات الإيرانية بمثابة استفتاء على النظام، ولاسيما أن عدد الإيرانيين الذين أبطلوا أصواتهم كان صادماً، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Financial Times البريطانية.
ويُخبر عامل بأحد الفنادق أحد الأجانب صراحةً بأنَّه لم يُصوِّت في أي انتخابات منذ القمع الوحشي للاحتجاجات المؤيدة للديمقراطية قبل 12 عاماً، لأنَّها ممارسة لا طائل من ورائها.
وفي أحد المطاعم الراقية، تمسك نساء يسدلن أحجبتهن من على رؤوسهم ليرخيهن على أكتافهن، في حين يُفتَرَض أن يُغطين بها رؤوسهن، السجائر بأظافرهن المطلية بينما يدردشن على أنغام الموسيقى الغربية.
يمثل كلٌّ من هذا عملاً من أعمال التحدي في مواجهة النظام الإسلامي الصارم الذي وُلِدَ في ظله هؤلاء، وأكثر من نصف سكان إيران الآخرين البالغ عددهم 85 مليون نسمة. إنَّه اتجاه ينتشر في المجتمع الإيراني، ووصل ذروته في 18 يونيو/حزيران، حين تجاهل أكثر من نصف ناخبي البلاد مناشدات آية الله علي خامنئي وقاطعوا الانتخابات الرئاسية.
أدنى نسبة مشاركة وعدد هائل من الأصوات الباطلة
وقدَّم الإيرانيون، في عملٍ من أعمال العصيان المدني، أدنى نسبة من نسب المشاركة، 48.8%، في أي انتخابات رئاسية منذ الثورة الإسلامية عام 1979.
ولكن الصادم أكثر بالنسبة للنظام أن نحو 3.7 مليون شخص من أولئك الذين دخلوا مراكز الاقتراع أبطلوا بطاقاتهم الانتخابية.
وبدل أن يحصل المرشد الأعلى على الشرعية الشعبية التي يتوق إليها لنظامه الثيوقراطي، قدَّم الجمهور توبيخاً.
جاء ذلك في لحظة حاسمة. فهذه فترة يُتوقَّع أن تحدد إرث خامنئي وتحدد ما إن كان بمقدور صاحب الـ82 عاماً تضييق الفجوة بين أيديولوجيا النظام وتطلعات سكان البلاد الشباب، وبلورة الفصل القادم من الجمهورية الإسلامية، أم لا.
المرشد يراهن على رئيسي لرأب الصدع داخل النظام
يقول محافظون ومطلعون من داخل النظام إنَّ الكثير سيقع على عاتق الرئيس المنتخب إبراهيم رئيسي، المرشح المفضل لخامنئي في الانتخابات، والخليفة المحتمل الذي يأمل المرشد الأعلى أن يكون قادراً على جلب حالة من النظام إلى نظامٍ منقسم.
يقول قريب لخامنئي إنَّ رجل الدين الذي يقود إيران منذ 32 عاماً عازمٌ على تأمين مستقبل الجمهورية وضمان انتقال سلمي بعد وفاته، مضيفاً أنَّ نسبة المشاركة الضعيفة لا يُرجَّح إلا أن تؤدي لتسريع الحاجة للتغييرات، بما في ذلك إدخال تعديلات محتملة على الدستور.
وإذا ما استمر الانقسام بين الناس وقادتهم في الاتساع وظلَّت الضائقة الاقتصادية العميقة دون حل، سيكون الخطر هو عودة الاحتجاجات من صناديق الاقتراع إلى الشارع. وهو تهديد يثير أكبر تخوف لدى القادة: انفجار اضطرابات اجتماعية على غرار تلك التي أطاحت بالشاه الأخير وأوصلت رجال الدين إلى السلطة في 1979.
يقول قريب خامنئي: "الناس غاضبون ومتألمون، ولا يمكن أن تأتي بشرارة إلى برميل من المتفجرات. وقد أخذ النظام هذه الإشارة الانتخابية على محمل الجد. وسيتخذ خطوات لمعالجة المشكلات السياسية والاقتصادية، وسيُقدِّم مزيداً من الحريات الاجتماعية والسياسية لتخفيف الضغط عن الناس".
لم يعودوا يؤمنون بنا.. هل يعيد المحافظون القمع الاجتماعي؟
هذه سردية تتناسب مع الصورة الأكثر ليونة التي حاول رئيسي، وهو رجل دين محافظ، الترويج لها، على ما يبدو بهدف تبديد صورة رئيس السلطة القضائية الصارم الذي يُزعَم أنَّه أشرف على إعدام آلاف السجناء السياسيين في سنوات الثمانينيات المضطربة.
والرسالة التي يبدو المحافظون حريصين على إيصالها هي أنَّ القيادة الدينية أدركت أنَّ التغييرات تتسرب إلى المجتمع، وتتقبل على مضض فكرة أنَّها لم تعد تُملي على الإيرانيين سلوكهم.
لكنَّ آخرين يخشون أن يستخدم المحافظون، الذين هم الآن في أقوى حالاتهم منذ ما يقرب من عقد، انتصار رئيسي لسحق المعارضين، وهو ما يبشر بفصل حالك مقبل للإصلاحيين، في ظل دفعهم أكثر نحو الغربة السياسية.
يقول سعيد ليلاز، المحلل الإصلاحي، إنَّ "الإصلاحيين سيُكبَحون… وهو ما يعني أنَّ القيود ستستمر أو تصبح أكثر حدة حتى. في إيران ستحكم البونابرتية (القائد القوي) في نهاية المطاف لتحقيق الاستقرار… ونحن نتحرك بهذا الاتجاه الآن".
ويقول محللون إنَّه لن تكون هناك تغييرات على سياسة إيران الخارجية التي تعتمد على القوة، بما في ذلك دعمها لمجموعات الميليشيات في أرجاء المنطقة، وتوسيع برنامجها الصاروخي. كما أنَّهم لا يتوقعون تراجعاً للأجهزة الأمنية الداخلية التي يُرهَب جانبها. وقال رئيسي إنَّ حكومته ستواصل الحديث مع القوى العالمية لإحياء اتفاق 2015 النووي، لكنَّه أشار بالفعل إلى أنَّه سيتخذ نهجاً أكثر صرامة.
لكنَّ ليلاز وآخرين يتوقعون أن يفتح المتشددون في نهاية المطاف البلاد ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً، من أجل اجتذاب ناخبي الطبقة الوسطى في محاولة لمد حكمهم.
يقول محمد علي أبطحي، وهو نائب رئيس إصلاحي سابق: "هذا مجتمع سيزيد من مطالبه طوال الوقت وقمعه سيكون صعباً للغاية، هنالك جيل جديد لم يعد يؤمن بنا، إنَّه يريد إصلاحاً وفق مستوى المعايير الدولية، وهو يتحرك وفقاً لذلك".
التنازل في الحريات الاجتماعية للإيرانيين مقابل بقاء النظام
لجأ القادة الشيعة لإيران طوال تاريخ الجمهورية إلى البراغماتية لمواجهة التهديدات الداخلية والخارجية، والحفاظ على قبضتهم على السلطة.
وقال آية الله روح الله الخميني، رجل الدين الذي قاد الثورة، لمواطنيه في ذروة الحرب الإيرانية العراقية في الثمانينات، إنَّ بقاء النظام يأتي قبل الصلاة وقبل الصوم، وفقاً لما ورد في تقرير الصحيفة البريطانية.
واستخدم المرشحون المحافظون نفس التكتيكات خلال المنارات التلفزيونية قبيل الانتخابات. ففي حين تعهَّد أحد المتشددين بإدخال امرأتين واثنين من المسلمين السُّنّة لحكومته، وإدخال "تعديلات هيكلية" على النظام، تباهى رئيسي بأنَّه افتتح حديقة للنساء فقط في مدينة مشهد الدينية. وانتقد روحاني أيضاً لعدم بذله المزيد، بصفته رئيساً من أجل الدفاع عن حقوق المرأة وعدم تعيين وزيرات.
يقول أبطحي إنَّ أكبر إنجازات الإصلاحيين كانت تضييق الفجوة بين لغة أمثاله من الإصلاحيين ولغة المتشددين إلى مثل هذه الدرجة التي بات فيها المتشددون الآن ينطقون بأشياء ما كان الإصلاحيون يجرؤون على طرحها قبل 10 سنوات.
ويضيف: "حين يكون هناك اختيار بين بقاء الأيديولوجيا وبقاء النظام السياسي سيضحون بالأيديولوجيا".
ويُعتَبَر الحفاظ على النظام هو الهدف النهائي لكلٍّ من السياسيين الإصلاحيين والمتشددين. ما يختلفون حوله هو ماذا ينبغي عمله، فيعتقد الإصلاحيون أنَّه لا خيار سوى الانفتاح لمواكبة تطور المجتمع والعالم المتغير.
لكنَّ المحافظين عادةً يتجنبون إذابة جليد العلاقات مع الغرب، ويتطلعون إلى الداخل بحثاً عن إجابات، ويتباهون بنجاح النظام في أن يصبح قوة عسكرية إقليمية. ويرون أنَّ أي إخفاقات هي نتيجة عقود من العقوبات الغربية وسوء التطبيق الناجم عن الصراعات داخل النظام، وليس الأيديولوجيا.
يقول محمد مهاجري، وهو معلق محافظ: "جعلت مراكز القوة المتعارضة الحكومة عديمة الكفاءة جداً، ولم تستطع الوفاء بوعودها لأنَّها أعاقت بعضها البعض".
تركيبة النظام المعقدة تؤدي إلى مشكلات وتوترات داخلية
يعيد المحللون الإيرانيون التوترات إلى النظام السياسي الفريد، الذي أسسه الخميني عقب ثورة 1979، حيث يتربع المرشد الأعلى على قمة السلطة فوق الرئيس والبرلمان المنتخبين بشكل مباشر.
وفي المنتصف هناك الحرس الثوري، أقوى مؤسسات الجمهورية وهو قوة أيديولوجية موالية للمرشد الأعلى، كما أنَّ كبار رجال الدين الكهول والسلطة القضائية معاقل للمتشددين.
يهيمن المتشددون أيضاً على مؤسسات رئيسية أخرى، بما في ذلك مجلس صيانة الدستور، الذي يقبل أو يرفض مشروعات القوانين التشريعية، ومجمع خبراء القيادة، الذي سيحدد مَن يخلف خامنئي.
إنَّه هيكل يضمن أن يملك المرشد الأعلى السلطة النهائية في كل مجالات السياسة، وكذلك سيطرة المتشددين على أدوات الدولة التي تُستخدَم لضمان عدم خروج السكان عن النهج المطلوب: الأجهزة الأمنية والسلطة القضائية.
لكن رغم سلطتهم والطبيعة الاستبدادية للنظام، أفرزت الانتخابات نتائج غير متوقعة كشفت عن تصدعات في النظام. نتيجة لذلك، ارتفعت آمال الكثير من الإيرانيين حين تولى السياسيون المؤيدون للإصلاح الرئاسة والبرلمان، ثم ما لبث أن تبددت تلك الآمال من جرَّاء الوعود المنكوصة حين يعود المتشددون.
إذ بشَّرت ولايتا محمد خاتمي، الرئيس الإصلاحي الوحيد في إيران، بين عامي 1997 و2005، بعصر يشير إليه الكثير من الإيرانيين باعتباره "عصراً ذهبياً"، لكنَّ رئاسته أعقبتها رئاسة المتشدد الشعبوي محمود أحمدي نجاد وقمع وحشي للمحتجين المؤيدين للديمقراطية وسط ادعاءات بأنَّ انتخابات 2009 قد سُرِقَت.
أذكى روحاني فترة أخرى من التفاؤل الحذر بعدما تعهَّد باستغلال اتفاق 2015 النووي الذي وقعته إيران مع القوى الدولية، لفتح البلاد وإعادة الانخراط مع الغرب، لكنَّ قرار دونالد ترامب، الرئيس الأمريكي آنذاك، بالتخلي عن الاتفاق في 2018 وفرض عقوبات قاسية على الجمهورية قد بدد تلك التوقعات.
هل يتم تغيير النظام من الداخل؟
شاب كلاً من هذه الرئاسات صراعات السلطة بين المعسكرات المتنافسة. ويبدو الآن أنَّ خامنئي عازم على وضع حد لهذا من خلال رئيسي.
يقول قريب خامنئي إنَّه يجري الآن مناقشة تعديلات محتملة للدستور، بما في ذلك الانتقال إلى نظام برلماني يُنتَخب بموجبه رئيس الوزراء من جانب أعضاء البرلمان ليحل محل الرئاسة، كفكرة لإيجاد حكومة أكثر توافقية.
لكنَّ شخصاً آخر مطلعاً من داخل النظام يُصِرُّ على أنَّ التعديل الدستوري ليس مطروحاً للنقاش.
التغييرات لا ترضي الشباب الإيراني
لكنَّ المكاسب الاجتماعية في السنوات الأخيرة، مثل التخفيف غير المُعلَن للقيود الصارمة المتعلقة بارتداء النساء للحجاب، متأخرة بشدة عن مطالب الكثير من الشباب الإيراني.
فمن بين 12 فتاة في عائلة ديلارام، وهي طالبة تبلغ 20 عاماً بجامعة طهران، هي الوحيدة التي لا تزال داخل البلاد.
وتعترف ديلارام بأنَّ التغييرات التدريجية على مدار السنوات الخمس الماضية تعني "أنَّنا وصلنا إلى مستوى من الحرية نوعاً ما، في الطريقة التي نتصرف أو نرتدي بها ملابسنا".
لكنَّها قلقة من أنَّ رئيسي والمتشددين الأقوياء سيتراجعون حتى عن أكثر التغييرات تواضعاً.
على الطرف النقيض من الخط الأيديولوجي، يُصِرُّ عباس سليمي نمين، مدير أحد مراكز الأبحاث المحافظة، على أنَّ رئيسي سيُضيِّق الفجوة بين الدولة وشعبها، قائلاً إنَّه "مرن" تجاه الحريات السياسية والاجتماعية.
لكنَّ الناشطة بمجال حقوق المرأة فائزة هاشمي رفسنجاني تقول إنَّ الإيرانيين فقدوا ثقتهم بكلٍّ من الإصلاحيين والمتشددين. وتُشبِّه الانتخابات بأنَّها استفتاء على سياسات النظام، وقد أسفر هذا الاستفتاء عن "لا" مدوية.
وتعتقد فائزة، ابنة أكبر هاشمي رفسنجاني، الرئيس السابق الراحل الذي غيَّر موقفه من محافظ صرف إلى براغماتي، أنَّ الطريق الوحيد للمضي قدماً هو "طريق ثالث".
وتقول: "ما يمكننا عمله الآن هو العصيان المدني والاحتجاجات، لكن ليس في الشوارع، كي نحصل على حقوقنا".
لكنَّ فائزة تقول إنَّه حين يسمع السياسيون الإصلاحيون آراءها يتساءلون: "لماذا تقولين هذه الأمور؟ إنَّنا (السياسيون المتشددون والإصلاحيون) نجلس في مركب واحدة وسنغرق كلنا معاً".
تؤكد مثل هذه التعليقات شكوى دائمة لدى الإيرانيين المؤيدين للديمقراطية: الإصلاحيون والمتشددون شطران لنفس النظام، ويضعان مصلحة النظام قبل الشعب، وفي غياب أي معارضة ذات مصداقية خارج النظام لا يرى الكثيرون بديلاً واضحاً.