أعاد تلقي الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون "صفعة" جديدة في انتخابات الأقاليم إلقاء الضوء على استراتيجيته الهادفة إلى السيطرة المطلقة على المساجد في فرنسا وإخضاعها لسلطة الحكومة، فإلى أين وصلت حملة ماكرون؟
واليوم الأحد 27 يونيو/حزيران، يواجه حزب ماكرون جولة الإعادة في الانتخابات الإقليمية، بعدما تعرض لخسارة كبيرة في الجولة الأولى، إذ حلَّ خلف المرشحين المحافظين والتجمع الوطني بمسافة كبيرة، بينما شهدت تلك الجولة نسبة مقاطعة عالية.
وتناول تقرير لصحيفة The Wall Street Journal الأمريكية تركيز الرئيس الفرنسي على ما يسميها معركة "رسم الخط الفاصل بين الدين والدولة" لإجبار "المنظمات الإسلامية على الدخول في قالب العلمانية الفرنسية. تلك الاستراتيجية التي يصفها منتقدو ماكرون بأنه يسعى لفرض "نسخة من الإسلام على الطريقة الفرنسية".
ففي الأشهر الأخيرة، عزلت إدارة ماكرون قيادة أحد المساجد بعد إغلاقه مؤقتاً ودراسة تمويلاته تفصيلياً. وتخلى مسجد آخر عن دعم بالملايين بعدما ضغطت الحكومة على المسؤولين المحليين بشأن التمويل. وواجه نحو 12 مسجداً آخر أوامر بالإغلاق المؤقت لانتهاكها قواعد السلامة أو الحريق.
حملة فرنسية تستهدف المساجد
اتخذت الحكومة هذه الإجراءات كمقدمة لحملة أوسع بكثير لكبح استقلالية المساجد والمنظمات الدينية الأخرى في أرجاء فرنسا. فقدَّم الرئيس ماكرون مشروع قانون للبرلمان، يُدعى "قانون تعزيز احترام مبادئ الجمهورية"، من شأنه تمكين الحكومة من الإغلاق الدائم لدور العبادة وحل المنظمات الدينية دون أمر قضائي إذا ما قررت -من طرف واحد- أنَّ أيٍّ من أعضاء تلك المنظمات يحرض على العنف أو الكراهية.
فضلاً عن ذلك، من شأن مشروع القانون أن يسمح بالإغلاق المؤقت لأي مجموعة دينية تنشر أفكاراً تحرض على الكراهية أو العنف. وسيتعين على المنظمات الدينية الحصول على تراخيص حكومية كل خمس سنوات لمواصلة العمل، والحصول على مصادقة سنوياً على حساباتها إذا تلقت تمويلاً أجنبياً.
سيُناقَش مشروع القانون الأسبوع المقبل في "الجمعية الوطنية"، حيث يُتوقَّع أن تُمرِّره أغلبية ماكرون بحلول نهاية العام. وينطبق مشروع القانون على كل دور العبادة، بما في ذلك الكنائس المسيحية والكُنُس اليهودية، لكنَّ تحركات الحكومة مُوجَّهة للمساجد والمنظمات الإسلامية، بحسب الصحيفة الأمريكية.
يقول القادة الدينيون إنَّ حملة الحكومة تتجاوز الفصل بين الدين والدولة الذي نشأ بموجب قانون صدر عام 1905. وقد شكَّل هذا القانون "اللائكية"، وهو الشكل الفرنسي الصارم من العلمانية، من خلال منع المجموعات الدينية من الحصول على مساعدات من الدولة، باستثناءات قليلة، واستبعاد رجال الدين من المناصب الحكومية. وأسس أيضاً حرية الضمير وحرية ممارسة الدين، في إطار حدود "النظام العام".
وقال شمس الدين حافظ، عميد مسجد باريس الكبير لوول ستريت جورنال: "إنَّنا نمنح سلطة كبيرة جداً للإدارة (الحكومة)". وصرَّح الكاردينال بيترو بارولين، المسؤول الثاني في الفاتيكان، للتلفزيون الفرنسي بأنَّ التشريع "يهدد التوازن الذي جرى إيجاده على مدار القرن الماضي".
ماكرون وهجومه على "الإسلام السياسي"
يقول ماكرون إنه يدافع عن فرنسا ضد ما يُسمِّيه الانفصالية الإسلاموية، التي يصفها بأنَّها مشروع سياسي وديني يهدف لخلق مجتمع موازي يكون للقواعد الدينية فيه الأسبقية على القوانين المدنية.
ويقول إنَّ أتباعها يستخدمون الترهيب والعنف للضغط على المعلمين والعاملين بالرعاية الصحية والموظفين المدنيين الآخرين للانحراف عن قيم الجمهورية الفرنسية، ما أدَّى إلى تغذية سنوات من الهجمات على الأراضي الفرنسية.
وتضغط الحكومة على المساجد للتوقيع على "ميثاق مبادئ" يشهد على امتثالها لقيم الجمهورية الفرنسية. لكنَّ بعض القيادات المسلمة كانت مترددة في التوقيع عليه، قائلةً إنَّ الوثيقة تحدد نطاق الممارسة الدينية بشكل ضيق للغاية، وشهدت هذه القيادات استهداف الحكومة لمنظماتهم.
يقول المسؤولون الفرنسيون إنهم يُلزِمون المساجد بميثاق كتبته قيادات مسلمة بارزة بطلب من ماكرون. لكنَّ أشخاصاً منخرطون في عملية الصياغة قالوا إن وزير داخليته، جيرالد دارمانان، لعب دوراً محورياً في بلورة الميثاق، وأشرف عن كثب على مجموعة صغيرة من القيادات المسلمة التي استعان بها لكتابته، ومنع أي تعديلات من القيادات الأخرى، الذين كان يُنتَظَر منهم بعد ذلك التوقيع عليه.
المسلمون في فرنسا
ويقول محمد موسوي، رئيس المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، إنَّ المعركة ضد الانعزالية الإسلاموية أولوية للقادة المسلمين، لكنَّه يشكك في أنَّ المساجد تنشرها.
وذهبت فرنسا أبعد من أي بلد غربي آخر في مواجهة ما تسميها "التيارات الراديكالية" داخل الإسلام. إذ وقَّعت السلطات المحلية في بعض الولايات الألمانية اتفاقات مع المجموعات المسلمة ترفض فيها هذه المجموعات العنف والتمييز. وحظرت النمسا التمويل الأجنبي لدور العبادة.
لكن في فرنسا، أصبحت مسألة تأثير الإسلام على المجتمع هي المسألة المُحدِّدة للانتخابات الرئاسية العام المقبل. وأشارت حكومة ماكرون في بعض الأحيان إلى حملتها لتنظيم المساجد باعتبارها إشارة على أنَّها يمكنها الالتفاف في هذه المسألة على مارين لو بان، زعيمة حزب "التجمع الوطني" المناهض للمهاجرين ومنافسته الرئيسية.
وحاولت لوبان تصوير ماكرون بأنه لين مع "الإسلاموية"، وهو مصطلح غير دقيق ومثير للجدل يستخدمه بعض السياسيين في فرنسا لوصف أي حركة سياسية أو اجتماعية بشكل عام تسعى لتنظيم المجتمع وفقاً للقواعد التي ينص عليها الإسلام.
وانتقدت لوبان، خلال مناظرة مؤخراً مع دارمانان، مشروع قانون ماكرون باعتباره هجوماً على الحرية الدينية ويطمس الخطوط الفاصلة بين الإسلام والإسلاموية. وقالت: "الإسلاموية أيديولوجيا، وهي أيديولوجيا شمولية، ويمكننا بالتأكيد فصلها عن الدين". وردَّ دارمانان: "تناولي فيتاميناتك. لستِ صارمةً بما يكفي"، وهو ما جعل الذهول بادياً على لوبان.
إغلاق المساجد دون أمر قضائي
كان محمد حنيش، الذي يتردد على مسجد في ضاحية بانتان التي تقطنها الطبقة العاملة في باريس، في منزله أكتوبر/تشرين الأول الماضي حين أرسل إليه أحد المتطوعين بالمسجد مقطع فيديو عبر تطبيق "واتساب". كان المقطع يُظهِر رجلاً ينتقد معلم ابنته في المدرسة المتوسطة بشدة لأنَّه عَرَضَ رسماً كاريكاتورياً بذيئاً للنبي محمد (صلى الله عليه وسلم) في الصف. وقال الرجل في مقطع الفيديو إنَّ المعلم قد أخبر الطلبة المسلمين بمغادرة الصف قبل عرض الرسم الكاريكاتوري، وهو الادعاء الذي قرر المدعون الفرنسيون بعد ذلك إنَّه غير صحيح.
أراد المتطوع الإذن لنشر الفيديو على صفحة المسجد على فيسبوك. وقد ضربت فكرة إفراد معاملة خاصة للطلبة المسلمين على وتر حساس لدى حنيش. فمنح الموافقة بصفته رئيس المسجد.
وبعد نشر الفيديو، ظهر تعليق من شخص لم تعلن الشرطة عن هُويته على صفحة المسجد يُحدِّد فيه هُوية المعلم ويُقدِّم عنوان مدرسته. وبعد ذلك بأسبوع، قُطِعَ رأس المعلم، صامويل باتي، وهو في طريقه إلى منزله. وقد شكَّت الشرطة بأنَّ صفحة المسجد على فيسبوك قادت المهاجم إلى باتي.
أغلقت الحكومة مسجد بانتان مؤقتاً، مُتذرِّعةً بقانون جرى تمريره في أعقاب الهجمات الإرهابية التي وقعت في 2015. ويُمكِّن القانون الحكومة من إغلاق أي مسجد لستة أشهر من أجل مكافحة أعمال الإرهاب.
بالنسبة لماكرون، كان قطع رأس المعلم اعتداءً على كل ما تمثله الجمهورية الفرنسية. وقال: "لن نتخلى عن الكاريكاتير والرسومات حتى لو تراجع الآخرون". والتقى ماكرون في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي بقصر الإليزيه مع قادة المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، الذي يُمثِّل سكان فرنسا المسلمين المنقسمين بشدة.
كان بعض المجتمعين في الغرفة المُذهَبة يشرفون على مساجد تمولها الجزائر والمغرب، وهما مستعمرتان سابقتان تحتفظان بعلاقات وثيقة مع باريس. وكان آخرون يمثلون مسلمين هاجروا مؤخراً من تركيا، التي كانت توتراتها مع فرنسا في تصاعد.
قال ماكرون إنَّه يريد من القادة كتابة ميثاق لطمأنة البلاد بأنَّهم، بصفتهم ممثلين للمسلمين الفرنسيين، يدعمون القيم الجمهورية والعلمانية الفرنسية. وقال إنَّه قلق من تزايد عدم الثقة في المسلمين في أرجاء فرنسا. وسعى ماكرون لطمأنة المجموعة بأنَّ الحكومة ليست بصدد تجاوز حدودها. فقال: "اسمعوا، لسنا هنا لنخبركم مَن هو المسلم الملتزم أو غير الملتزم".
توظيف الدين لأغراض سياسية
واستعان ماكرون بدارمانان لتنسيق المفاوضات بين القادة المسلمين لصياغة الميثاق. وقال موسوي، رئيس المجلس، إن دارمانان رد على المسودة الأولية للمجموعة بطلب اختصار معظمها، لكنَّه أراد مزيداً من التفاصيل في جزءٍ بعينه: رفض استخدام الإسلام لتحقيق أهداف سياسية.
تلا ذلك نقاش داخل المجلس الإسلامي حول ماهية ما يمثل نشاطاً سياسياً للمساجد. قدَّم المسجد الكبير في باريس الدعم لتوبيخ واسع لأي تدخل في المسائل السياسية. لكنَّ القلق راود "مللي غوروش"، وهي مجموعة تمثل المهاجرين المسلمين الأتراك، من إمكانية تحول الميثاق إلى تكميم للمسلمين الراغبين في المشاركة في النقاشات السياسية في فرنسا وفي دولهم الأصلية. وأشار قادة عدة إلى أنَّ بعض المسائل التي تحرك الحياة السياسية الفرنسية، مثل حظر الموظفين العموميين من ارتداء الحجاب في العمل، تتعارض مع التعاليم الإسلامية.
استدعى دارمانان موسوي ونائبيه بالمجلس، شمس الدين حافظ وإبراهيم ألجي، رئيس اللجنة التنسيقية للمسلمين الأتراك في فرنسا. قال حافظ إنَّ المجموعة أمضت ساعات في مكتب وزير الداخلية وهي تعمل على مسودة جديدة، وغادر الوزير لغداءٍ رسمي. وحين عاد، قرأت المجموعة النص ووضعت اللمسات النهائية عليه. ويتذكر حافظ كلمات الوزير الوداعية للثلاثة، الذين تلقوا حينها تعليمات لجمع التوقيعات من القيادات المسلمة الأخرى: "لن نغير ولا فاصلة في هذا النص".
تطلَّبت النسخة الجديدة، التي جاءت بعنوان "ميثاق مبادئ لإسلام فرنسا"، من المُوقِّعين رفض كل أشكال "الإسلام السياسي". وقد حددت هذا الإسلام السياسي بأنه حركات مثل "الصوفية" فضلاً عن الأيديولوجيات المرتبطة بمنظمات وطنية أو عابرة للحدود الوطنية مثل "الإخوان المسلمين".
ووصف النص أي محاولة من جانب المسلمين لاتهام الدولة بالعنصرية أو ادعاء دور الضحية بأنَّه افتراء. ورفض الميثاق أي استخدام للمساجد من أجل "نشر خطابات قومية تدافع عن أنظمة أجنبية وتدعم السياسات الخارجية المعادية لفرنسا بلدنا ورفاقنا المواطنين الفرنسيين". وقال إنَّ أي مجموعة تنتهك الميثاق ستواجه اللفظ من جانب "كل الهيئات المُمثِّلة لإسلام فرنسا".
قدم موسوي في اليوم التالي المسودة الجديدة للقادة الآخرين في المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية. وقال إنَّه قدَّم إنذاراً بعد ساعات من النقاش: اقبلوه أو ارفضوه.
اعترض فاتح ساريكير، رئيس الفرع الفرنسي لمجموعة مللي غوروش على العديد من النقاط، من تعريف الإسلام السياسي وحتى رفض التمييز على أساس التوجه الجنسي. وأصدرت مللي غوروش ومجموعتان أخريان لاحقاً دحضاً للميثاق نقطة بنقطة. نُظِّم احتفال للتوقيع في 18 يناير/كانون الثاني، دون حضور ساكيري وقادة المجموعتين الأخريين.
وقال مساعد مقرب لماكرون في مقابلة آنذلك إنَّ القادة الذين رفضوا التوقيع عرَّضوا مجموعاتهم لـ"شكوك بشأن تعلُّقهم بالجمهورية. لذا، سنكون منتبهين جداً جداً لعملياتهم، من حيث الضبط والمراقبة وتحليل الخطب والتمويل".
صوَّت مجلس مدينة ستراسبورغ في مارس/آذار الماضي لتخصيص 2.5 مليون يورو (3 ملايين دولار) لمساعدة مللي غوروش على الانتهاء من بناء مسجد ضخم شرقي فرنسا قرب الحدود الألمانية.
وكان يحق للمشروع الحصول على الدعم لأن ستراسبورغ تقع في منطقة الألزاس-موزيل، وهي منطقة حدودية كانت تحت حكم بروسيا في 1905 حين تبنَّت فرنسا قانونها بشأن "اللائكية". ولا يزال اتفاقاً توصل إليه نابليون بونابرت مع الفاتيكان عام 1801 سارياً هناك، وهو الذي يسمح لستراسبورغ بدعم المجموعات الدينية.
نشر دارمانان بعد تصويت المدينة رسالة على تويتر يتهم فيها عمدة ستراسبورغ، جين بارسيغيان، بتمويل مسجد مدعوم من مجموعة "ترفض التوقيع على ميثاق مبادئ إسلام فرنسا وتدافع عن الإسلام السياسي".
أطلقت هذه التعليقات عاصفة نارية. فطلبت بارسيغيان حماية أمنية بعد تلقيها تهديدات. وأظهر أحد استطلاعات الرأي أن 78% من المستطلعة آراؤهم في عموم فرنسا يدعمون إلغاء اتفاق 1801 في الألزاس-موزيل. سحبت مجموعة مللي غوروش طلبها للحصول على الدعم. وقال ساريكير: "أصبحنا مصدراً للتوتر، وهو الأمر الذي لم نرده مطلقاً".
كان قرار الحكومة بإغلاق مسجد بانتان يقارب الانتهاء من مدته البالغة 6 أشهر. ولم يُتَّهم أي أحد في المسجد بالارتباط بقطع رأس المعلم، لكنَّ السلطات الفرنسية استخدمت الإغلاق للضغط على المسجد من أجل إجراء تغييرات عميقة.
فأصرَّت على فصل أحد الأئمة، قائلةً إنَّ خطبه جاءت مُستلهَمة من زياراته لأحد المواقع السلفية على الإنترنت، وأنَّ طفله يرتاد مدرسة إسلامية مستترة. وأمرت السلطات المسجد بتعيين نساء في مجلس إدارة الجمعية المسؤولة عنه. وقد امتثل رئيس المسجد، حنيش. لكن كان هناك مطلب واحد عارضه: استقالته هو. وحين رفض، أرسلت الحكومة إليه خطاباً تسحب من جمعيته رخصة عملها. استقال حنيش وعاود المسجد العمل في أبريل/نيسان بعدما ضمَّن قادته الجدد الميثاق في النظام الأساسي للمسجد. وقال حنيش: "هذا ابتزاز".