شنت الولايات المتحدة هجمات على مواقع ميليشيات عراقية مدعومة من إيران، بأمر من الرئيس جو بايدن للمرة الثانية خلال أشهر، فماذا أراد بايدن من تلك الرسالة "الخشنة" لطهران؟ وهل يؤثر ذلك على مفاوضات الاتفاق النووي؟
الجيش الأمريكي قال، في بيان الأحد 27 يونيو/حزيران، إنه استهدف مرافق تشغيل وتخزين أسلحة في موقعين في سوريا وموقع في العراق، دون الإفصاح عما إذا كانت الهجمات قد أسفرت عن سقوط قتلى أو جرحى.
الهجمات جاءت بناء على توجيهات من الرئيس جو بايدن لتصبح ثاني مرة يأمر فيها بايدن بشن هجمات- يصفها الأمريكيون بأنها "انتقامية"- ضد فصائل مسلحة مدعومة من إيران منذ توليه السلطة قبل خمسة أشهر.
لماذا الآن قرر بايدن توجيه الضربات؟
قبل الدخول في تفاصيل الصورة الأكبر لما يحدث بين إيران والولايات المتحدة في هذا التوقيت، من المهم رصد الأجزاء التي تبدو متناثرة ومنفصلة لتلك الصورة. ويرى كثير من المحللين أن العنوان الأبرز الآن هو مفاوضات إعادة إحياء الاتفاق النووي بين واشنطن وطهران، والتي بدأت في فيينا قبل نحو شهرين ووصلت الآن إلى ما يصفه كثيرون بالمحطة الأخيرة.
فالمرة الأولى التي أمر بايدن بتوجيه ضربة عسكرية لميليشيات عراقية مدعومة من إيران كانت في فبراير/شباط الماضي، وبدا وقتها أن الأمور في طريقها للتصعيد بين واشنطن وطهران، لكن ذلك لم يحدث، بل حدث العكس. إذ تم الإعلان عن بدء مفاوضات غير مباشرة بين الأمريكيين والإيرانيين في فيينا- بحضور باقي أطراف الاتفاق النووي وهم بريطانيا وفرنسا وألمانيا وروسيا والصين، على الرغم من الرفض الإيراني المعلن والمتكرر لتلك المفاوضات.
وحتى تكون الصورة أكثر وضوحاً، من المهم تذكر أن العودة للاتفاق النووي هي الملف الأبرز لإدارة بادين والهدف الاستراتيجي الأول الذي تأتي جميع إجراءات الإدارة في الشرق الأوسط من خلاله. وهذه الحقيقة ليست غائبة عن طهران ولا عن باقي القوى الإقليمية المعارضة بشراسة لذلك الاتفاق وعلى رأسها إسرائيل والسعودية، وكلاهما حليف لواشنطن.
وفي هذا الإطار، تستخدم طهران أوراق الضغط المتاحة لديها لإجبار إدارة بايدن على رفع العقوبات التي كانت إدارة ترامب قد فرضتها عندما انسحبت من الاتفاق النووي عام 2018. وتعتبر القوات والقواعد الأمريكية في العراق- حيث توجد ميليشيات الحشد الشعبي المدعومة من طهران- الحلقة الأضعف وتتعرض بشكل متكرر لهجمات من جانب تلك الميليشيات، وإن كانت تلك الهجمات نادراً ما تتسبب في خسائر بشرية بين الجنود الأمريكيين.
وينتهج بايدن سياسة دبلوماسية أكثر هدوءاً في تعاملاته مع إيران، على عكس سلفه ترامب الذي انتهج سياسة الضغط الأقصى اقتصادياً من خلال العقوبات وعسكرياً من خلال توجيه ضربات عنيفة، أبرزها بالطبع اغتيال قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني ونائب رئيس الحشد الشعبي أبومهدي المهندس في ضربة صاروخية استهدفت موكبهما بالقرب من مطار بغداد مطلع عام 2020.
وهذا السياق الذي ينتهجه بايدن وضعه في موقف صعب داخلياً، خصوصاً أن إيران لم تقابل الإجراءات التي اتخذها الرئيس الأمريكي بغرض تهدئة الأمور بما كان يتوقعه بايدن من إجراءات مشابهة. فقد أعلنت إدارة بايدن وقف الدعم الأمريكي للتحالف السعودي-الإماراتي في حرب اليمن، وألغت قرار إدارة ترامب تصنيف الحوثيين (المدعومين من طهران) منظمة إرهابية، على أمل وضع نهاية للحرب الكارثية في اليمن. لكن الحوثيين قابلوا تلك الإجراءات بتصعيد عسكري غير مسبوق داخل اليمن في مأرب وخارجه باستهداف السعودية بشكل مكثف، وهو ما زاد الضغوط على بايدن من جانب خصومه الجمهوريين، وجعله يبدو ضعيفاً وغير قادر على كبح إيران ووكلائها في المنطقة.
لذلك ظهرت تقارير عدة تتحدث عن ممارسة طهران ضغوطاً على ميليشيات الحشد الشعبي في العراق للتوقف عن مهاجمة القوات والقواعد الأمريكية، كما ظهرت للعلن تقارير إجراء محادثات سرية مباشرة بين الإيرانيين والسعوديين في العراق، وهو ما يشير إلى أن سياسة بايدن ربما تؤتي أكلها في نهاية المطاف، خصوصاً بعد أن وافقت طهران على البدء في مفاوضات فيينا لإعادة إحياء الاتفاق النووي.
هذا السياق يفسر- بحسب كثير من المحللين الأمريكيين- توقيت ضربة أمس الأحد التي شنها الجيش الأمريكي على قواعد الفصائل العراقية المدعومة من طهران في سوريا والعراق. فالرسالة الأولى عبارة عن تحذير من بايدن إلى طهران مباشرة مفاده: "لا يمكنكم التصرف بعدوانية دون عقاب"، بحسب تقرير لموقع Axios الأمريكي.
هل تؤثر الضربة الأمريكية على مفاوضات الاتفاق النووي؟
يمكن الإجابة عن هذا السؤال في تصريحات المسؤولين الأمريكيين بشأن الضربة، من حيث حجمها والغرض منها. فقد قال مسؤولان أمريكيان، تحدثا لرويترز شريطة عدم الكشف عن هويتهما، إن الفصائل المدعومة من إيران شنت ما لا يقل عن خمس هجمات بطائرات مسيرة على منشآت يستخدمها عسكريون أمريكيون ومن قوات التحالف في العراق منذ أبريل/نيسان.
وقال البنتاغون إن المنشآت المستهدفة كانت تستخدمها فصائل مسلحة مدعومة من إيران من بينها كتائب حزب الله وكتائب سيد الشهداء. وقال مسؤول دفاعي إن إحدى المنشآت المستهدفة استخدمت لإطلاق الطائرات المسيرة واستعادتها.
وصرح مسؤولون بأن الجيش الأمريكي شن الهجمات بطائرات إف -15 وإف -16. وقالوا إن الطيارين الذين نفذوا هذه الهجمات عادوا بسلام. وقال أحد المسؤولين لرويترز: "نقدر أن كل ضربة أصابت الأهداف المقصودة".
وقالت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) في بيان: "تظهر هجمات هذا المساء أن الرئيس بايدن واضح في أنه سيتحرك لحماية الأمريكيين". وهذا رد مباشر على منتقدي بايدن الذين يقولون إنه لا يمكن الوثوق بإيران ويشيرون إلى هجمات الطائرات المسيرة كدليل آخر على عدم قبول إيران ووكلائها على الإطلاق بوجود عسكري أمريكي في العراق أو سوريا.
لكن من المهم التوقف عند تصريحات جون كيربي، المتحدث الرسمي باسم البنتاغون، حين قال: "اتخذت الولايات المتحدة إجراء ضرورياً ومناسباً (من حيث الحجم) ومصمماً بشكل متعمد كي يقلل من خطر التصعيد، ولكنه أيضاً يرسل رسالة ردع واضحة وغير مبهمة"، بحسب تقرير لمجلة Politico الأمريكية.
وكان لافتاً تركيز المسؤولين العسكريين في واشنطن على أن الضربات "دفاعية وفي إطار القانون الدولي واستهدفت مواقع ومخازن أسلحة استخدمت مراراً في شن هجمات بطائرات مسيرة على القوات الأمريكية"، وأن الهدف منها ليس التصعيد وإنما التأكيد على استعداد الأمريكيين للرد على أي استهداف لهم.
الضربة العسكرية الأولى التي أمر بها بايدن في فبراير/شباط واستهدفت فصائل عراقية مدعومة من إيران لم تؤدّ إلى مزيد من التصعيد، وهذا أيضاً ما يتوقعه أغلب المراقبين بشأن هذه الضربة الثانية التي تتزامن مع لقاءات على أعلى مستوى بين إدارة بايدن والحكومة الإسرائيلية، الحليف الأبرز لواشنطن والعدو اللدود للاتفاق النووي.
ما علاقة إسرائيل بالضربة الأمريكية؟
من المقرر أن يعقد بايدن اجتماعاً اليوم الإثنين 28 يونيو/حزيران مع الرئيس الإسرائيلي الذي أوشكت رئاسته على الانتهاء رؤوفين ريفلين في البيت الأبيض لإجراء مناقشات موسعة على رأسها مساعي الولايات المتحدة للعودة إلى الاتفاق النووي الإيراني، وهي المساعي التي تعارضها إسرائيل بشدة.
وأمس الأحد قال وزير الخارجية الإسرائيلي يائير لابيد لنظيره الأمريكي أنتوني بلينكن إن لدى إسرائيل تحفظات جدية على الاتفاق النووي الذي يجري إتمامه مع إيران في فيينا. وقال مسؤولون أمريكيون إنه في أول اجتماع مباشر بينهما منذ أداء الحكومة الإسرائيلية الجديدة اليمين قبل أسبوعين، أجرى بلينكن ولابيد مباحثات إيجابية وودية للغاية.
وكانت الموضوعات الرئيسية هي الاتفاق النووي واتفاقات التطبيع التي أبرمتها إسرائيل مع دول الخليج العربية والمساعدات الإنسانية لغزة ووضع القدس الشرقية.
وقال لابيد في تصريحات موجزة قبل بدء الاجتماع في العاصمة الإيطالية روما: "لدى إسرائيل بعض التحفظات الجدية حول الاتفاق النووي الذي يجري إتمامه مع إيران في فيينا. نعتقد أن طريقة مناقشة تلك الخلافات تكون من خلال المحادثات المباشرة وليس في المؤتمرات الصحفية". وأضاف أن إسرائيل ستعمل على تحسين العلاقات مع واشنطن.
وفي هذا السياق، يرى فريق من المراقبين أن رسائل بايدن من إصدار أمر الضربة العسكرية ضد مواقع فصائل عراقية مدعومة من إيران في هذا التوقيت ليست فقط موجهة إلى طهران، وإنما أيضاً لحلفاء واشنطن في المنطقة وبخاصة إسرائيل، ومفادها أن العودة للاتفاق النووي لا تعني الانسحاب من الشرق الأوسط أو إعطاء طهران ووكلائها ضوءاً أخضر ليفعلوا ما يشاؤون.
الخلاصة هنا أن رسالة بايدن إلى طهران تحذيرية وخشنة، وفي الوقت نفسه هي رسالة "طمأنة" للحلفاء وعلى رأسهم إسرائيل، بينما لا تعني هذه الضربة أن الرئيس الأمريكي قد قرر التوقف عن محاولة إعادة إحياء الاتفاق النووي، الذي تعتبره طهران أيضاً هدفاً استراتيجياً.