أصبح استغلال الانتصار السوفييتي على النازية أداة رئيسية في يد روسيا في سياستها الخارجية والداخلية، بشكل أصبح يهدد بتشوية الذاكرة وإثارة الانقسامات في البلدان المستهدفة بهذه السياسة.
ويهدف استغلال الانتصار السوفييتي على النازية لإضفاء الشرعية على طموحات روسيا بشأن وضعها كقوة عظمى، مع السعي لأن تصبح السردية القائلة بإنقاذ الاتحاد السوفييتي السابق بقيادة روسيا للعالم من الشر المطلق للنازية أداة للتغطية على الفصول المظلمة من التاريخ السوفييتي وإضفاء الشرعية على جميع الحروب والتدخلات العسكرية السوفييتية والروسية اللاحقة، بدءاً من المجر، مروراً بتشيكوسلوفاكيا وأفغانستان وانتهاءً بأوكرانيا وسوريا، حسبما ورد في تقرير لمركز الدراسات الشرقية (osw) البولندي.
وفقاً للتفسير السوفييتي الجديد الحالي كانت كل هذه الأعمال العسكرية دفاعية بحتة ومبررة بظروف خارجية. إن تمجيد "أمر يالطا" وتبرير استخدام القوة في السياسة الخارجية يهدف إلى إضفاء الشرعية على سعي موسكو لتحقيق أهدافها الاستراتيجية الحالية، وفي مقدمتها الهيمنة في منطقة ما بعد الاتحاد السوفييتي ومراجعة الأمن الأوروبي هندسة معمارية.
الحرب العالمية الثانية وصلت لدرجة العبادة مع تجاهل الفظائع السوفييتية
تحتل ذكرى الحرب العالمية الثانية -أو الحرب الوطنية العظمى كما تسميها روسيا- مكانةً تشبه طقوس العبادة في الثقافة الشعبية والسياسية الروسية.
وفي داخل البلاد، انتقى النظام الروسي الذاكرةَ راسخة الحضور لتصورات البطولة والتضحية الروسية في الوعي الشعبي واستغلها لإضفاء الشرعية على حكمه، حسبما ورد في تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية.
في هذه النسخة من سرديات الماضي، يبرز الاعتزاز الشرعي ببسالة الجيش السوفييتي وانتصاره، فيما يخفت الذكر عن كثير من الحقائق الراسخة، مثل معاهدة عدم الاعتداء بين ألمانيا النازية والاتحاد السوفييتي "اتفاق مولوتوف-رينتروب" الموقعة قبيل الحرب، والاغتصاب الجماعي الممنهج من قبل الجيش السوفييتي، والتراجع الكارثي في البداية تحت وطأة الهجوم الألماني في عام 1941. كما تهمِّش السردية الروسية من شأن الفظائع التي شهدها حكم ستالين: فترفض الإقرار بدوره في "مجاعة هولودومور" التي حاقت بأوكرانيا السوفييتية، وتنكر القمع السوفييتي لأوروبا الشرقية وآسيا الوسطى. وهكذا نرى معاناة الناس العاديين في ظل الشيوعية تُنبذ ويغيب ذكرها لصالح نوازع من الحنين المتزايد أبداً إلى مكانة الاتحاد السوفييتي بوصفه قوة عظمى.
وها هي تستخدم هذه الذكرى لنشر نفوذها في الخارج
لكن ما يجري في روسيا لا يبقى في روسيا وحدها، ففي الخارج استخدمت وزارة الخارجية الروسية وهيئات حكومية أخرى ما يُعرف بـ"دبلوماسية الذاكرة" لتعزيز النفوذ الروسي والترويج لهذه النظرة الانتقائية للماضي السوفييتي.
ودبلوماسية الذاكرة نوعٌ من أنواع الدبلوماسية العامة، تحاول فيها الدول أو المنظمات السياسية تحسين علاقاتها مع غيرها وتطهير سمعتها، عن طريق تصدير طقوس تذكارية وسرديات تاريخية انتقائية، وتضفير رواياتها التاريخية مع روايات بلدان أخرى. وعلى خلاف حروب الذاكرة، التي تركِّز جهودها على الطعن في الرؤى التاريخية الأخرى للوقائع، فإن دبلوماسية الذاكرة تتمحور حول تعزيز السردية الروسية، وإنشاء حلفاء لذاكرتها التاريخية بدلاً من الأعداء.
بطبيعة الحال، فإن دبلوماسية الذاكرة ليست اختراعاً روسياً، لكنها أداة سخَّرها الكرملين لخدمة مصالحه. وقد بات النطاق الهائل للتكتيكات التي استخدمتها الدولة الروسية في هذا السياق موضوعاً يستحق الدراسة.
من الرقص إلى المتاحف.. شبكة من التحركات للترويج لرواية الكرملين
ففي السنوات الأخيرة، طوَّرت موسكو شبكة واسعة النطاق من الرموز التذكارية والفعاليات والتجريدات الانتقائية للسرديات التاريخية، لأغراض الاستخدام الدولي: وقد شمل ذلك جولات التاريخ العسكري عبر أوروبا، ومسابقات الرقص الاحتفائية، ومعارض المتاحف التي تتناول كلها كيف أن "الجندي السوفييتي" قد أنقذ العالم.
وعملت وزارة الخارجية الروسية والسفارات والمراكز الثقافية والجمعيات التي تعمل تحت إشراف الحكومة في المجال التاريخي، مثل "جمعية التاريخ العسكري الروسية"، على تنظيم هذه الفعاليات وتصديرها بنشاط إلى جميع أنحاء العالم.
وقبل عام 2015، كانت الجهود المتعلقة بدبلوماسية الذاكرة الروسية منصبَّةً إلى حدٍّ كبير على دول الشتات الروسي ودول الاتحاد السوفييتي السابقة، لكن مع تحول تلك الجهود إلى محاولات لتطوير القوة الناعمة الروسية، تزايد توجيه الاهتمام منذ ذلك الحين إلى المواطنين الأجانب الذين لا يملكون روابط تاريخية أو ثقافية مشتركة مع روسيا.
وربما كان أشهر تصدير للسردية التاريخية الروسية هو وسام "شريط القديس جاورجيوس"، الذي يرتديه الروس في يوم النصر لإحياء ذكرى الانتصار في الحرب العالمية الثانية. فمنذ عام 2009، تنظم السفارات الروسية في جميع أنحاء العالم ما يُسمى بفرق "متطوعي النصر"، التي يتألف معظمها من أفراد ينتمون إلى دول الشتات الروسي، لتوزيع شرائط القديس جورجيوس ومواد التسويق التاريخي الأخرى على المارة.
وفي عام 2019، نشط متطوعو النصر في أكثر من 90 دولة، منها الولايات المتحدة، حيث وزعوا نحو 15 ألف شريط إلى جانب كتيبات تروي التاريخ (الانتقائي) لكل من هذا الرمز والدور السوفييتي في الحرب العالمية الثانية.
وهو يوظف هذه الممارسات في أوكرانيا
ومع ذلك، فقد تغافل متطوعو النصر عن ذكر الدلالات الأخرى لشريط القديس جورجيوس، لاسيما تلك المرتبطة بالصراع مع أوكرانيا. ففي عام 2014، احتشدت المجموعات المسلحة التي تُعرف بوحدات "الدفاع عن النفس" الشرقية الأوكرانية، مزينةً بشرائط القديس جورجيوس ومدعومةً بالدعاية الروسية، للدفاع عن النصب التذكارية السوفييتية للحرب ممن سمتهم عصابات "البانديريفتسي" (المتعاونين مع النازيين في زمن الحرب).
وفي عامي 2014 و2015، في جميع أنحاء روسيا وأوكرانيا، ارتدى المؤيدون لروسيا هذه الشرائط لإبداء دعمهم للعدوان الروسي على شرق أوكرانيا.
يعد موكب "الفوج الخالد"، الذي بات له حضور الآن في نحو 115 دولة، تصديراً آخر ناجحاً للذاكرة الروسية في الاحتفالات بذكرى النصر على ألمانيا النازية. ويشمل الموكب مسيرات شعبية واسعة النطاق لأفراد يحملون صوراً لأقاربهم الذين شاركوا في المجهود الحربي السوفييتي خلال الحرب العالمية الثانية.
ورغم أن معظم المشاركين من الخارج في فعاليات "الفوج الخالد" يأتون من دول الشتات الروسي، فإن الفوج الخالد يحظى بشعبية كبيرة في دول مثل إسرائيل (التي تضم عدداً كبيراً من المنحدرين من أصول روسية وقادمين من دول شرق أوروبا السوفييتية سابقاً) وصربيا، حيث باتت فعاليات الفوج الخالد جزءاً لا يتجزأ من احتفالات الصرب بذكرى الحرب العالمية الثانية.
رواية منحازة وتبرر التوسعات الروسية الحالية
قد يبدو هذا غير ذي ضرر نسبياً، لكن تلك البلدان التي تتقبل وتطبق التقاليد التذكارية الروسية لا تكتفي بالتكيف مع الطريقة الروسية في التذكر، فهي تدمج في ذلك جوانب أساسية من الرواية الرسمية الروسية للحرب: وهي رواية تزخر بالرمزيات الجيوسياسية المنحازة لمصالح روسيا. وتستخدم الجهات الفاعلة الحكومية الروسية تاريخاً انتقائياً للحرب العالمية الثانية كأداةٍ لتذكير العالم بما تعتبره الحق الموروث لروسيا في أن تعامل معاملة القوة العظمى، والذي حصل عليه الاتحاد السوفييتي بموجب انتصاره في عام 1945 وإسهامه في تشكيل النظام العالمي لما بعد الحرب العالمية الثانية.
وفقاً لمنطق الكرملين، فإن إنكار هذه النظرة إلى العالم يعني جحد التضحيات السوفييتية وبخسها حقها. فيما يرد النقاد على ذلك بأن تكريم التضحيات السوفييتية لا يعني الطعن في سيادة أوكرانيا أو إنكار الترحيل القسري لشعب البلطيق. ومن ثم يذهب هؤلاء إلى أن التاريخ الذي يروج له الكرملين لا يمكن تأييده لأنه انتقائي لدرجة الكذب، ولأنه لا يحترم حتى ذكرى أولئك الذين قاتلوا إلى جانب الروس في الحرب العالمية الثانية.
وترى المجلة الأمريكية أن الدولة الروسية لا تحاول من الأساس تعزيز سرديات أكثر موثوقية للتاريخ، وإنما تسعى إلى الترويج لتصورات مضللة عن العالم. ومن ثم فإن التقاعس عن الوعي بتلك التشوهات والتضليلات هو مخاطرة تنطوي على نوع من القبول بما ليس فقط تاريخاً متحيزاً، بل أيضاً بتصورٍ فاسد للعالم ورؤية جائرة بطبيعتها لتلك البلدان والشعوب (منها الروس أنفسهم)، الذين عانوا الأمرَّين تحت وطأة الأنظمة السوفييتية والروسية.
وتستخدم الموروث السوفييتي المؤيد لحركات التحرر لنشر نفوذها في إفريقيا
لا تقتصر جهود دبلوماسية الذاكرة الروسية على الدول الغربية. فقد حرص وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، على لفت الأنظار بكثافة تنطوي على نوع من المبالغة إلى المساهمات السوفييتية في جهود المقاومة الصينية في زمن الحرب ضد اليابان، وحقق بعض النجاح في ذلك بالفعل.
وفي الوقت نفسه، استخدمت روسيا دبلوماسية الذاكرة في إفريقيا لتعزيز سمعتها فيما يتعلق بدعم الاتحاد السوفييتي لجهود مكافحة الاستعمار. وفي عام 2018، سافر لافروف إلى لواندا لتدشين نصب تذكاري، بتمويل جزئي من السفارة السوفييتية، للمقاتلين السوفييت والكوبيين والناميبيين الذين حملوا السلاح من أجل استقلال أنغولا.
وفي عام 2020، نظَّمت وزارة الخارجية الروسية أيضاً مؤتمرات أخرى حول موضوع الدعم السوفييتي لحركات مقاومة الاستعمار.
في كثير من الأحيان، تستند الجهات الفاعلة المتحالفة مع روسيا في بعض البلدان إلى ترويجها السابق للروايات التاريخية الموالية لروسيا لتزيد من حدة الانقسامات القائمة في هذه البلدان أو للإطاحة بمنافسيها.
فعلى الرغم من أن دبلوماسية الذاكرة قد تتضمن أعمالاً إيجابية للدبلوماسية بوجهها العام، فإنها قد تتواطأ كذلك في نوع من العلاقة التكافلية مع استخدامات روسيا الأكثر تشويهاً للتاريخ، ويشمل ذلك حروب الذاكرة حول القضايا التاريخية.
التاريخ أساساً للتحالف ضد الغرب
وقد كان السياسيون الروس صريحين بشأن هذا الارتباط، بقولهم إن تحالفات الذاكرة الروسية -مع صربيا والصين وبيلاروسيا على سبيل المثال لا الحصر- تشكِّل جبهةً أساسية فيما تعتبره روسيا حرباً غربية مستمرة على الذاكرة التاريخية.
صوَّرت استراتيجية الأمن القومي الروسية حروب الذاكرة على أنها صراع وجودي، وجادلت بأن الدول الأخرى تحاول تحقيق أهدافها الجيوسياسية عن طريق التلاعب بالوعي الاجتماعي والاستعانة بالتزييف التاريخي.
وقد بات يُصوَّر التاريخ على أنه الأساس الجوهري للوحدة والهوية الروسية. ومن ثم فإن أي هجوم على تصور موسكو التاريخي هو هجوم مباشر على روسيا وشعبها وثقافتها، حسب المجلة الأمريكية.
يرتبط هذا المفهوم للحقيقة التاريخية برؤية روسية أشمل للعالم، إذ ترى روسيا أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وحلفاءه في أوروبا الشرقية يشنون حرباً على التاريخ وعلى الحقيقة نفسها، وأن تلك القوى تسعى إلى الانقلاب على نتائج الحرب العالمية الثانية لتقويض روسيا وفرض نظامٍ أحادي تقوده الولايات المتحدة على العالم برمته. ومن ثم تقدم روسيا نفسها في هذا السياق على أنها المعقل الأخير لصد هذا الهجوم دفاعاً عن الحقائق التاريخية وقيم السيادة والأصالة والتقاليد في جميع أنحاء العالم.
هل نجحت السياسة الروسية في استغلال الانتصار السوفييتي؟
ويعوِّل السياسيون والمسؤولون الروس على خلق نوعٍ من الإحساس بأن الروايات التاريخية الروسية وتقاليد التذكر الخاصة بها باتت حاضرة وشائعة شيوعاً متزايداً في عشرات البلدان، لأن ذلك يمكِّنهم من الإيحاء للجماهير المحلية بأنهم اجتذبوا مزياً من الحلفاء إلى "حربهم ضد التزييف التاريخي"، وأن روسيا ماضية في سبيل استعادة الحقائق التاريخية في جميع أنحاء العالم.
وفي عام 2020، كرَّس الدستور الجديد للاتحاد الروسي مهمةً جديدة للدولة تقوم على واجب الدفاع عما سمّته "الحقيقة التاريخية".
وإذا كان يصعب إجراء تقييم دقيق لمدى نجاح دبلوماسية الذاكرة الروسية في بلوغ أهدافها، حتى مع النجاح الواضح في تصدير التقاليد والفعاليات التذكارية الروسية، فإن المتفق عليه أن المشاركين في هذه الفعاليات في معظم البلدان هم مواطنون أو أشخاص كانوا من المتعاطفين بالفعل مع الرؤية الروسية.
وتقول المجلة الأمريكية إن الحروب الثقافية والتاريخية لا تزال مستعرة في عديد من البلدان الأخرى، ما يعني مزيداً من الأرض الخصبة لتقبُّل جهود روسيا في المستقبل. أما فيما يتعلق بسبل المواجهة، فإن قدرة البلدان الأخرى على الصمود، من نواحٍ عديدة، أمام الجهود الروسية التي تعمد إلى الترويج لتصورات تحريفية عفى عليها الزمن للعالم عن طريق روايات تاريخية مشوهة، يُتوقع أن تعتمد بالأساس على مدى التزام هذه البلدان بمقاومة انجرافها هي نفسها إلى السبيل نفسه، وتصديها لمحاولات تطويع التاريخ لخدمة المصالح والأغراض السياسية.