كشفت محاكمة كارلوس غصن في اليابان غيابياً عن دور محوري هائل لهذا الرجل في نيسان، شعرت معه الشركة اليابانية الشهيرة، أنه بات أكبر مما ينبغي، وفي نفس الوقت لا تستطيع الاستغناء عنه.
وبعد ثمانية أشهر من كشف أسرار واحدة من أكبر تحالفات شركات السيارات، تُواجه محاكمة كارلوس غصن التي تعقد في طوكيو سؤالاً محورياً: هل كان غصن رئيساً لا تستطيع شركة نيسان تحمُّل راتبه، أم لا تستطيع تحمل فقدانه؟ حسبما ورد في تقرير لصحيفة Financial Times البريطانية.
الرجل الذي يقف أمام محكمة طوكيو فعلياً في محاكمة كارلوس غصن التي تجرى غيابياً، هو غريغ كيلي، وهو محامٍ من ولاية تينيسي الأمريكية عمل في نيسان لمدة 30 عاماً قبل القبض عليه عام 2018 بتهمة التآمر لإخفاء راتب غصن الحقيقي.
ومع استمرار محاكمة كارلوس غصن غيابياً، ركّز المدعون والدفاع أكثر على سيرته من الناحية الجنائية، حيث كان من المفترض أن يمثل رئيس نيسان السابق بنفسه أمام هيئة المحكمة، لو لم يفر من طوكيو إلى لبنان عام 2019.
وتم القبض على غصن في اليابان في نوفمبر/تشرين الثاني 2018 بتهمة سوء السلوك المالي ثم هرب إلى لبنان بعد عام.
وكارلوس غضن أحدَث عند وصوله إلى طوكيو في عام 1999، تحوُّلاً مُذهلاً في شركة نيسان التي كانت تحتضر آنذاك، ثم شكَّل تحالفاً مع شركة رينو الفرنسية أحدث طفرةً في صناعة السيارات، حيث حظي باحتفاء في نيسان، لكنَّه لاقى كذلك استياء عميقاً من الشركة التي لم تشهد قط صعود شخصٍ أجنبي إلى هذا الحد.
ثم جاء السقوط. ففي 19 نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2018، قُبض عليه فجأة في مطار هانيدا بطوكيو بسبب مخالفاتٍ مالية مزعومة.
كارلوس غصن مستبد مرهوب الجانب أم الرجل الذي طوّر نيسان؟
وقد أدى هذا التركيز على غصن إلى تزويد محكمة طوكيو بصورتين متعارضتين تماماً عن الرجل، حسب صحيفة Financial Times.
إذ صوّر المدعون غصن في هيئة المستبد مرهوب الجانب، بموجب الشهادات بدءاً من كبار المسؤولين التنفيذيين وصولاً إلى صغار الموظفين. ووفقاً للشهود، فقد كانت كلمة غصن مسموعةً وأشبه بالقانون الذي يسري على الجميع، وكان جشعه خارجاً عن السيطرة، وكانت خطته ستضر نيسان بشدة.
إذ قالت إحداهن للمحكمة إنها خلال 10 سنوات من العمل مع غصن، تحولت نظرتها من أن هناك هالةً تُحيط به إلى رؤية أن ما يُحرّكه هو الجشع.
وهذه النسخة من غصن، بحسب المدعين، كانت لرجلٍ من الطبيعي أن يأمر كيلي بصياغة آلية لإخفاء حجم راتبه الحقيقي إذ كان بذلك يتلاءم مع طموحه للحفاظ على صورةٍ معينة في اليابان وفرنسا.
الأزمة بدأت بعد تجسس رينو، ونيسان خافت من انضمامه لشركة منافسة
وفي الوقت ذاته قدّم فريق غصن صورةً عنه باعتباره شخصاً يعتمد عليه مستقبل نيسان بالكامل. ومع انتقال الشركة من كارثةٍ لأخرى، تشمل تداعيات زلزال وتسونامي توهوكو عام 2011 وإقالة فريق شركة رينو الفرنسية بسبب شكوك تجسس الشركات؛ صار خطر استبقاء غصن أكبر من أي وقتٍ مضى.
وكانت نيسان قلقةً من انضمام غصن إلى شركةٍ منافسة، ما كان سيعني بالتبعية اصطحابه لعددٍ كبير من الموظفين التنفيذيين، معه بحسب كيلي.
وتحدّت شهادة كيلي خلال محاكمة كارلوس غصن الفكرة القائلة إن مسؤولي نيسان كانوا يخشون أن يُجبر غصن الشركة اليابانية على تقديم تنازلات أكبر لشريكها الفرنسي رينو. والدافع الأساسي لاستبقائه -وفقاً لكيلي- كان "توفير خدماته لنيسان وحماية استقلالية الشركة عن رينو".
السؤال المحوري في محاكمة كارلوس غصن: هل حاول إخفاء أجره؟
وفقاً لكيلي، وغيره من مسؤولي نيسان التنفيذيين، فإن مخاوف استبقاء غصن زادت عقب تقليل راتبه من أجل الامتثال للتغيير في قوانين اليابان المتعلقة بالإفصاح عن التعويضات عام 2010. وخشي غصن، الذي كان واحداً من أعلى المسؤولين التنفيذيين أجراً في اليابان، أن الإفصاح عن أجره الكامل سيتسبّب في رد فعلٍ عام عنيف وتثبيط عزيمة موظفي الشركة.
وكان السؤال المحوري بالنسبة للقضاء هو ما إذا كان غصن قد أصدر تعليماته لمسؤولي نيسان بالعثور على طريقة لدفع أجره المتوقع مع الإعلان عن مبلغٍ أقل، أم ما إذا كانت الشركة قد توصلت إلى خطة مكافآت جديدة من تلقاء نفسها مخافة خسارته كرئيسٍ تنفيذي.
وفي يناير/كانون الثاني، أدلى رئيس العمليات السابق في نيسان توشيوكي شيغا بشهادته التي قال فيها إن غصن طلب منه التفكير في طرق للحصول على المكافآت غير المدفوعة بعد التقاعد. واعتبر شيغا الطلب بمثابة أمرٍ من مديره رغم علمه بـ"المخاطرة القانونية" لعدم الإفصاح عن هذه المبالغ.
وتصادف تغيير القوانين اليابانية مع ضغوط الحكومة الفرنسية من أجل تقليل أجر غصن ونفوذه كرئيسٍ تنفيذي لشركة رينو، التي تمتلك الدولة الفرنسية 15% من أسهمها. وقال كيلي للقضاة الأسبوع الماضي إن خيبة أمل غصن قد زادت بسبب الحكومة الفرنسية وبسبب أجره.
وكان كارلوس غصن قد قال إن الفرنسيين تخلوا عنه وتركوه يُحاسَب من قبل اليابانيين.
مصدر لأفضل أفكار نيسان
ولخشيته أن يرحل غصن، قال كيلي إنه تشاور مع خليفة غصن الذي اختاره بنفسه لمنصب الرئيس التنفيذي، هيروتو سايكاوا. واتفقا على ضرورة أن تدرس نيسان خطة دفع مبلغ ما بعد التقاعد لغصن من خلال اتفاق استشارات وامتناع عن المنافسة (امتناعه عن المنافسة بعد مغادرة الشركة).
وفي فبراير/شباط قال سايكاوا، الذي تنحى عن منصب الرئيس التنفيذي لنيسان أواخر عام 2019، إنه كان يتفق مع الرأي القائل إن مسألة استبقاء غصن باتت خطراً يتهدد الشركة، وأضاف أنه من الطبيعي أن يزيد الطلب على "شخصٍ حقق هذا القدر الهائل من الإنجازات".
وأردف كيلي خلال محاكمة كارلوس غصن: "إن وجهة نظر سايكاوا كانت أن قيمة غصن يمكن بسهولة أن تصل إلى 100 مليون دولار على مدار بضع سنوات. إذ كان غصن يعتبر مصدر العديد من أفضل أفكار نيسان. ولو خرج بفكرتين عظيمتين قيمة كل منهما 50 مليون دولار، وأنا أعلم أنه يستطيع فعل ذلك، فسوف يكون قد سدد قيمة العقد".
وبحسب نصوص التصريحات التي تقدم بها غصن للمدعين، فقد قال الرئيس التنفيذي السابق إنه لم يطلب مطلقاً توقيع عقد لما بعد التقاعد، وإن الشروط لم تعجبه ولهذا لم يكن هناك عقد رسمي مع نيسان بشأن تعويضه المؤجل. ولا تزال القضية أمام المحكمة.