فشلت محاولات بنيامين نتنياهو أخيراً واجتمع خصومه خلف هدف إسقاطه، فهل انتهت حقبة "المتهم بالفساد" بالفعل؟ أم أن جعبته لا تزال فيها حيلة ما تطيل أمد بقائه في صدارة المشهد السياسي في إسرائيل؟
فقبل نحو 30 دقيقة فقط من المهلة التي منحها الرئيس الإسرائيلي رؤوفين ريفلين ليائير لابيد، زعيم حزب "هناك مستقبل" لتشكيل حكومة، أبلغ لابيد الرئيس بأنه نجح في تشكيل حكومة بالفعل، وذلك في منتصف ليل الأربعاء 2 يونيو/حزيران بتوقيت إسرائيل (21: ت.غ).
هذه الرسالة التي أرسلها لابيد للرئيس تعني فشل محاولات نتنياهو -الذي أصبح يشار إليه بلقب رئيس الوزراء السابق- لإجهاض الإعلان عن تشكيل حكومة وحدة تضع حداً لطموحاته، وتضعه وجهاً لوجه في مواجهة محاكمته بتهم فساد.
ما موقف نتنياهو الآن؟
في مؤشر على ما ستحمله الأيام المقبلة، ظهر نتنياهو (71 عاماً) عابساً على شاشة التلفزيون ليحذر من تشكيل "حكومة خطيرة من الجناح اليساري"، بحسب تقرير لرويترز.
ووصف نتنياهو بغضب المشهد الحالي بأنه "احتيال القرن" بعد أن انقلب عليه رفيقه اليميني نفتالي بينيت يوم الأحد واختار التحالف مع زعيم المعارضة المنتمي للوسط يائير لابيد على الرغم من وعده علناً بأنه لن يقدم على هذه الخطوة.
والغضب الذي بدا واضحاً تماماً على نتنياهو يرجع إلى أن محاولاته التشبث بمنصب رئيس الوزراء، والتي أدت إلى حالة شلل سياسي في إسرائيل وإجراء أربعة انتخابات غير حاسمة خلال نحو عامين، قد فشلت بعد أن اتفق خصومه جميعاً على هدف واحد هو إسقاطه وتشكيل حكومة بدونه.
ويتضح هذا الطرح من خلال تركيبة التحالف التي نتج عنها نجاح جهود لابيد في تشكيل الحكومة. فالحكومة الجديدة تضم 8 أحزاب: "هناك مستقبل" (وسط- 17 مقعداً من أصل 120 بالكنيست) و"يمينا" (يمين- 7 مقاعد) و"العمل" (يسار-7 مقاعد) و"أمل جديد" (يمين- 6 مقاعد)، و"أزرق- أبيض" (وسط-8 مقاعد)، و"ميرتس"(يسار-6 مقاعد) والقائمة العربية الموحدة (4 مقاعد)، و"إسرائيل بيتنا" (يمين- 7 مقاعد).
التحالف متنوع للغاية إذاً، ما بين اليمين والوسط واليسار، ولا يوجد حزب يمتلك كتلة برلمانية مؤثرة والقضايا الخلافية بينهم تشمل كل شيء تقريباً، وهذه الصورة تصبّ في صالح نتنياهو دون شك.
فالرجل الذي تحكّم في المشهد السياسي الإسرائيلي منذ عقود، وتولى منصب رئيس الوزراء خلال العقد الماضي متصلاً، أصبح الآن يقود المعارضة وأمامه هدف استراتيجي وحيد يتمثل في إفشال الحكومة والعودة لمنصبه، إما من خلال الكنيست الحالي أو الذهاب لانتخابات خامسة في أسرع وقت ممكن.
عرقلة خروج الحكومة للنور
من المقرر أن تؤدي الحكومة الإسرائيلية القَسَم في الكنيست خلال 10 أيام، بحسب صحيفة يديعوت أحرونوت، ويمكن القول إن الجزء الأول من استراتيجية نتنياهو خلال هذه الأيام العشرة سيتركز على السعي لعرقلة جلسة الكنيست لمنح الثقة للحكومة، بالتوازي مع محاولات استمالة أحزاب من الثمانية المشاركة في التحالف للتراجع عن تلك المشاركة.
وأعادت تصريحات نتنياهو الغاضبة تجاه التحالف المضاد له إلى الأذهان أصداء اللغة التي كان يتحدث بها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب -أقرب حلفاء نتنياهو على الصعيد الدولي- والذي خسر الانتخابات أمام الرئيس الحالي جو بايدن لكنه زعم دون دليل أنه تعرّض لمؤامرة ولا يزال ترامب يحظى بولاء مؤيديه.
وبالنسبة للناخبين الموالين لنتنياهو فإنه يظل زعيماً صاحب موقف قوي فيما يتعلق بالأمن ودرعاً في مواجهة الضغط حتى من الرئيس الأمريكي جو بايدن لأي خطوات جريئة قد تؤدي إلى قيام دولة فلسطينية.
وفي هذا السياق، يرى كثير من المحللين والمراقبين الإسرائيليين أن نتنياهو سيكرّس كل دقيقة حتى جلسة منح الثقة للحكومة لمحاولة استمالة بعض الأحزاب المشاركة في التحالف الحكومي للتراجع، على أمل أن تفشل الحكومة في الحصول على الأغلبية في الكنيست (61 صوتاً على الأقل)، أو أن يقل هامش الأغلبية لدى الحكومة لأقل عدد ممكن من الأصوات.
وهناك إجماع بين المحللين السياسيين الآن على أن الحكومة الجديدة الهشة لن تحظى إلا بأغلبية بهامش ضئيل في البرلمان، وكونها لن تؤدي اليمين على الأرجح قبل 10 أيام يعطي مساحة محدودة لمعسكر نتنياهو لمحاولة إجهاض تلك المحاولة بقلب النواب لصالحهم للتصويت ضد الائتلاف المقترح. ويتوقع محللون سياسيون إسرائيليون ألا يتورع نتنياهو عن فعل كل ما هو ممكن من المناورات السياسية لتحقيق ذلك.
استراتيجية المُعارِض نتنياهو
وفي حال فشلت محاولات نتنياهو وأدت الحكومة الجديدة اليمين الدستورية بالفعل وتولت مهامها رسمياً، سيتحول نتنياهو إلى الجلوس في مقعد المعارض وسيكون هدفه الاستراتيجي الأوحد متمثلاً في السعي لإسقاط تلك الحكومة بأسرع وقت ممكن.
فمن مقاعد المعارضة، سيواصل نتنياهو على الأرجح ترديد رسالة مفادها أن الائتلاف الجديد سيكبله الأعضاء اليساريون إذا دعت الضرورة لاتخاذ خطوات عسكرية ضد أعداء إسرائيل.
ومن أجل خطف الأضواء بينما كان لابيد يجري مفاوضات مكثفة بشأن تغيير الحكومة، اختار نتنياهو على ما يبدو التشاحن مع الرئيس الأمريكي بايدن حول كيفية التعامل مع البرنامج النووي الإيراني ولمح مجدداً إلى احتمال هجوم إسرائيلي.
وقال نتنياهو في كلمة: "إذا كان علينا الاختيار، وآمل ألا يحدث ذلك، بين الاحتكاك مع صديقتنا الكبرى الولايات المتحدة والقضاء على التهديد الوجودي.. فإن القضاء على التهديد الوجودي يفوز".
وحتى في الوقت الذي يخوض فيه معركة قضائية في مواجهة تهم الفساد التي ينفيها، فإن نتنياهو بصفته زعيماً للمعارضة سيكون في وضعية الاستعداد للهجوم على الائتلاف الجديد من أحزاب يمينية ووسطية وعربية لا يجمعها شيء مشترك سوى الرغبة في الإطاحة به.
فقد كانت السنوات القليلة الماضية صعبة على نتنياهو ولم تكن قيادته المتميزة لحملة التطعيم ضد كوفيد-19 كافية للحيلولة دون تراجع أسهمه السياسية.
وتزايد لديه الإحساس بأنه يلعب في الوقت الضائع بعد 12 عاماً متتالية في المنصب بسبب اتهامات جنائية بتقديم خدمات لأباطرة وسائل الإعلام والحصول على هدايا باهظة من السيجار والشمبانيا بشكل غير قانوني. وينفي نتنياهو ارتكاب أي مخالفات، وقال دون تقديم أي دليل إنه ضحية مؤامرة دولة عميقة ضده.
ونتنياهو المعروف شعبياً بلقب طفولته "بيبي" هو ابن مؤرخ والتحق بالمدرسة الثانوية والجامعة في الولايات المتحدة حيث كان والده يعمل أستاذاً، وكان صوته الجهوري مسموعاً على المسرح العالمي منذ أن شغل منصب سفير إسرائيل لدى الأمم المتحدة من عام 1984 إلى عام 1988.
ودخل معترك السياسة في إسرائيل كنائب عن حزب الليكود وأصبح زعيماً للحزب في عام 1993 وظل مهيمناً على المسرح السياسي الإسرائيلي لعشرات السنين. ويمثل تشكيل الحكومة الجديدة هزيمة نادرة لنتنياهو: وكانت آخر مرة اضطر فيها هو وزوجته سارة إلى حزم أمتعتهما والخروج من مقر إقامة رئيس الوزراء قبل مطلع الألفية.
ويمكن القول إن أحداً في إسرائيل لا يستبعد عودة نتنياهو إلى الحياة السياسية، رغم الإعلان الدرامي عن نجاح تحالف لابيد-بينيت في اللحظة الأخيرة. نعم، أيام نتنياهو في صدارة المشهد السياسي في إسرائيل تبدو وكأنها انتهت بالفعل، لكن المشهد السياسي نفسه أصبح مهترئاً وممزقاً ما يعني أن كل شيء أصبح وارداً.
ومحاكمة نتنياهو التي بدأت رسمياً في مايو/أيار من العام الماضي لا يتوقع لها أن تنتهي سريعاً، سواء بإدانته وهو ما يبدو الاحتمال الأرجح أو ببراءته. وهذا يعني أنه سيواصل إخراج ما في جعبته من حيل لإفشال عمل التحالف الذي أطاح به، ويرى كثير من المحللين أن فرص نتنياهو لا تبدو معدومة في هذا المسار بسبب هشاشة التحالف والتناقض بين مواقف أطرافه في جميع الملفات تقريباً، باستثناء الرغبة في التخلص من نتنياهو.