مناورة سياسية أم ارتباك وتردد؟ لماذا شن قيس سعيّد هجوماً لاذعاً على “الرباعي”؟

عربي بوست
تم النشر: 2021/06/21 الساعة 12:12 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/06/21 الساعة 12:13 بتوقيت غرينتش
الرئيس التونسي قيس سعيد (مواقع التواصل الاجتماعي)

كعادته في كل خطاب يلقيه، أحدثت كلمة رئيس الجمهورية التونسية قيس سعيّد، أمام رؤساء الحكومات السابقين (إلياس الفخفاخ، علي لعريض، يوسف الشهد، هشام المشيشي) بتاريخ 15 يونيو، جدلاً واسعاً حول مضمونها السياسي، واستنكار البعض للنقاط التي جاءت فيها. 

وقد شكلت مقاربة سعيّد لمضمون وآليات وشروط الحوار السياسي المنشود للخروج بالبلاد من أزمتها الصعبة وانتقاده أو بالأحرى حطّه من قيمة الحوار الوطني الذي حدث في سنة 2013 إثر اغتيال المعارض محمد البراهمي، وحصلت بموجبه تونس على جائزة نوبل للسلام أهم العناصر التي أذكت النقاشات والمزايدات من على المنابر الإعلامية والسياسية التونسية.

الرئيس التونسي قيس سعيّد

تأتي رؤية رئيس الجمهورية الجديدة للحوار السياسي وموقفه السلبي من الحوار الوطني (2013 -2014) بعد أيام قليلة من لقائه بنور الدين الطبوبي، الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل (أحد مكونات الرباعي الراعي للحوار) الذي أفضى لحصول توافق بين الفرقاء السياسيين تم بموجبه انتخاب الهيئة العليا للانتخابات وتحديد موعد للانتخابات (أكتوبر/تشرين الأول  2014) والمصادقة على الدستور الجديد، وتجنيب البلاد حرباً أهلية بفضل التوافق بين الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي وزعيم حركة النهضة راشد الغنوشي.

قطيعة مع أكبر قوة اجتماعية في البلاد

"الحوار لن يكون كسابقيه، فالحوار الذي يوصف بالوطني لا هو حوار ولا وطني على الإطلاق"، هكذا وصف الرئيس قيس سعيد ما حدث بين الفرقاء السياسيين سنة 2013 من مفاوضات للبحث عن حل للأزمة السياسية التي كادت أن تدخل البلاد في فوضى عارمة إثر اغتيال الزعيم اليساري محمد البراهمي. بل إن سعيد لم يكتفِ بالتشكيك في وطنية الحوار بل اتهمه بأنه كان مرتبطاً بأجندات خارجية. وينسحب كل هذا التوصيف والتخوين ينطبق على الرباعي الراعي للحوار والمكون من الاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة (منظمة الأعراف) والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان وعمادة المحامين.

هذه التصريحات أثارت حفيظة المنظمات الوطنية التي شاركت في الحوار وحصلت بموجبه على جائزة نوبل للسلام، ودفعت باتحاد الشغل لـ"سحب مبادرته للحوار الوطني التي سبق وأن عرضها على رئاسة الجمهورية، وعدم التعامل مع رئيس الدولة"، بحسب تصريحات للأمين العام المساعد للاتحاد العام التونسي للشغل، كمال سعد، في حوار مع إذاعة محلية. بل إن المنظمة ذهبت بعيداً في موقفها من رئيس الدولة، وقال نور الدين الطبوبي، بنبرة تصعيدية، خلال اجتماع الهيئة الإدارية لاتحاد الشغل: "المنظمات الوطنية هي وطنية غصباً عن كل إنسان، والحوار الوطني قادته قامات كبرى كحسين العباسي ووداد بوشماوي ورابطة حقوق الإنسان وعمادة المحامين.. ولا ننتظر شهادة من رئيس الجمهورية أو غيره، ومن يحترمنا فإننا نحترمه ومن لا يحترمنا لا نحترمه مهما كان موقعه".

رئيس البرلمان التونسي راشد الغنوشي
رئيس البرلمان التونسي راشد الغنوشي/ رويترز

متابعون للشأن السياسي في تونس يعتبرون أن المواقف المستجدة لسعيّد فيها تخلٍّ عن المنظمة الشغيلة والاتفاقات السياسية المعلنة بينها وبين رئاسة الجمهورية. بل إن القاضي السابق أحمد صواب، الناشط في المجتمع المدني، يرى أن في وصف سعيد للحوار بـ"اللاوطني" فيه استهداف للمنظمات الوطنية والمجتمع المدني بعد فترة من استهدافه للمنظومة السياسية"، مشيراً إلى أن الجديد في موقف الرئيس هو ضرب المجتمع المدني بمكوناته الأساسية (رابطة حقوق الإنسان، هيئة المحامين، منظمة الأعراف، وخاصة اتحاد الشغل).

إلى ذلك، يعتبر الرد التصعيدي لاتحاد الشغل إشارة مباشرة لما يمكن أن يحصل من متغيرات جديدة في علاقة برؤية الاتحاد لمسألة الحوار الوطني ومن يشرف عليه وهوية الأطراف التي ستشارك فيه، وذلك بسبب الموقف المتردد والمتقلب لرئيس الجمهورية، وهو ما من شأنه أن يدفع الاتحاد لتنظيم الحوار الوطني من دون مشاركة رئيس الجمهورية. 

مناورة سياسية أم ارتباك وتردد؟

في حوار على قناة الحوار التونسي (تتصدر نسب المتابعة في تونس) الجمعة 18 يونيو/حزيران، وبعد تعبيره عن استغرابه من موقف رئيس الدولة المتغير من قضية الحوار الوطني، كشف نور الدين الطبوبي عن بعض المسائل التي أعلمه بها رئيس الجمهورية خلال اللقاء الذي جمعه به بتاريخ 11 يونيو بقصر قرطاج في علاقة بالحوار الوطني ومخرجات الأزمة السياسية الحالية، حيث قال سعيد للطبوبي إنه سيقبل بالتعديل الوزاري الذي خلق خلافاً عميقاً بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة هشام المشيشي وحزامه السياسي بشرط التراجع عن تعيين الوزراء الأربعة المتهمين بالفساد من بين 11 وزيراً مقترحين وهم: الهادي خيري وزارة الصحة، يوسف الزواغي وزارة العدل، يوسف فنيرة وزارة التشغيل، سفيان بن تونس وزارة الطاقة والمناجمـ بينما لم يكن سابقاً يحدد هؤلاء الوزراء بالصفة ولا بالعدد. كما أعلمه بأنه مستعد لانتخابات رئاسية وتشريعية مبكرة في حالة تم تغيير القانون الانتخابي وإدخال  تعديلات على دستور 1959 وعرضه على الاستفتاء الشعبي بعد قيام حوار وطني يأتي على كل هذه المسائل. 

لكنه تراجع عن كل ذلك، إثر سفره لإيطاليا، وأعلم  الأمين العام لاتحاد الشغل أنه لن يذهب لأي حوار قبل استقالة هشام المشيشي رئيس الحكومة الذي يحظى بدعم خصومه السياسيين (حزب حركة النهضة وحزب قلب تونس وائتلاف الكرامة). ثم جاء بعد ذلك الاجتماع الذي عقده سعيد مع رؤساء الحكومة السابقين وانتقد فيه الحوار الوطني والأطراف المعنية بالمشاركة فيه ليعود للمربع الأول واشتراطاته القديمة حول عدم مشاركة الأطراف السياسية المتهمة بالفساد بعد أن "أثبتت التجربة أن التنظيم السياسي الحالي وطريقة الاقتراع المعتمدة أديا إلى الانقسام وتعطل السير العادي لدواليب الدولة".

الغنوشي يدعو لإقامة نظام برلماني
رئيس البرلمان التونسي راشد الغنوشي – رويترز

من غير الواضح بحسب المعطيات السياسية الحالية ما إذا كان الرئيس قيس سعيد متردداً حقيقة في موقفه من الحوار الوطني أم أن المسألة تعود لتقلبات آراء مستشاريه وديوانه الرئاسي خصوصاً الوزيرة رئيسة الديوان، نادية عكاشة، التي يتهمها خصوم الرئيس بالوقوف وراء المواقف المتصلبة لسعيد وعدائه للحزام السياسي الداعم لهشام المشيشي.

هذه الافتراضات الجديدة تعزز التوجه السياسي اللامركزي الذي يسعى إليه قيس سعيد بالذهاب مباشرة لاستفتاء شعبي على تغيير القانون الانتخابي وتعديل الدستور دون المرور بنقاش مشروعه القانوني والدستوري الجديد تحت قبة البرلمان ومع باقي مكونات الساحة السياسية التونسي، وذلك بالارتكان للفصل 80 من الدستور التونسي الذي يخول لرئيس الجمهورية اتخاذ إجراءات استثنائية في حالة وجود خطر داهم يهدد كيان الدولة.

إلا أن خبراء في القانون الدستوري وبرلمانيين أفادوا بأن غياب المحكمة الدستورية يطرح إشكالاً دستورياً، لا يمكن معه إجراء استفتاء أو تعديل النظام السياسي في البلاد، إلا في حالة استكمال انتخاب أعضائها، خاصة أن رئيس الدولة قيس سعيد اعترض على إرسائها عبر المسار الدستوري الحالي، ورفض التوقيع على تعديل قانونها الأساسي إثر التصويت لصالحه بالأغلبية في مجلس نواب الشعب.

وفي هذا السياق، قال المقرر العام للدستور الحبيب خضر، خلال جلسة برلمانية، إن تعديل أو مراجعة النظام السياسي في ظل الوضعية الحالية، مطلب غير قابل للتحقيق. إلا إذا تم تخطي الدستور وتعليق العمل به أو خرقه خرقاً واضحاً. مبرراً ما ذهب إليه بأن دستور البلاد الحالي واضح في ما أقره من أحكام تتعلق بإمكانات تعديله.

وأوضح المقرر العام للدستور أن أي تغيير للنظام السياسي يفترض تعديل الدستور الذي يفترض بدوره وجود محكمة دستورية.

أين تتجه الأمور؟

إن سحب الاتحاد العام التونسي للشغل (أهم وأكبر منظمة اجتماعية مؤثرة في تونس) لمبادرة الحوار الوطني من رئيس الجمهورية، والقطيعة الحاصلة بين الطرفين بعد تقارب استراتيجي منذ انتخابات أكتوبر/تشرين الأول 2019، امتد على ما يقارب العامين، يشي بتغيرات كبيرة على المشهد السياسي التونسي خصوصاً مع خروج رئيس حزب قلب تونس، نبيل القروي، المتهم بالتهرب الضريبي وتبييض الأموال والذي تربطه علاقات جيدة مع الأمين العام لاتحاد الشغل نور الدين الطبوبي وعلاقات عداء مع رئيس الجمهورية قيس سعيد، من السجن.

إذ من المحتمل أن تعود مبادرة اتحاد الشغل للحوار الوطني للبرلمان برئاسة راشد الغنوشي، حيث سبق وأن عرض هذا الأخير على اتحاد الشغل تبني المبادرة وإشراك جميع الأطراف السياسية فيها ومن بينها حزب نبيل القروي الذي يرفض سعيد مشاركته في أي حوار لارتباطه بملفات فساد مالي، ولا يقصي إلا من رفض المشاركة فيه.

وهو ما يعزز شرعية الغنوشي في البرلمان خصوصاً بعد المحاولات الأخيرة لسحب الثقة منه وتحميله وزر ما آلت إليه الأوضاع من انفلات وفوضى وعنف في أهم مؤسسات تشريعية في البلاد.

مشروع قانون تجريم التطبيع في تونس
مظاهرات حركة النهضة في شوارع العاصمة التونسية / الأناضول

في الضفة الأخرى، يدعو قيس سعيد لحوار وطني يمهد لإصلاحات سياسية من أجل وضع نظام سياسي ونظام انتخابي جديدين "لكن ليس مع من نهب مقدرات الشعب التونسي"، ويضيف: "نريد تشريك الشباب نحن في سنة 2021 ولسنا في سنتي 2013 أو 2014، لن نقبل بصفقات تحت جنح الظلام.. لا في الداخل ولا مع الخارج"، بحسب ما جاء في كلمة سعيد التي ألقاها أمام الجالية التونسية في روما. وفي ذلك إشارة ودلالة على القطيعة مع مسار الحوار الوطني 2013-2014 وموروثه السياسي والديمقراطي والدستوري الذي نتج عنه، والتأسيس لسردية ثورية جديدة لا تأخذ بعين الاعتبارات خطوات الانتقال الديمقراطي التي وصلت إليها البلاد والتوازنات السياسية الحالية التي تعتبر محدداً لأي تغيرات سياسية ممكن أن تحدث في تونس في المستقبل القريب والمتوسط.

كما أن القفز على المؤسسات الديمقراطية التي جاءت بها الثورة ودستور 2014 مثل مجلس نواب الشعب والمحكمة الدستورية والدستور في حد ذاته، وعدم الأخذ بعين الاعتبار وزن الأحزاب وتأثيرها في الحياة السياسية وفي أي مسار سياسي أو دستوري جديد من شأنه أن يعطل محاولات رئيس الدولة تنفيذ مشاريعه الإصلاحية التي أعلن عليها.

ولذلك يرى ملاحظون أن فرص نجاح رئيس الدولة قيس سعيد في تغيير النظام السياسي تعد ضئيلة، بسبب فقدان الشروط القانونية، وعدم تحمس بعض الأحزاب السياسية لذلك.

من المتوقع أن تتواصل حالة الانسداد السياسي في تونس لفترة طويلة في ظل عدم جدية الأطراف السياسية والاجتماعية والاقتصادية المعنية بإيجاد حل للأزمة الخانقة التي تعيشها البلاد وتهدد بانهيار العملية السياسية برمتها.

تحميل المزيد