أصبح الصراع الأمريكي الصيني في الفضاء أمراً ينذر بالخطر على البلدين والعالم كله، وباتت الحاجة إلى تعاون بين الجانبين في مجال الفضاء أمراً ملحاً، خاصة في ظل وجود سوابق في تاريخ أمريكا وروسيا في هذا الشأن.
وأصبحت الصين صاحبة ثاني أكبر برنامج فضائي في العالم، بعد الولايات المتحدة، وهو أمر أدى إلى قلق أمريكي شجع على نشوب الصراع الأمريكي الصيني في الفضاء، حسبما ورد في تقرير لموقع Responsible Statecraft الأمريكي.
قوانين تؤجج الصراع الأمريكي الصيني في الفضاء
نجحت الصين في 17 يونيو/حزيران في إرسال طاقم مكون من 3 رجال إلى محطتها الفضائية التي بنتها محلياً "تيانهي". ومن المقرر أن تعمل المحطة بشكل كامل وتنافس محطة الفضاء الدولية الحالية في الحجم والتطور بحلول عام 2022. ويعود السبب في بناء الصين محطتها الفضائية الخاصة بدلاً من العمل مع الشركاء الدوليين بشكل كامل تقريباً إلى الولايات المتحدة وجهودها لإبقاء الصين خارج التعاون بشأن الفضاء.
إذ تضمَّن مشروع قانون مخصصات وزارة الدفاع الذي مرره الكونغرس في 2011 تعديلاً يحظر أي تعاون ثنائي بين وكالة الفضاء الأمريكية "ناسا" و"الصين أو أي شركة مملوكة لبكين ما لم يُصرَّح لهذه الأنشطة على وجه التحديد.
وقد بُرِّر هذا التعديل بالمخاوف بشأن استغلال الصين للتكنولوجيا مزدوجة الاستخدام في برنامجها الفضائي من أجل تعزيز قدرتها العسكرية. وكان مبعث التخوف الذي طُرِحَ هو أنَّ "وكالة الفضاء الوطنية" الصينية قد تساعد بطريقةٍ ما في سرقة الملكية الفكرية الأمريكية.
لم يكُن التعديل سياسة جديدة، بل تقنيناً لجهد طويل الأمد من جانب مجموعات نافذة في الولايات المتحدة لإقصاء الصين من التعاون في مجال الفضاء. إذ لم تدعُ الولايات المتحدة، على ما يبدو دون منهجية استراتيجية منها، الصين قط للمشاركة في محطة الفضاء الدولية أو مهمات ناسا الأخرى.
وأجَّجت الولايات المتحدة الوضع أكثر في عام 2019 بإنشاء "قوة الفضاء" لتكون فرعاً جديداً من أفرع الجيش الأمريكي، وكان هدف هذه القوة المعلن هو "حماية مصالح الولايات المتحدة وحلفائها في الفضاء وتوفير قدرات فضائية للقوة المشتركة".
ومثَّل التأسيس الرسمي لقوة الفضاء تحولاً رئيسياً في العقلية الأمريكية بشأن الفضاء، من عقلية استكشافية بقيادة مدنية عن عمد إلى العسكرة التدريجية.
ويبدو أنَّ هذا التحول إلى العسكرة وإقصاء الصين أمران مترابطان في ظل اعتبار الكثيرين في الولايات المتحدة الصين دولة معادية بطبيعتها، وأنَّ الفضاء ساحة معركة أخرى.
الإجراءات الأمريكية لم تؤثر على خطط الصين، ولكن برنامجها حتى الآن يبدو سلمياً
ولا يبدو أنَّ مساعي الولايات المتحدة لإقصاء الصين من عملياتها الفضائية تُبطئ برنامج بكين النامي بسرعة، والذي يجري الآن تطويره دون أي مساهمة أو مراقبة عن كثب من جانب الولايات المتحدة.
وقد بدأت الصين منذ عام 2011 بناء محطة فضاء دائمة، وأرسلت مسابير إلى المريخ، وبدأت تعزيز صناعة الطيران الفضائي الخاصة بها بسرعة. وبدلاً من الاعتراف بحق الصين في إقامة برنامج فضاء سلمي وقوي، يُركّز الحديث بشأن برنامج الفضاء الصيني في الولايات المتحدة على طبيعته السرية وتطبيقاته العسكرية المحتملة.
وبالتأكيد لم تصنع وكالة الفضاء الوطنية الصينية لنفسها أي معروف لكسب ثقة العالم. فهي تعمل تحت رعاية الجيش الصيني، وتفيد تقارير بأنَّ الأفراد الرئيسيين بها معزولون في منشآت بحثية شديدة الحراسة تحت الأرض.
ورغم ذلك فإنَّ معظم عمل الوكالة الصينية لا يزال علمياً وهندسياً بطبيعته، وتؤدي مساعي التعامل معها باعتبارها مؤسسة عسكرية حصراً إلى إلغاء أي حافز لديها لتكون أكثر صراحةً وتعاوناً، حسب التقرير.
سقوط الصاروخ الصيني يظهر الحاجة للتعاون بين العملاقين
ومع زيادة تطوير مجال الفضاء، باتت الحاجة لتسهيل حتى التواصل الأساسي شديدة الإلحاح. والمشكلات المتعلقة بالصاروخ الصيني Long March 5B الذي تسبب سقوطه في ذعر عالمي تُظهر ذلك.
ففي حال كان حطام الصاروخ أصاب منطقة سكنية، لكان هدَّد بالتسبب بدمار وخسارة كبيرة بالأرواح. لحسن الحظ، سقطت بقايا الصاروخ في المحيط الهندي. لكنَّ عمليات الإطلاق المستقبلية قد لا تكون بنفس الحظ.
وقبل ذلك وفي حادثة أخرى سابقة، أطلق الصينيون صاروخ لونغ مارش 5 بي للفضاء وبعد انتهاء مهمته، وسقطت قضبان كبيرة طويلة من المعدن منه وألحقت أضراراً بالعديد من المباني في ساحل العاج.
ويمكن في مثل هذه الحالات أن تستفيد وكالة الفضاء الصينية ووكالة الفضاء الأمريكية كثيراً من التبادلات العلمية والهندسية. لكنَّ مثل هذه التبادلات ممنوعة الآن بموجب التعديل المعروف باسم "تعديل وولف".
المحققون الأمريكيون يطاردون الطلاب الصينيين
في الواقع، أدَّت الصياغة السيئة لتعديل وولف إلى إساءة المدعين الفيدراليين مفرطي الحماسة استخدام التعديل لمضايقة المواطنين الصينيين العاملين في الجامعات، على الرغم من كون ناسا هي الوكالة الأمريكية الوحيدة الممنوعة صراحةً من التواصل الثنائي مع الجانب الصيني.
لكنَّ التحديات الجمعية التي تواجهها البشرية في الفضاء ستصبح أكثر حدة في السنوات المقبلة. فالتقنيات الجديدة والجدوى الاقتصادية الجديدة للفضاء تجعل، وبسرعة، الوصول إلى الفضاء ممكناً أكثر، وهو ما يفتح الباب أمام التطوير التجاري في مدار الأرض المنخفض والاستكشاف المأهول وغير المأهول للمناطق الأبعد بكثير في النظام الشمسي.
تجربة التعاون مع روسيا نموذج يمكن تكراره
ويثير الحضور المتنامي للشركات الخاصة في الفضاء عدداً من الأسئلة من حيث السلامة ومدى القانونية.
لكن في ظل الوضع الراهن، لا توجد معاهدات دولية شاملة تحكم ملكية الموارد والملكية الفكرية في الفضاء. وبدأت الولايات المتحدة معالجة ذلك من خلال اتفاق "أرتميس" الذي بُني على "معاهدة الفضاء الخارجي" السابقة، لكنَّ كلا الاتفاقيتين واسعتي النطاق جداً، ولا يشمل اتفاق أرتميس الأخير الصين أو روسيا.
وإذا كانت الولايات المتحدة ترغب في ضمان تطوير سلس للفضاء الخارجي على مدار العقود المقبلة، فإنَّها بحاجة لإزالة حواجز التواصل بين وكالتها الفضائية الرئيسية ووكالة الفضاء الصينية التي تعد ثاني أكبر وكالة فضائية في العالم.
وإلى جانب تمكين التواصل العلمي، سيساعد هذا في تسهيل القدرة على التعرف على المشكلات المحتملة وتجميع الاتفاقيات العادية المتشابهة مثل اتفاقيات الطيران المدني والاتصالات، وهو ما سيسمح بأن يكون الفضاء مجالاً مشتركاً للسعي البشري.
يتعين على الولايات المتحدة أيضاً الاعتراف بأنَّها معتمدة على التعاون الدولي على نحوٍ أكبر بكثير مما تود الاعتراف به، وبأنَّها استفادت كثيراً من هذا التعاون.
وكانت الولايات المتحدة حتى العام الماضي تعتمد بصورة تامة على التعاون الدولي من أجل الحفاظ على برنامج فضائي مأهول أساساً. وكانت روسيا في وقتٍ من الأوقات نموذجاً لمنافع التعاون الدولي.
فبناء محطة الفضاء الدولية، وتزويدها المستمر بالإمدادات، وتناوب طاقمها هو النتيجة المباشرة للتعاون بين وكالة الفضاء الروسية وناسا. وقد سمح هذا لناسا بالحفاظ على وجود مأهول في المدار طوال عشرين عاماً، وسمح لها كذلك بالحصول على رزم البيانات الضخمة التي ستُمكِّن ذات يوم البعثات من التعمق في النظام الشمسي أكثر.
لكنَّ عداء الولايات المتحدة لروسيا بدأ في تفتيت هذه العلاقة المفيدة. إذ قررت موسكو بناء محطتها الفضائية الخاصة بدلاً من مواصلة الشراكة مع الولايات المتحدة، ووقعت أيضاً مذكرة تفاهم مع الصين بشأن إنشاء قاعدة على القمر. وفي الوقت نفسه، يُرجَّح أن تفتتح بكين محطتها الفضائية أمام البلدان الأخرى.
وقد أُحرِزَ بعض التقدم. ففيما يتعلق بالتعاون، تفيد تقارير بأنَّ وزارة الدفاع الأمريكية، غير المتأثرة بتعديل وولف الخاص بوكالة ناسا، تتواصل مع الصين بشأن تعقُّب الحطام الفضائي، وتُصدِر تحذيرات من الخردة التي تهدد الأصول الأخرى الموجودة بالفضاء. لكن يتعين فعل ما هو أكثر بكثير. فينبغي على الولايات المتحدة إلغاء تعديل وولف، حسب تقرير موقع Responsible Statecraft.
ويجب على واشنطن أيضاً أن تتراجع عن سياستها الحالية تجاه الصين، وأن تدعوها للمبادرات الثنائية ومتعددة الأطراف لاستكشاف الفضاء والهندسة الفضائية.
البوابة القمرية قد تكون البداية
وتُعَد البوابة القمرية التي اقترحتها ناسا نقطة بداية ممتازة، خصوصاً إذا ما كان أحد الشروط المسبقة للانضمام هو توقيع الصين على معاهدة متعددة الأطراف من شأنها المساعدة في إنشاء مؤسسة للتنمية الاقتصادية واستكشاف القمر.
وستعمل هذه البوابة (Gateway)، وهي عنصر حيوي في برنامج Artemis التابع لوكالة ناسا، كموقع استيطاني متعدد الأغراض يدور حول القمر يوفر دعماً أساسياً لعودة بشرية مستدامة وطويلة الأجل إلى سطح القمر، وتكون بمثابة نقطة انطلاق لاستكشاف الفضاء السحيق. وتعمل ناسا مع شركاء تجاريين ودوليين لإنشاء البوابة.
ويمكن الاستفادة من رأب الصين للصدع مع روسيا وإدخالها ضمن المجموعة. ويمكن أن تعيد الولايات المتحدة أيضاً صياغة مهمة قوة الفضاء كي تشغل دوراً أقرب إلى حرس الحدود، فتُركِّز على إدارة المرور، وتطوير أساليب لحماية الأرواح والإنقاذ، وتقليص المخاطر مثل حطام الفضاء، وهي خدمات توجد حاجة ماسة لها ومن شأنها أن تستفيد بشدة من التعاون الدولي.
إنَّ العقلية الأمريكية الحالية حيال الفضاء هي أنَّه ساحة معركة أخرى تُخاض الحروب من أجلها، وليس لوحة بيضاء يُكتَب عليها مستقبلٌ جديد.
نعم، سيتواصل العداء بين الولايات المتحدة والصين، لكنَّ التعاون في مجالات مثل الفضاء يمكن أن يُبقي الحوار مفتوحاً ويبني الثقة تدريجياً. ويجب على الولايات المتحدة أولاً وقبل كل شيء محاولة الوفاء بالمُثُل التي وضعتها حين أُنشِئَت وكالة ناسا أول الأمر عام 1958: "حيث أعلن الكونغرس آنذاك أنَّ سياسة الولايات المتحدة هي أنَّه يجب تكريس الأنشطة التي تتم في الفضاء للأغراض السلمية من أجل منفعة كل البشرية".