رفضت إيران بشكل قاطع إعادة التفاوض مع أمريكا لإعادة إحياء الاتفاق النووي، ثم وافقت وبدأت المفاوضات في فيينا. إيران تحتاج للاتفاق حتى تتخلص من قبضة روسيا والصين.
رغم التصريحات الإيرانية المتشددة فيما يتعلق بالاتفاق النووي وشروط طهران المعلنة للعودة للالتزام ببنوده "كما هي دون تغيير"، فإن الصورة الأكبر تشير بوضوح أن الاتفاق -سواء في صورته الحالية كما تم توقيعه عام 2015 أو في صورة جديدة كما تريدها إدارة جو بايدن- في صالح الإيرانيين، بحسب تقرير لمجلة Foreign Affairs الأمريكية.
قصة الاتفاق النووي من بدايتها
خطة العمل الشاملة المشتركة أو "الاتفاق النووي" كما يعرف إعلامياً تم التوصل إليها عام 2015، خلال إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، ووقعت عليه روسيا والصين وألمانيا وبريطانيا وفرنسا، بالإضافة إلى إيران بالطبع، لذلك يعرف أيضاً باتفاق 6+1.
وانسحبت الولايات المتحدة برئاسة دونالد ترامب بشكل أحادي من الاتفاق في مايو/أيار 2018، مُعلِنةً أنَّ بنود الاتفاق غير كافية وأنَّ إيران تنتهكها، وبدأت إدارة ترامب تشديد العقوبات على طهران، الأمر الذي أثار استياء الأطراف الأخرى المُوقِّعة على الاتفاق، لكنَّ إيران لم تغادره، وإنما بدأت هي الأخرى في زيادة الضغوط باطراد، بشكل مباشر على واشنطن، وبشكل غير مباشر من خلال الأطراف الأخرى المُوقِّعة، من أجل إحياء الاتفاق.
ويطرح السلوك الإيراني طوال تلك الفترة سؤالاً هاماً: لماذا لا تزال حكومة إيران بحاجة إلى اتفاق نووي؟ لأنَّه من المنتظر أن تجني طهران على المدى الطويل الكثير اقتصادياً وجيوسياسياً في حين ستتنازل عن القليل من الناحية التكتيكية، بحسب التقرير الذي أعده جمشيد تشوكسي، أستاذ متميز للدراسات الإيرانية ودراسات أوراسيا الوسطى بكلية هاميلتون لوغار للدراسات العالمية والدولية بجامعة إنديانا الأمريكية وعضو مجلس الأمن القومي الأمريكي سابقاً، وكارول تشوكسي المحاضرة الأولى في مجال المعلومات الاستراتيجية بكلية لودي لعلوم المعلومات والحوسبة والهندسة بجامعة إنديانا الأمريكية.
وجاهرت إيران بإصرارها على إحياء "الاتفاق النووي الذي أبرمته" في 2015 و"تنفيذه كلمة بكلمة"، لكن من الناحية العملية أظهرت الجمهورية الإسلامية مرونة كبيرة فعلاً، إذ لمّح أحد كبار أعضاء البرلمان الإيراني إلى أنَّ المفاوضات في فيينا ستفضي إلى "اتفاق جديد وملزم"، وقد استوحى تلميحه هذا من آية الله علي خامنئي. ويُعَد الباب الدبلوماسي مفتوحاً أمام الولايات المتحدة وإيران من أجل التوصل إلى اتفاق أقوى يصمد في وجه تغيُّرات الإدارات في كلا البلدين.
الحسابات الإيرانية المعقدة
كان الاتفاق النووي الإيراني اتفاقاً لضبط التسلح يهدف لتقليص طموحات طهران النووية، وربما كانت بنوده تبدو تقييدية في 2015، لكنَّ الظروف تغيَّرت، ويُتوقَّع اليوم أن تستفيد إيران منه بصورة أكبر بكثير مما ستخسره في حال الالتزام بقيود الاتفاق أو حتى الموافقة على تعديله.
بادئ ذي بدء، طوَّرت إيران برنامجها النووي بصورة كبيرة، إذ أدَّى انسحاب واشنطن من الاتفاق إلى إطلاق يد إيران للسعي نحو تحقيق مستويات أعلى من اليورانيوم المُخصَّب. فانتهكت طهران الحدود المفروضة على مخزون اليورانيوم منخفض التخصيب، في يوليو/تموز 2019، وتوقفت عن الامتثال لقيود التخصيب تماماً في يناير/كانون الثاني 2020. ووصلت البلاد الآن إلى تخصيب بنسبة 63%، وهي نسبة لا تزال أقل من نسبة الـ90% المطلوبة للحصول على الأسلحة التي تقول إيران باستمرار إنَّها لا تسعى للحصول عليها.
مع ذلك، بات مُرجَّحاً الآن على نحو أكثر بكثير مما كان في الماضي أن تتمكن إيران واقعياً من بلوغ العتبة النووية، بمجرد انتهاء القيود المفروضة على التخصيب بالاتفاق، في أكتوبر/تشرين الأول 2030، أو حتى عند انتهاء الأطر الزمنية لأي اتفاق مُحسَّن في نهاية المطاف. (مرحلة زمن الاختراق النووي هي الفترة التي تستغرقها دولة ما لإنتاج ما يكفي من يورانيوم مرتفع التخصيب لإنتاج سلاح نووي).
وأظهرت إيران، بمواصلتها التخصيب، لنفسها وللعالم أنَّ بإمكانها تجاوز الضربات ضد منشآتها النووية والاغتيالات لعلمائها، فبمجرد انتهاء فترة الاتفاق المُعاد إحياؤه أو انتهاؤه في وقت لاحق يُعاد التفاوض عليه، يمكن أن تبقى إيران في مرحلة زمن الاختراق النووي، أو تواصل السعي لاختبار سلاح نووي، بحسب احتياجاتها الاستراتيجية والجيوسياسية آنذاك.
أي اتفاق لن يمنع السلاح النووي الإيراني للأبد
ومن ثَمَّ، لم تعد الاتفاقية عقبة مطلقة أمام مسعى إيران النووي، الذي بدأ في عهد الشاه الأخير، ويتواصل في ظل الجمهورية الإسلامية، كما أنَّ الاتفاق لا يمثل عائقاً أمام القدرات التقليدية الإيرانية. فحظر الأسلحة التقليدية الوارد في الاتفاق انتهى في أكتوبر/تشرين الأول 2020، وينتهي حظر الصواريخ الباليستية في أكتوبر/تشرين الأول 2023.
ولن تخسر إيران الكثير من القدرة العسكرية التقليدية بعودتها للامتثال الكامل لما تبقى من هذه الأطر الزمنية أو حتى لأطر زمنية أطول، وقدَّرت إيران على الأرجح أنَّ استئناف التزاماتها بموجب الاتفاق النووي سيُكلِّف برامجها العسكرية القليل جداً.
من ناحية أخرى، من شأن إلغاء العقوبات أن يعود بفائدة كبيرة على البلاد اقتصادياً وجيوسياسياً، إذ جعلت الضغوط المالية المباشرة وغير المباشرة من جانب الولايات المتحدة إيران أكثر اعتماداً على حفنة محدودة من الشركاء التجاريين.
فبحلول عام 2019، كانت الصين قد سيطرت على 48.3% من صادرات إيران، و27.5% من واردات البلاد، ومادامت العقوبات على إيران والعقوبات الثانوية على شركائها التجاريين باقية، فستبقى إيران ضعيفة اقتصادياً ومعتمدة على تلك الدول التي تجرؤ على مخالفة إرادة واشنطن.
وعانى الإيرانيون من التداعيات السلبية لمثل هذا الاعتماد من قبل، إذ اعتمدت إيران في القرنين التاسع عشر والعشرين بصور مختلفة على روسيا والاتحاد السوفييتي والمملكة المتحدة والولايات المتحدة.
وتخشى الصناعات الإيرانية الآن من خسارة أخرى للسيطرة المحلية، وعارضت "الشراكة الاستراتيجية الشاملة" التي تمتد 25 عاماً، والتي أعلنتها طهران وبكين في مارس/آذار الماضي، وأدرك الإيرانيون أنَّ رفع العقوبات، لاسيما القيود المصرفية، مهم من أجل إعادة تأكيد الاستقلالية الاقتصادية للبلاد.
بالمثل، لم يكن أمام طهران خلال فترة الضغوط المتصاعدة من واشنطن ملاذ يُذكَر باستثناء السعي للحماية الدبلوماسية والدفاعية من القوتين العظميين الأخريين.
وبرزت روسيا باعتبارها الضامن الأمني الرئيس لإيران، والمتعاون العسكري معها، والطرف المزود لها بالعتاد. ووسَّعت الصين أيضاً تعاونها في تلك القطاعات بسرعة، واستخدمت كلٌّ من روسيا والصين في مجلس الأمن الدولي حق النقض "الفيتو"، فضلاً عن قدراتهما الإقناعية لحماية إيران من المطالب الأمريكية، وعارضت موسكو وبكين مؤخراً، علانيةً، إصرار واشنطن على قبول إيران بإدخال تحسينات على الاتفاق النووي كشرط مسبق لعودة الولايات المتحدة إليه.
لكنَّ تاريخ الاستغلال الاستعماري في إيران يجعل كيانها السياسي مهيئاً للنظر إلى أي اعتماد على الفاعلين العالميين في الشؤون الداخلية والدولية بتشكك عميق. ولدى المسؤولين الإيرانيين مبررات وجيهة للحذر، إذ يُزعَم أنَّ روسيا قامت في 2015 بمحاولة سرية لمنع الاتفاق النووي من خلال استغلال الصراعات داخل الطبقة الإيرانية الحاكمة.
وتسعى الصين للحصول على إمكانية الوصول إلى الموانئ والمطارات الإيرانية والسيطرة عليها، وسيؤدي إحياء الاتفاق النووي إلى إرخاء قبضة هاتين القوتين الكبريين على طهران، وبالتالي ستصبح الفصائل داخل النظام السياسي الإيراني أقل انقياداً للضغط الأجنبي وأكثر حرصاً على الاستقلالية الجيوسياسية لإيران.
الاتفاق النووي أفضل أمر ممكن لإيران
لهذه الأسباب تنخرط إيران حالياً في المباحثات في فيينا، رغم الرفض المتكرر من طهران لتلك الخطوة، ومن الواضح أنَّ طهران على استعداد للعمل مع واشنطن مجدداً، مثلما فعلت بين عاميّ 2015 و2018.
من جانبهم، يسعى صانعو السياسات الأمريكيون لأكثر من مجرد عودة للوضع الذي كان قائماً في 2015، وقادة إيران ينصتون، حتى وهم يمارسون الدبلوماسية الصارمة، إذ لمح خامنئي في خطابه السنوي، في 21 مارس/آذار الماضي، إلى أنَّ إيران قد تكون منفتحة على تعديل الاتفاق، ما دامت التغييرات "لصالح إيران"، بمعنى أن تفيد البلاد ونظامها.
وبالتالي يمكن للدبلوماسية أن تحقق الكثير من الناحية الواقعية: ليس فقط إعادة تطبيق الاتفاق، بل أيضاً إدخال تحسينات، مثل وقف تخصيب اليورانيوم، ومراقبة الثغرات، والسيطرة على أجهزة الطرد المركزي المتطورة، وتمديد الحظر المفروض على الصواريخ الباليستية، وتمديد الأطر الزمنية.
وتفوق المكاسب الاقتصادية والجيوسياسية التنازلات العسكرية، لأنَّه وفق الحسابات الإيرانية بالإمكان استئناف التعزيزات التكتيكية في المستقبل، لكن لبلوغ هذه الأهداف يتعين على الولايات المتحدة التوقف عن الحديث عبر شركائها ومنافسيها، مثل الاتحاد الأوروبي وروسيا، ومعاودة الانضمام إلى مفاوضات فيينا من أجل التفاوض بشكل مباشر مع إيران.
ولا بد أن تؤكد الولايات المتحدة في تلك الاجتماعات على أنَّ التحسينات الكبيرة للاتفاق النووي ستقلص خطر فرض عقوبات مستقبلية، ويمكن لإدارة بايدن، من خلال المفاوضات الصعبة، لكن العادلة، أن تحقق أهدافها المعلنة بعدم الاكتفاء بالتوصل إلى اتفاق "أطول وأقوى"، لكن أيضاً بفتح الطريق أمام المزيد من الانخراط البنّاء.