عندما بدأت أمريكا حربها على "الإرهاب" قالت إنها تريد نشر قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان حول العالم، الآن وبعد عقدين من الزمان، هل أصبح العالم أكثر أمناً للمعارضين السياسيين؟
من الإيغور الذين تطاردهم الصين في المنفى، إلى المعارضين السوريين في الخارج، إلى من يعارضون الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وغيرهم من المعارضين والنشطاء، يبدو أن "المساحات الآمنة" تتقلص بينما تزداد الذراع الأمنية للمستبدين طولاً وقدرة.
صحيفة New York Times الأمريكية تناولت هذا الملف الشائك في تقرير لها، اختارت له عنوان "المساحات الآمنة تتقلَّص مع استهداف الحكَّام الديكتاتوريين المواطنين خارج الحدود"، وألقى الضوء على ما يمكن وصفه بقمة جبل الجليد لهذا التحول الخطير في ملف حقوق الإنسان، وممارسة أبسط قواعد الديمقراطية، وهو التعبير الحر عن الرأي، وكلمة السر كانت "حرب أمريكا على الإرهاب".
حرب أمريكا على الإرهاب
لَطالما كان قمع المعارضين السياسيين أمراً عابراً للحدود، فقد قام عميلٌ سوفييتي بقتل ليون تروتسكي، الزعيم المعارض، في المكسيك عام 1940. وخلال الحرب الباردة ساعد كلا المعسكرين في تلك الحرب (الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي) بشكلٍ روتيني الحكومات المتحالفة في اعتقال المنشقين في الخارج أو قتلهم.
لكن الحرب التي أطلقتها الولايات المتحدة على "الإرهاب" فتحت الباب على مصراعيه أمام حقبةٍ جديدة تماماً في القمع العابر للحدود. ففي البداية قامت واشنطن بالشراكة مع بعض الدول الأكثر قمعيةً في العالم، برعاية تسليم العشرات من الإرهابيين المُشتَبَه بهم، واستهدفت كثيرين آخرين بضربات الطائرات المُسيَّرة. أصرَّ الأمريكيون على أن هذه حربٌ عالمية، وبالتالي يتعيَّن تنحية السياسة والمواطنة جانباً فيها.
وضعت الحملة معياراً للحكومات التي تعبر حدود بعضها البعض لاجتثاث الإرهابيين المُفتَرَضين، وهي التسمية التي سرعان ما أصبح الطغاة والحكام المستبدون يطلقونها على نشطاء حقوق الإنسان والمعارضين السياسيين، أو من يختلف معهم بشكل عام.
وفي العقد الأول من القرن الحادي والعشرين أيضاً دفعت سلسلةٌ من الثورات المُلوَّنة في دول الاتحاد السوفييتي السابق روسيا على نحوٍ متزايد إلى التعاون مع الحكومات الإقليمية في استهداف الحركات الديمقراطية، وأسَّسَت روسيا العديد من الأساليب التي نُشِرَت على الصعيد العالمي لاحقاً.
ثم جاءت موجة ثورات الربيع العربي للمطالبة بالديمقراطية في 2011. نُظِّمَت العديد من الاحتجاجات في تلك الموجة عبر الإنترنت، بما في ذلك من قِبَلِ حشودٍ من المواطنين العاديين الذين يعيشون بالخارج.
ويعني ارتفاع معدَّلات الهجرة أن الشتات أصبح أوسع. ومع ذلك صار المنفيون أقرب من أيِّ وقتٍ مضى، إذ تسمح لهم وسائل التواصل الاجتماعي وانتشار استخدام الهواتف الذكية بتشكيل المناقشات اليومية في الوطن، ممّا يتحدَّى سيطرة الحكومات على المعلومات والوجدان العام.
لكن على الجانب الآخر، شرع الحكَّام المستبدون في مطاردة المجتمعات بالخارج على نحوٍ يكاد يكون قوياً تماماً كما يفعلون في الداخل، وهناك اهتمامٌ كبير بالعمليات الروسية، مثل تسميم جاسوس سابق في بلدةٍ صغيرة في بريطانيا، وهناك اهتمامٌ كذلك باضطهاد الصين الكاسح للإيغور في الخارج.
وعبر أليكساندر كولي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة كولومبيا الذي يدرس ما يسميه الدارسون القمع العابر للحدود، عن هذا التحول بقوله للصحيفة الأمريكية: "لم يعد هناك الكثير من المناطق الآمنة بعد الآن"، مضيفاً: "لقد أصبح الأمر أكثر روتينية؛ صار أجرأ وأوضح".
قمع الإيغور عابر للقارات
ورصد تقرير نيويورك تايمز حالة أحد الهاربين من اضطهاد الصين للإيغور المسلمين، والذي يعيش حالياً في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث لم يكن يتوقع أن تطاله الذراع الطويلة للاستبداد العالمي، حين قطعت المرأة التي كان يخطِّط للزواج منها علاقتها به في مارس/آذار.
لكن يبدو أن طاهر أمين كان عليه أن يتوقَّع أيَّ شيء، كان قد فرَّ من اضطهاد الصين للإيغور، الأقلية ذات الغالبية المسلمة، في عام 2017. ومن موطنه الجديد في العاصمة الأمريكية واشنطن تحدَّثَ عن معسكرات التلقين العقائدي وأنظمة الهيمنة في بكين، التي وصفها بالإبادة الجماعية، وهو الوصف نفسه الذي أطلقته الحكومة الأمريكية.
تدفَّقَت رسائل التهديد، بعضها من أشخاصٍ يعرِّفون أنفسهم بأنهم من الشرطة الصينية، حصل على معلوماتٍ تفيد بأن والدته وشقيقه اعتُقِلا بتهمٍ مُلفَّقة، وهو أمرٌ شائع بالنسبة لعائلات النشطاء الإيغور في الخارج.
لكن أمين أصرَّ على تأسيس منظمةٍ للدفاع عن حقوق الإيغور. وقع حب شابةٍ من الإيغور في المنفى، حيث يعيش في الولايات المتحدة، وبعد أن قطعت علاقتها به مباشرةً اتَّهَمَته السلطات الصينية بمساعدة جماعةٍ انفصالية.
قال للصحيفة الأمريكية: "اتصلت بي بعد ذلك وقالت: اليوم سأخبرك لماذا تركتك". لقد تلقَّت مكالمةً من والديها في الصين، وقالا لها إن الشرطة كانت معهما وأمروهما بسؤالها عن معلوماتٍ حول تعاملات أمين. يتذكَّر أمين قولها له: "أدركت أن علاقتي معك ستضر بوالديّ، لذا من الأفضل أن أقطع هذه العلاقة". فردَّ عليها قائلاً: "هذه الأشياء تحدث دائماً في كلِّ وقت".
قمع المعارضين يطال الجميع وفي أي مكان
ولا تحدث تلك الأمور مع الإيغور الصينيين فحسب، بل تتجه الحكومات الاستبدادية، الكبيرة والصغيرة على حدٍّ سواء، بشكلٍ متزايد إلى ما وراء حدودها، لترهيب واختطاف وقتل المهاجرين المعارضين.
ففي الأسبوعين الماضيين فقط، أجبرت بيلاروسيا طائرة ركَّاب مدنية على الهبوط في أراضيها، واعتقلت صحفياً على متنها، كما ضغطت سلطات هونغ كونغ على شركة استضافت مواقع إسرائيلية لإغلاق الموقع الإلكتروني لنشطاءٍ ديمقراطيين في لندن.
وبشكل عام يواجه اللاجئون والمنفيون ومزدوجو الجنسية التسليم القسري بتهمٍ مُلفَّقة. يجري استدعاؤهم إلى سفارات وطنهم، ولا يعودون بعدها أبداً، يُختَطَفون ويُهدَّدون وتُلفَّق لهم التهم.
سجَّلت منظمة فريدوم هاوس الحقوقية 608 حادثة من هذا القبيل منذ عام 2014 -وهو رقمٌ يعتبره الباحثون قمة جبل الجليد ليس إلا- على يد 31 حكومة. ووقعت هذه العمليات في 79 دولة على الأقل، بما في ذلك جميع دول أوروبا تقريباً.
بهذه الطريقة، تقوم الحكومات الاستبدادية بأكثر مِن مجرد إسكات الناقدين والمُبلِّغين عن الانتهاكات. يرسلون رسالةً مفادها أنه لا يوجد أحدٌ بعيد عن أيديهم، ويضغطون على المنفيين في الشتات للبقاء صامتين.
وباستثناء عددٍ قليلٍ للغاية، لم يواجه الديكتاتوريون العابرون للحدود عواقب تُذكَر، ما يؤكِّد على ما يبدو أن سلطة الحكم الاستبدادي تمتد الآن حتى إلى المدن والضواحي في العالم الذي يُفتَرَض أنه عالمٌ حر.
إفريقيا أيضاً لها نصيب من القمع عابر الحدود
وتتبنَّى حكومةٌ أخرى، على ما يبدو كلَّ بضعة أشهر، أساليب جديدة في القمع عبر الحدود، ما يوسِّع النطاق العالمي للاستبداد. ففي الخريف الماضي، اختفى ناشطٌ رواندي، صُوِّرَ في فيلم "Hotel Rwanda" بأنه ينقِذ المئات من الإبادة الجماعية، بعد سفره من شيكاغو إلى دبي. ظَهَرَ بعد ذلك في رواندا مُكبَّل اليدين، واتَّهَمَ المعارضون الحكومة بخطفه وتلفيق تهم الإرهاب له لإسكات الخصوم السياسيين.
غالباً ما تلمح مثل هذه الحالات إلى حملاتٍ أوسع، وكثيراً ما أبلغ الروانديون في أوروبا والولايات المتحدة عن تهديداتٍ يتلقونها، بما في ذلك التهديد بإيذاء أفراد عائلاتهم في رواندا، بسبب انتقادهم حكومة بلادهم.
ويقول كثيرون أيضاً إنهم يُستَهدَفون من قِبَلِ الدعاية التي تلهم موجاتٍ من الملاحقات عبر الإنترنت، وهو تكتيكٌ يتزايد استخدامه في جميع أنحاء العالم. ورغم أنه أمرٌ لا يمثِّل خطورةً مباشرة مثل الاختطاف، فهو منتشرٌ بما يكفي لإجبار المهاجرين كلَّ يومٍ على التردُّد في التحدُّث علانيةً.
ويستخدم الحكَّام المستبدون آليات إنفاذ القوانين الأجنبية للقمع، على نحوٍ متزايد، دون اللجوء إلى الاغتيال أو التسليم. وتقول حكوماتٌ أخرى إن جوازات سفر الصحفيين أو النشطاء الذين يعيشون في الخارج مسروقة، ما يدفع الدول المضيفة إلى ترحيلهم.
وتستفيد دولٌ أخرى من العلاقات الاقتصادية والسياسية، وقد ضغطت الصين، على سبيل المثال لا الحصر، على مصر، لترحيل حوالي 12 من الإيغور الذين عاشوا هناك، وضغطت على تايلاند لترحيل حوالي 100. ونشرت شبكة CNN الأمريكية تقريراً مفصلاً حول بعض حالات ترحيل الإيغور من الإمارات، سرد تفاصيل مفزعة بالفعل.