كان قرار مصر تخصيص 500 مليون دولار لإعادة إعمار غزة مفاجئاً، بسبب ضخامة المبلغ وأيضاً بالنظر إلى العلاقة المتوترة التي كانت تربط القاهرة بحركة حماس التي تحكم القطاع، فما الهدف من هذه المساعدات المصرية لغزة، هل هو التقارب مع حماس أم تهميشها؟
وتحولت القاهرة من شيطنة حماس وأحياناً غزة إلى إقامة علاقة وثيقة معها مروراً بتوجيه وسائل الإعلام المصرية لإبراز إنجازات المقاومة الفلسطينية في حرب غزة الأخيرة، وصولاً إلى المساعدات المصرية التي أعلن عنها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي التي تعد ضخمة جداً بالنظر حجم الاقتصاد المصري.
وبينما يبدو واضحاً أن هدف قرار مصر تخصيص 500 مليون دولار هو تعزيز تأثيرها في الشرق الأوسط، والاستفادة من النفوذ الذي اكتسبته من توسطها في وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحركة حماس، فإن السؤال الآن: إلى أي مدى ستنعكس المساعدات المصرية لغزة على نفوذ القاهرة في غزة وعلاقتها بحركة حماس.
قرار مصر تخصيص 500 مليون دولار يلقى إشادة كبيرة
جاء تعهد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بضخ هذه الأموال لإعادة إعمار قطاع غزة بعد حرب استمرت 11 يوماً الشهر الماضي قصفت حماس وفصائل غزة الأخرى خلالها جنوب ووسط إسرائيل بآلاف الصواريخ، وردت إسرائيل بمئات الغارات الجوية على أهداف في غزة.
وحظى السيسي بإشادة كثيرين بفضل دوره المحوري في التفاوض على إنهاء الاشتباكات العنيفة في 21 مايو/أيار، وكان الرئيس الأمريكي جو بايدن من ضمن من أشادوا به.
وتأتي حزمة المساعدات المصرية لغزة في شكل أعمال بناء تنفذها الشركات المصرية، وهذا السيناريو يلجأ إليه السيسي للتأثير على الداخل المحلي منذ توليه السلطة عام 2014، حسبما ورد في تقرير صحيفة The Times Of Israel الإسرائيلية.
ويستعين السيسي بالذراع الهندسية للجيش في مشاريع البنية التحتية واسعة النطاق مثل بناء عاصمة إدارية جديدة، بالإضافة إلى عشرات الجسور والطرق السريعة على مستوى البلاد.
استثمار مقابل نفوذ، هكذا أصبح لمصر صوت مسموع بين الفلسطينيين
تقول سارة سميرسياك، خبيرة الاقتصاد والسياسية في الشرق الأوسط، لوكالة فرانس برس: "لا شك أن السيسي يعتبر المساعدات المصرية لغزة استثماراً مقابل نفوذ سياسي، سواء على الحدود المصرية في غزة أو على المستوى الدولي".
ومن المعروف أن معبر رفح المصري شديد الحراسة هو ممر غزة الوحيد إلى العالم الخارجي البعيد عن سيطرة إسرائيل، التي تحاصر القطاع منذ عام 2007 لمنع وصول الأسلحة إلى حماس وغيرها من الفصائل الفلسطينية في القطاع.
وفي خطوة نادرة، فتحت القاهرة المعبر خلال هذا القتال العنيف حتى يتمكن الفلسطينيون الجرحى من تلقي العلاج في المستشفيات المصرية.
يقول مصطفى كامل السيد، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة: "هذا التعهد سيجعل صوت مصر مسموعاً بين صفوف الفلسطينيين"، حسبما نقل عنه تقرير صحيفة The Times Of Israel.
وأضاف: "إن (إعادة الإعمار) بالتأكيد جزء من استعادة مصر لدورها في المنطقة".
كيف تغيرت العلاقة بين مصر وحماس؟
تأتي هذه الخطوة في إطار ذوبان الجمود في علاقات مصر مع خصوم مثل قطر وتركيا اللتين تدعمان حماس، التي لا تثق بها القاهرة.
وقال السيد إن مصر "غيرت نظرتها تجاه حماس"، بعد أن تخلت الجماعة عن علاقاتها مع جماعة الإخوان المسلمين عام 2017.
وكانت القاهرة تتهم حركة حماس منذ سنوات بتهريب أسلحة للمقاتلين في محافظة شمال سيناء المضطربة عبر الأنفاق العابرة للحدود.
ويعتقد أن العامل الأهم في تغير العلاقة بين مصر وحماس أن الأخيرة لم تحاول استغلال الوضع الأمني المتردي في سيناء، خاصة أن الواقع هو أن داعش في سيناء هي عدو لحماس والقاهرة على السواء، لأن داعش تكفّر الإخوان المسلمين وحماس مثلما تكفر النظام المصري.
بدا واضحاً بالنسبة للقاهرة، أن تعاون حماس لضبط الوضع الأمني المتردي في سيناء مهم بالنظر لفهم أجهزة الحركة لظروف المنطقة والتداخل بين المتطرفين في الجانبين الفلسطيني والمصري.
وفي عام 2017، نشرت وكالة رويترز، تقريراً، عنوانه "مصر توثق علاقاتها مع حماس بهدف تأمين سيناء"، تحدث عن التعاون الأمني بين الجانبين، مشيراً إلى أنه بعد علاقات غلب عليها التوتر على مدى سنوات سعت مصر لتوثيق الصلات مع حماس في غزة وعرضت القاهرة تقديم تنازلات فيما يخص التجارة وحرية التنقل مقابل اتخاذ حماس إجراءات لتأمين الحدود من متشددين موالين لتنظيم داعش قتلوا مئات من رجال الشرطة والجيش في شمال سيناء.
وفي العام ذاته، زار إسماعيل هنية مصر لأول مرة بعد توليه رئاسة المكتب السياسي لحماس، وأجرى حواراً مع الإعلامي المقرب للدولة عمرو أديب.
كما تشرف مصر على مصالحة وطنية مؤقتة بين حماس ومنافستها السياسية فتح، التي تدير السلطة الفلسطينية من رام الله في الضفة الغربية.
مصر تتحول إلى شريك لحماس
وقال السيد إن "المساعدات المصرية لغزة قد تجعل من مصر شريكاً مقبولاً لحماس.. وقد نرى حماس تساعد مصر في تأمين الحدود قريباً".
وكشف مصدر حكومي مطلع في حكومة غزة لـ"عربي بوست" أن "المخابرات المصرية طلبت من حماس تقديم خطة مالية تتضمن أهم الاحتياجات لإعادة إعمار غزة، بما فيها إقرار بالتعويضات لأصحاب المنشآت المدنية التي دُمرت خلال هذه الحرب".
وقال المصدر ذاته إنه "جرت سلسلة لقاءات جمعت قيادة المخابرات المصرية مع المسؤولين الحكوميين، وقيادة حركة حماس داخل غزة وفي القاهرة، تم من خلالها تقديم حركة حماس لرؤية جديدة تتضمن دمج متضرري حرب 2014 بحرب 2021 في ملف واحد لدى مؤتمر المانحين التي من المتوقع أن تستضيفه القاهرة خلال الأشهر القادمة، على ألا يزيد هذا المبلغ على مليار دولار، وفقاً للتقديرات الحالية".
ما الدوافع وراء هذه المساعدات المصرية؟
على عكس الرؤية التي ترى أن المساعدات المصرية لغزة ستؤدي للتقارب مع حماس، فإن سارة سميرسياك قالت إن مصر قد تستغل حزمة المساعدات الضخمة لتهميش حماس التي "تعتبرها تهديداً" للأمن القومي للبلاد، حسب تعبيرها.
وبحسب ما صرحت به مصادر فلسطينية لصحيفة "جيروزاليم بوست" الإسرائيلية، فإن وجود فرق الإنشاءات المصرية في قطاع غزة يعني أن "حماس" والفصائل الفلسطينية لن تكون قادرة على استئناف الهجمات الصاروخية على الأراضي المحتلة.
وقال أحد هذه المصادر: "سوف يكون صعباً على حماس البدء بجولة أخرى من القتال مع إسرائيل عندما يكون عدد كبير من المصريين متواجداً داخل قطاع غزة. وإذا ما بدأت حماس أو الجهاد الإسلامي بإطلاق الصواريخ على إسرائيل بينما تعمل فرق الإنشاءات المصرية داخل قطاع غزة، فسوف تتورط المجموعتان في مشكلة مع مصر".
ونقلت الصحيفة عن صحفي مخضرم يقيم في غزة قوله: "هناك الكثير من الشائعات التي تقول إن المصريين يخططون للعودة إلى قطاع غزة. والكثيرون هنا مقتنعون بأن المساعدات المصرية لغزة وأعمال الإنشاءات التي تتبناها مصر ما هي سوى جزء من خطة لتمهيد الطريق لتواجد مصري أمني دائم داخل قطاع غزة".
وقال أحد المحللين لجيروزاليم بوست: "لا أعتقد أن مصر ترغب في العودة إلى الأيام التي كانت تدير فيها قطاع غزة. إلا أن قرار السيسي المساهمة في جهود إعادة الإعمار يثبت أنه يريد أن يكون مشاركاً بقوة في كل ما يتعلق بقطاع غزة". وقال المحلل إن العلاقات بين مصر و"حماس" تحسنت خلال السنوات القليلة الماضية.
وقالت مصر الأسبوع الماضي إنها أرسلت قافلة مساعدات إلى غزة ورافعات وحفارات وشاحنات "لتمهيد الأرض لإعادة إعمار" القطاع.
ولكن حتى الآن، لم تُقدَّم أي معلومات عامة عن الشركات المكلفة بإعادة إعمار المنطقة المكتظة بالسكان.
تقول سارة: "لم يعلن مكتب الرئيس عن الشركات المصرية التي سيُستعان بها لتنفيذ إعادة الإعمار، لكن من شبه المؤكد أن الشركات المملوكة للجيش ستؤدي دوراً مركزياً".
ولكن تَقرَّر عقد منتدى لإعادة إعمار غزة في القاهرة خلال الأيام المقبلة، سيجتمع خلاله ساسة ورجال أعمال من المنطقة، حسب صحيفة The Times Of Israel.
عمال من غزة وشركات مصرية
قال محمد سامي، رئيس الاتحاد المصري لمقاولي التشييد والبناء: "لن يبدأ العمل حتى يستقر الوضع الأمني في غزة".
وأضاف: "غزة بها قوة عاملة هائلة، لذلك لا أعتقد أنهم (سكان غزة) سيبقون في منازلهم ويسمحون لآخرين من الخارج بالقيام بالعمل".
وأوضح سامي أن هذا المشروع العملاق في صناعة البناء سيكون "امتداداً للمشاريع الوطنية من حيث إنتاج وتصدير مواد البناء وتوفير فرص العمل".
على أن بعض المصريين، الذين تحملوا وطأة إجراءات التقشف القاسية التي تعمل بها الحكومة منذ عام 2016، قابلوا حزمة مساعدات السيسي لغزة بالانتقادات.
إذ كتب أحد مستخدمي تويتر: "من الأفضل ألا تُقدَّم الكثير من المساعدات، فنحن أحق بها بالنظر لثروتنا المحدودة وكثرة عدد السكان".
لكنّ مستخدماً آخر نظر إلى جانب الإيجابي، وكتب على فيسبوك: "تخصيص 500 مليون دولار لإعادة إعمار غزة خطوة رائعة.. المهم أن تظل هذه الأموال تحت سيطرة مصر للانتفاع بالشركات والعمالة والمنتجات المصرية".
وكانت سارة حذرة أيضاً في تقييمها لعملية إعادة الإعمار التي حظيت بإشادة كبيرة.
وقالت: "علينا أن نفهم أهميتها من الناحية الاقتصادية. علينا أن نرى من "سيفوز" بالعقود التي تبلغ قيمتها عدة ملايين من الدولارات، أي من سيحصل بالفعل على هذه الأموال".