يبلغ تعداد الصين حالياً أكثر قليلاً من 1.4 مليار نسمة، لكن بكين تواجه أزمة كبيرة أجبرتها على التخلي عن سياسة الطفل الواحد قبل سنوات، والآن تبنت سياسة 3 أطفال.
وحتى تكون الصورة الأكبر أكثر وضوحاً في هذا السياق، من المهم أن نذكر أن معضلة الصين الديموغرافية ليست رقمية، بمعنى أنها ليست مرتبطة بعدد السكان بشكل عام، ولكنها مرتبطة بالفئات العمرية داخل البلد الذي يبلغ عدد سكانه نحو ما يقرب من ربع سكان العالم ككل.
قصة سياسة الإنجاب في الصين
ترجع بداية قصة تبني الحزب الشيوعي الحاكم في الصين سياسة إنجاب صارمة إلى مطلع ثمانينات القرن الماضي، حيث تقرر وقتها فرض سياسة صارمة على الأزواج هي "سياسة الطفل الواحد"، والتي طبقتها بكين بمنتهى الصرامة وأثارت انتقادات حقوقية غربية وأممية في كثير من الأحيان.
فقد تسببت تلك السياسة في بداية تطبيقها في ارتفاع هائل في عمليات الإجهاض، بلغت متوسط 10 ملايين حالة إجهاض سنوياً في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضي، ما فاقم من الجدل بشأن سياسة الطفل الواحد دون أن تتراجع بكين عن تطبيقها بمنتهى الصرامة.
وكانت قضية امرأة أجبرتها السلطات الصينية على الإجهاض وهي في الشهر السابع من حملها قد أثارت فضيحة في الصين، اضطرت على إثرها السلطات المحلية إلى الاعتذار، وترجع تلك القضية إلى يونيو/حزيران 2013.
وأدى هذا التطبيق الصارم لسياسة الطفل الواحد إلى تفادي إضافة أكثر من 400 مليون مولود جديد إلى تعداد الصين خلال العقود الأربعة الماضية، لكن الأضرار الهائلة لهذا الخلل بدأت تطل برأسها بالفعل منذ مطلع القرن الجاري، أي قبل عقدين تقريباً.
خلل سكاني وتقليص للقبضة الحديدية
تجري الصين إحصاء سكانياً شاملاً كل عشر سنوات، وبدأت الآثار السلبية لسياسة الطفل الواحد تظهر بصورة جلية منذ إحصاء عام 2010، وتمثلت تلك التداعيات في عاملين أساسيين، الأول يتعلق بارتفاع متوسط الأعمار بشكل عام، مع تحسن الخدمات الصحية والارتفاع المطرد في مستوى المعيشة، وهو ما يعني انخفاض نسبة القادرين على العمل مقارنة بعدد السكان.
ويمثل هذا العامل قلقاً كبيراً بالنسبة لقيادة الحزب الشيوعي، لأن ذلك يؤثر بشكل مباشر على النمو الاقتصادي المطرد في البلاد وهو بالأساس المنطق الذي على أساسه تم تطبيق سياسة الطفل الواحد.
أما السلبية الثانية لسياسة الطفل الواحد فتمثلت في التراجع الحاد في نسبة الإناث مقارنة بالذكور، بسبب طبيعة المجتمع الصيني الذي يفضل إنجاب الذكور، وبالتالي كان الزوجان يلجآن للإجهاض إذا ما كان مولودهما الأول -والوحيد أيضاً- أنثى.
وبسبب هذه السلبيات بدأت الصين ترخي قبضتها الحديدية على إنجاب الأطفال، أعطت بعض الأزواج مطلع عام 2015 خيار إنجاب طفل ثان، ومع حلول 2016 تم تبني سياسة الطفل الثاني في البلاد بشكل عام، وهو ما تسبب بالفعل في زيادة ملحوظة في عدد المواليد في عامي 2017 و2018، لكن الأمور عادت إلى ما كانت عليه وربما أسوأ في عامي 2019 و2020.
فقد أظهر إحصاء أجري في الصين في وقت سابق من شهر مايو/أيار 2021، أن العام الماضي (2020) شهد ميلاد نحو 12 مليون طفل، مقارنة بـ18 مليوناً عام 2016، وهذا الرقم هو الأقل منذ حقبة الستينيات فيما يتعلق بعدد المواليد سنوياً في الصين.
سياسة 3 أطفال
وفي هذا السياق، أعلنت السلطات السماح للأزواج بالإنجاب حتى ثلاثة أطفال، في خطوة وضعت نهاية لسياسة الطفلين الحازمة، واعتمد رئيس البلاد شي جين بينغ هذا التغيير في اجتماع للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني، بحسب وكالة شينخوا الرسمية للأنباء.
وجاءت الخطوة، التي تعتبر تغيراً ضخماً في سياسة البلاد السكانية، بعدما أظهر إحصاء يُجرى كل عشرة أعوام أن النمو السكاني في الصين سجل أدنى مستوياته، ووضع هذا الإحصاء ضغوطاً على الحكومة حتى تضع بدورها تدابير من شأنها تشجيع الأزواج على إنجاب المزيد من الأطفال، في محاولة لتجنّب تراجع عدد السكان، بحسب تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية BBC.
وأرجع مراقبون التغيير بصورة جزئية إلى نتائج سياسة الطفل الواحد التي أدت إلى خلل كبير في نسبة البنين إلى البنات بين المواليد، في بلد تسود فيه ثقافة تفضيل الذكور على الإناث، وقالت مو تشنغ، باحثة علم الاجتماع بجامعة سنغافورة الوطنية لهيئة الإذاعة البريطانية، إن هذا بدوره "تسبب في مشكلات في سوق الزواج، لاسيما للرجال من ذوي الموارد الاقتصادية المحدودة".
لكن البعض يرون أن هذه الخطوة كفيلة بأن تورث "مشكلات أخرى"، مشيرين إلى تفاوت كبير بين سكان الحضَر ونظرائهم في الريف الصيني، وكثيراً ما ترغب معظم سيدات المدن الصينية، لاسيما المناطق الثرية مثل العاصمة بكين وشنغهاي، في تأجيل الإنجاب أو حتى العزوف عنه نهائياً، بخلاف الريفيات اللواتي تؤثرن اتباع التقاليد وإنجاب الكثير من الأطفال.
هل تنجح سياسة 3 أطفال في حل المشكلة؟
ربما يسأل البعض سؤالاً منطقياً في هذا الشأن: إذا كانت سياسة تحديد الإنجاب بطفل واحد قد تسببت في مشكلات مزعجة لهذه الدرجة، فلماذا لم ترفع بكين يدها عن الأمر برمته وتترك القرار للأزواج لاختيار إنجاب العدد المناسب لهم من الأطفال؟
وتكمن الإجابة عن هذا السؤال، على الأقل في جانب منها، في طبيعة الحكم في الصين، حيث يسيطر الحزب الشيوعي على البلاد بصورة مطلقة، ولا يترك هامشاً للحرية أو الاختيار، بينما يقدم للصينيين مستوى معيشياً جيداً، ويرتفع باستمرار، وبالتالي فإن إرخاء قبضة الحزب على قضية الإنجاب ربما يؤدي إلى ارتفاع كبير في المواليد في المناطق الريفية، ما يؤثر على مستويات المعيشة ونسبة الفقر في البلاد.
وفي حدث لافت في هذا السياق، كانت صحيفة The Financial Times البريطانية قد نشرت تقريراً، أواخر أبريل/نيسان الماضي، عنوانه "الصين تشهد أول انخفاض في عدد السكان منذ نصف قرن"، لكن السلطات الصينية أصدرت رداً رسمياً نفت فيه ما جاء في تقرير الصحيفة البريطانية، دون أن تقدم أرقاماً تؤيد ذلك النفي.
وأظهرت تلك الواقعة مدى حساسية القيادة الصينية فيما يخص مسألة السكان لديها، إذ من النادر أن ترد الصين على تقارير إعلامية غربية، حيث قال المكتب الوطني للإحصاء في الصين إن عدد السكان قد ارتفع خلال عام 2020، لكنه لم يذكر أرقاماً، حسب تقرير لوكالة أسوشيتد برس الأمريكية.
كما أن اتخاذ قرار زيادة الإنجاب من طفلين إلى ثلاثة أطفال لم يتم اتخاذه بطريقة معتادة بالنسبة لمثل هذا النوع من القرارات، حيث اتخذت القيادة السياسية العليا للحزب بزعامة شي جين بينغ القرار دون الانتظار للتجمع السنوي للحزب على مستوى البلاد، وهو ما يشير إلى مدى الضغوط التي تمثلها مسألة انخفاض المواليد على الحزب، بحسب تقرير لشبكة CNN الأمريكية.
ويظل السؤال الجوهري الآن في هذه القضية التي تمثل معضلة حقيقية للصين متعلقاً بفرص نجاح السياسة الإنجابية الجديدة التي ارتفعت الآن إلى ثلاثة أطفال، بعد أن فشلت السياسة التي طبقت خلال السنوات الماضية بالسماح بطفلين في تحقيق تلك الغاية.
ولا تبدو مؤشرات النجاح متوفرة في ظل عدد من المتغيرات أبرزها، بحسب ما رصده تقرير لصحيفة الغارديان البريطانية، عزوف كثير من الأزواج عن إنجاب أكثر من طفل أو حتى الإنجاب من الأساس، بسبب ارتفاع تكلفة تربية طفل في مراحله الأولى وصولاً إلى سن الالتحاق بالمدرسة.
ويضاف إلى ذلك المتغير مؤشرات أخرى تتعلق بنفس الأسباب التي أفشلت تغيير سياسة الطفل الواحد ورفعها إلى طفلين، وذلك بحسب تقرير آخر لشبكة CNN الأمريكية، رصد فرص نجاح السياسة الجديدة في إصلاح المعضلة الديموغرافية في الصين.