دخلت العلاقات الأمريكية الأوروبية مرحلة جديدة، إثر تولي الرئيس الأمريكي جو بايدن للسلطة بعد سنوات عجاف للعلاقات بين جانبي الأطلنطي، ولحلف الناتو.
فقبل أربع سنوات، أُصيب الزعماء الأوروبيون بصدمة من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي شجَّع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (البريكست) وأوهن حلف شمال الأطلسي (الناتو)، مُعلِناً أنَّ الحلف قد "عفا عليه الزمن"، ووصف الدول الأعضاء بأنَّها تتهرب من دفع التزاماتها ورفض في بادئ الأمر تأييد مبدأ الدفاع المشترك المحوري في حلف الناتو صراحةً.
وفيما يستعد هؤلاء الزعماء لاستقبال الرئيس بايدن، فإنَّ الحقيقة البسيطة بأنَّه يعتبر أوروبا حليفاً والناتو عنصراً حيوياً للأمن الغربي هي حقيقة كاشفة. لكنَّ الخبرة المؤلمة خلال سنوات الإدارة الرئاسية السابقة تركت ندوباً يقول بعض الخبراء إنَّها لن تبرأ قريباً، حسبما ورد في تقرير صحيفة The New York Times الأمريكية.
الاتحاد الأوروبي حذر من تبني المطالب الأمريكية
قالت روزا بلفور، مديرة مركز كارنيغي أوروبا: "لا تستهينوا بالصدمة التي أحدثتها سنوات ترامب للاتحاد الأوروبي. وهناك شبح عودته.. لذا فإنَّ الاتحاد الأوروبي أكثر حذراً في تبني المطالب الأمريكية".
وهناك قضايا جادة ينبغي مناقشتها، تتراوح بين الانسحاب من أفغانستان والإنفاق العسكري وروسيا والصين، وبين النزاعات التجارية وقضايا التعريفات والمناخ ودبلوماسية اللقاحات.
لكن بقدر ما يُقدِّر الأوروبيون وعود بايدن بالثبات والمودة، فإنَّهم شهدوا للتو كيف يمكن لـ75 عاماً من السياسة الخارجية الأمريكية أن تختفي بين عشية وضحاها بفعل التغيُّر في الرئاسة، حسب تقرير صحيفة The New York Times.
بايدن قد يكون رئيساً عابراً، ويخشون دفع الفواتير
يقول توماس كلاين-بروكهوف، نائب رئيس مركز "صندوق مارشال الألماني"، إنَّهم يخشون من إمكانية تكرر الأمر، ومن أنَّ أمريكا تغيَّرت، ومن أنَّ بايدن هو مجرد "فاصل" بين رئيسين أكثر شعبوية وقومية.
ويضيف أنَّهم يعلمون أنَّ سياسات بايدن ستكون مُرفَقة سراً بفواتير للدفع. وهم ليسوا متأكدين، على سبيل المثال، من مدى اختلاف التزامه بـ"سياسة خارجية لأجل الطبقة الوسطى" عن سياسة ترامب "أمريكا أولاً".
وأشار مختصون في السياسات الخارجية إلى أنَّ عقيدة بايدن الناشئة عن وضع حد "للحروب اللانهائية" وحماية العمال الأمريكيين من المنافسة الصينية ستتطلب التزامات اقتصادية وعسكرية جماعية من دول الاتحاد الأوروبي التي لا تزال مؤهلة للوفاء بها.
من جانبه، يقول جيريمي شابيرو، باحث أول في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية: "كان هناك ضغط على الديمقراطيين لجعل سياستهم الخارجية أكثر صلة بالحياة اليومية الأمريكية. وشعروا بأنَّ السياسة الخارجية في إدارة أوباما كانت مثل اللعبة في يد النخب المنفصلة عن الحياة اليومية للشعب الأمريكي. سيشهد التغيير من أوباما إلى بايدن المزيد من التركيز على أمريكا"، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية.
وهم يعلمون أيضاً أنَّ الساعة الانتخابية تدق، مع استعداد ألمانيا لاستبدال المستشارة أنغيلا ميركل في سبتمبر/أيلول المقبل، والانتخابات الرئاسية الفرنسية في مايو/أيار المقبل، وانتخابات التجديد النصفي الأمريكية التي لا تبعد إلا 17 شهراً، والتي قد تحد من مجال المناورة أمام بايدن.
رغم كل شيء العلاقات الأمريكية الأوروبية تعود مجدداً
مع ذلك، فإنَّ زيارات بايدن للناتو في 14 يونيو/حزيران ثم الاتحاد الأوروبي لغرض عقد قمم موجزة عقب حضوره قمة الدول السبع في بريطانيا، ستكون أكثر من رمزية. فاللقاءات مجدولة زمنياً بحيث يتمكن من الوصول إلى جنيف في 16 يونيو/حزيران وقد أجرى مشاورات مع الحلفاء وحصل على دعمهم لأجل لقائه الأول كرئيس مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
قالت يانا بوغليرين، مديرة المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية في برلين، إنَّ "النظرة المتفائلة التي تبعث على الأمل هي أنَّ بايدن يطلق علاقة جديدة، ويُظهِر إيمانه ببروكسل والناتو، ويقول الكلمات الصائبة، ويطلق العملية الاستراتيجية الرئيسية" لإصلاح الحلف على مدار العقد المقبل، "لكن.. يجب أن نرى نتائج ملموسة".
ولا يرى فرانسوا هيسبورغ، وهو محلل فرنسي لشؤون الدفاع، في زيارة بايدن إلا إيجابيات. لكنَّه في النهاية قال إنَّ "مراجعات السياسة يجب أن تتحول إلى سياسة"، حسبما نقلت عنه تقرير The New York Times.
وينظر إيفو دالدر، الذي كان سفيراً أمريكياً لدى الناتو في عهد الرئيس باراك أوباما، إلى الرحلة برمتها باعتبارها "جزءاً من نهج (لقد عدنا)، وأنَّها مهمة لإظهار أنَّ التحالفات والشركاء مهمون، وأنَّنا نريد العمل مع الدول الأخرى ونكون جيدين مع أصدقائنا".
لكنَّه وآخرين يشيرون إلى أنَّ بايدن لم يختر بعد سفراء لا لدى الناتو ولا لدى الاتحاد الأوروبي– بل لدى معظم الدول الأوروبية كذلك- ناهيكم عن تأكيد تعيينهم. ويُصِرُّ المسؤولون على أنَّ غياب السفراء حتى الآن ليس أمراً حيوياً، وأنَّ الكثير من المرشحين الأكثر احتمالاً معروفون جيداً.
بناء تصور استراتيجي للناتو
سيتفق القادة في قمة الناتو على بيان يجري التفاوض عليه حالياً، وسيناقشون الانسحاب من أفغانستان، وسيوافقون على دراسة مهمة، تستمر لمدة عام، حول كيفية إعادة صياغة التصور الاستراتيجي لحلف الناتو لمواجهة التحديات الجديدة في الحرب السيبرانية والذكاء الاصطناعي والدفاع المضاد للصواريخ والمعلومات المضللة و"التقنيات التخريبية الناشئة" والعديد من القضايا الأخرى.
كان الناتو قد افترض في عام 2010، حين جرت آخر مراجعة للتصور الاستراتيجي، أنَّ روسيا قد تكون شريكاً، وبالكاد ذُكِرَت الصين. لكنَّ التصور الاستراتيجي الجديد سيبدأ بافتراضات مختلفة للغاية.
مع ذلك، يقول مسؤولو الناتو وسفراؤه إنَّ هناك الكثير لمناقشته مستقبلاً، وأسئلة مثل أين وإلى أي حد يجب أن يحاول تحالف إقليمي عبر المحيط الأطلسي التصدي للصين، أو تحديد أي القدرات يحتاجها الناتو وأي قدر منها يجب أن يأتي عبر التمويل المشترك أو يبقى مسؤولية الدول الأعضاء، وفقاً لما ورد في تقرير صحيفة The New York Times.
كيفية تحقيق استقلال أوروبا
وتتضمن دواعي الاهتمام الأخرى كيفية التعاطي مع رغبة الاتحاد الأوروبي التي ما تزال غامضة في "الاستقلال الاستراتيجي"، وفي نفس الوقت تشجيع الإنفاق والكفاءة العسكرية الأوروبية وتجنب الوقوع في التكرار مع الناتو.
وكذلك الحال بالنسبة لسؤال كيف نجعل الناتو مؤسسة أكثر ذكاءً من الناحية السياسية، مثلما طالب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ربما من خلال عقد لقاءات جديدة لمسؤولين رئيسيين في الدول الأعضاء، مثل مستشاري الأمن القومي والمديرين السياسيين.
وسيبدأ القادة الحديث في الجلسات الثنائية بصورة أكثر هدوءاً عن استبدال الأمين العام الحالي للناتو، ينس ستولتنبيرغ، الذي جرى تمديد ولايته لعامين من أجل إبقاء الأمور هادئة خلال رئاسة ترامب. وتنتهي ولايته في سبتمبر/أيلول 2022.
التعامل مع روسيا والصين على صدارة الأولويات
وستكون المسائل الرئيسية الأخرى متعلقة بموضوعات، مثل كيفية التعامل مع أفغانستان أثناء وبعد الانسحاب، وروسيا تحت حكم بوتين، والصين تحت حكم شي جين بينغ، وبيلاروسيا تحت حكم ألكسندر لوكاشينكو.
سيلتقي بايدن في اليوم التالي، 15 يونيو/حزيران، مع ما تُوصَف على نطاق واسع بأنَّها قمة مع الاتحاد الأوروبي. وسيكون بايدن قد قابل بالفعل 21 من أصل 27 من زعماء الاتحاد الأوروبي في اليوم السابق بقمة الناتو، بما أنَّ هناك تداخلاً كبيراً بين المنظمتين. الاستثناءات الرئيسية هي تركيا، وهي عضو بالناتو تحاول موازنة علاقاتها مع روسيا ومشاكلها مع اليونان وقبرص، والتي تمثل بدورها دولة عضو بالاتحاد الأوروبي يعرقل معظم التنسيق مع الناتو بسبب خصومتها لتركيا.
خلافات تجارية
ولدى الكتلة مجموعة واسعة من القضايا لمناقشتها، بما في ذلك التعريفات الجمركية والنزاعات التجارية الناجمة عن شركتي بوينغ وإيرباص والحديد والألومونيوم، وقضايا جديدة مثل كيفية فرض ضريبة الحد الأدنى الجديدة على الشركات العالمية بموجب اتفاق توصل إليه وزراء مالية مجموعة الدول السبع أمس، السبت 5 يونيو/حزيران.
وتشمل القضايا الأخرى نقل البيانات، والإنفاق والشراء العسكري، والتنقل العسكري، والانتقال إلى الاقتصاد المحايد للكربون، بما في ذلك تسعير الكربون، وكيفية تنظيم عمالقة التكنولوجيا وشركات التواصل الاجتماعي العالمية، وكيفية إصلاح المؤسسات الرئيسية متعددة الأطراف مثل منظمتيّ التجارة والصحة العالميتين، وبطبيعة الحال ما هي أفضل السبل للتعامل مع صعود الصين وعدوانية روسيا.
ألمانيا غاضبة من طريقة الانسحاب من أفغانستان
هناك أيضاً حذر، ولا يتعلق ذلك باحتمالية مجيء رئيس أمريكي آخر يشبه ترامب بعد بايدن فقط. فقالت بوغليرين إنَّه على الرغم من كلمات التشاور الدافئة، يعتقد المسؤولون الألمان بالذات أنَّ قرار بايدن بسحب كافة القوات الأمريكية من أفغانستان بحلول 11 سبتمبر/أيلول اتُّخِذَ بصورة أحادية وبالطريقة القديمة، بحيث تقرر واشنطن ثم يتبعها الحلفاء.
وبالمثل، شعر القادة الأوروبيون بالغضب والإحراج من قرار بايدن دعم التنازل عن حقوق الملكية الفكرية بخصوص لقاحات كوفيد 19. وقد اتُّخِذَت تلك الخطوة، بعد انتقادات داخلية متصاعدة، دون تنبيه الحلفاء، ناهيكم عن التشاور معهم.
الأوروبيون لا ينظرون للصين وروسيا بنفس الطريقة
ولا ينظر الأوروبيون إلى الصين باعتبارها المنافس الند مثلما تنظر إليها واشنطن، وما يزالون أكثر اعتماداً على الصين وروسيا في التجارة والطاقة، مقارنةً بالولايات المتحدة. ويشعر البعض بالقلق من أنَّ مسعى بايدن لتعريف العالم باعتباره منافسة بين الديمقراطية والسلطوية هو نظرة ترى العالم من منظور أبيض وأسود أكثر من اللازم.
قالت ناتالي توتشي، مديرة معهد الشؤون الدولية الإيطالي: "التواصل مع الحلفاء قبل قمة بوتين مهم ويتجاوز الرمزية. لكنَّ الأوروبيين يوهمون أنفسهم بأنَّ الأمور يمكن أن تعود إلى النحو الذي كانت عليه".
وأضافت أنَّ الأوروبيين عليهم تحمل المسؤولية والعمل مع بايدن للتوصل إلى اتفاقات بشأن القضايا الرئيسية مثل المناخ واللقاحات والتجارة، "والتي يمكن أن تخلق كتلة حرجة غربية تتمدد لتصبح اتفاقاً عالمياً أوسع متعدد الأطراف".
وقالت إنَّ هذا هو السبيل الوحيد لإظهار أنَّ "الديمقراطية تفي بوعودها".