نعم، أجبر انتصار المقاومة على إسرائيل في حرب غزة الإدارة الأمريكية على تغيير أجندتها الخاصة بالشرق الأوسط، لكن يبدو أن إعادة إحياء الاتفاق النووي مع إيران لا يزال هدف بايدن الوحيد.
فمنذ تولت إدارة بايدن المسؤولية خلفاً لإدارة الرئيس السابق دونالد ترامب، بدا واضحاً أن ملفات الشرق الأوسط الساخنة والشائكة لها حل سحري واحد من وجهة نظر الإدارة الديمقراطية الجديدة في البيت الأبيض، وهو إعادة إحياء الاتفاق النووي الذي كان ترامب قد انسحب منه عام 2018.
لكن الحريق الذي أشعله رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو، من خلال خطط تهجير فلسطينيين من حي الشيخ جراح، وتكثيف محاولات تهويد القدس والاعتداء الوحشي على المسجد الأقصى، ومن ثم هبة فصائل المقاومة في قطاع غزة بقيادة حركة حماس للدفاع عن القدس والفلسطينيين في الأراضي المحتلة، وبالتالي الحرب المفتوحة بين الاحتلال والمقاومة، وصولاً إلى وقف إطلاق النار بوساطة مصرية فجر الجمعة 21 مايو/أيار، أربك أجندة الإدارة الأمريكية التي اضطرت إلى الاشتباك مع القضية الفلسطينية دون استعداد ولا حتى إرادة سياسية.
زيارة بلينكن الخاطفة إلى الشرق الأوسط
تلك هي الصورة الأكبر التي أجبرت وزير الخارجية أنتوني بلينكن على القيام بزيارته الأولى للشرق الأوسط، فماذا أراد بلينكن ورئيسه بايدن أن يحققاه من خلال تلك الزيارة الخاطفة؟
سعت وكالة Bloomberg الأمريكية إلى محاولة الإجابة عن هذا السؤال من خلال تقرير لها بعنوان "زيارة بلينكن الخاطفة للشرق الأوسط تشير إلى أن تركيز بايدن منصبٌّ على مكان آخر"، رصد كيف زار بلينكن المنطقة حاملاً في يده الوعود بتقديم المساعدة للفلسطينيين المحاصرين الذين تفاقمت معاناتهم بالحرب الأخيرة على قطاع غزة. لكن الزيارة أبرزت أيضاً غياب أي إرادة أمريكية في فرض مفاوضات أشمل لحل المشكلات الأساسية لما يُوصف بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
ففي ختام زوبعة من الاجتماعات التي استمرت يومين في إسرائيل ومصر والأردن والأراضي الفلسطينية المحتلة، والتي كانت الأولى له في المنطقة بعد توليه منصب وزير الخارجية، أوضح بلينكن أن الولايات المتحدة لا تعتقد أن الوقت مناسب للانخراط في هذا النوع من الضغوط المستنزِفة باتجاه حل الدولتين، والتي وقع الرؤساء الأمريكيون في فخِّها لعقود.
دعونا نركز على الاتفاق النووي
لذلك، حتى وإن كانت المواجهة التي استمرت 11 يوماً بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية فرضت نفسها بنداً محورياً في جدول بلينكن، فإن أولويات الولايات المتحدة وانشغالها ظلَّ منصرفاً إلى مكان آخر: هو المفاوضات الحرجة التي تجري في فيينا حول البرنامج النووي الإيراني، والجهود الأوسع نطاقاً لإعادة توجيه السياسة الخارجية الأمريكية نحو المنافسة مع الصين، أما فيما يتعلق بمنطقة الشرق الأوسط، فقد أشار بلينكن إلى أن الولايات المتحدة تعتقد أن مسار التحركات التدريجية أكثر واقعية في الوقت الحالي.
وعلى هذا المنوال، جاءت تصريحات بلينكن للصحفيين يوم الأربعاء 26 مايو/أيار في عمان، بالقول: "ما نريد رؤيته، وما نعمل عليه هو خطوات يمكن لجميع الأطراف اتخاذها لتخفيف حدة التوتر وبناء مزيدٍ من الثقة ومزيدٍ من الأمل في إمكانية المضي قدماً. ثم أعتقد أننا يمكن أن نتابع إمكانية تطور الظروف إلى حدٍّ يمكن معه التقدم فعلياً في أفق حل الدولتين".
وبينما تطرق بلينكن وفريقه في تصريحاتهم إلى ضرورة معالجة جذور الصراع، فإن إجابتهم الأبرز في الوقت الحالي هي المساعدات المالية، إذ قال وزير الخارجية في أثناء رحلته إن الولايات المتحدة ستخصص أكثر من 100 مليون دولار لدعم جديد للفلسطينيين.
ويشير دانيال كيرتزر، سفير الولايات المتحدة السابق لدى مصر وإسرائيل والأستاذ في جامعة برينستون حالياً، إلى أن "الإدارة الحالية تفضِّل بلا شك العمل على تحقيق الاستقرار ودعم جهود إعادة الإعمار في غزة على الاضطرار إلى التعامل مع الجذور الأساسية الأشد إشكاليةً للصراع. كما أنه لا يوجد دليل على أن الإدارة الحالية تريد الدفعَ بفاعلية في سبيل حل الدولتين، وإن كررت استخدام التعويذة" بين الحين والآخر.
أين تقع المصلحة الأمريكية؟
ومما يعزز هذه الفرضية واقعُ أن حركة حماس- التي تصنفها الولايات المتحدة على أنها منظمة إرهابية- هي التي تحكم قطاع غزة، ما يجعل انخراط الولايات المتحدة في مفاوضات مباشرة مع حركة حماس أمراً مستحيلاً، بحسب مقال بلومبيرغ.
وبناء على ذلك، أكد بلينكن أن الولايات المتحدة ستعمل على ضمان عدم استفادة حماس من المساعدات الأمريكية الإضافية التي سترسلها لمساعدة غزة في التعافي من آثار الحرب الأخيرة، التي دمرت إسرائيل خلالها مئات المباني وركائز البنية التحتية الرئيسية وقتلت أكثر من 230 شخصاً في غاراتها على القطاع.
التحدي الآخر لإدارة بايدن هو أنها تواجه في إسرائيل والضفة الغربية اثنين من القادة- محمود عباس في رام الله وبنيامين نتنياهو في القدس- أمضى كل منهما بالفعل مدةً تزيد على العقد في مقاومة الوصول إلى أي حل وسط حقيقي.
ويجادل كوري شاك، مدير دراسات السياسة الخارجية والعسكرية في "معهد أمريكان إنتربرايز"، بأن فريق بايدن "معادٍ لنهج نتنياهو وترامب، القائم على (دعم إسرائيل بأي ثمن)، لكنهم في الغالب يحاولون ألا ينجرفوا إلى مزيد من التورط بدرجةٍ تطغى على أولوياتهم الأخرى".
من جهة أخرى، أبدت الإدارة الأمريكية الجديدة بادرة اتفاق مع إحدى سياسات الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، وهي التزام بلينكن بدعمِ انضمام المزيد من الدول إلى اتفاقيات التطبيع الدبلوماسي مع إسرائيل، والمعروفة باسم اتفاقات إبراهام.
لكن إدارة بايدن لا تتخلى في الوقت نفسه عن العودة إلى النهج الأكثر تقليدية حيال الشرق الأوسط، مبتعدةً بطريقة ما عن سياسة ترامب القائمة على الانحياز كلياً لإسرائيل.
وبرز ذلك بشدة في إصرار بلينكن على زيارة مقر السلطة الفلسطينية في رام الله يوم الثلاثاء 26 مايو/أيار، في تباينٍ مع نهج الإدارة الأمريكية السابقة، التي لم يزر أي من وزراء خارجيتها على مدار السنوات الأربع الماضية مقرَ السلطة الفلسطينية، بل إن وزير الخارجية الأمريكي، مايكل بومبيو، قرر بدلاً من ذلك زيارة إحدى المستوطنات التي أقيمت بالمخالفة للقانون الدولي في الضفة الغربية لإبداء دعمه لإسرائيل، وهو أمر لم يفعله أي دبلوماسي أمريكي بارز المنصب من قبل.
تصريحات بلينكن تناقض الأفعال
ومع ذلك، أظهرت جولة بلينكن في المنطقة- التي اختتمت يوم الخميس 27 مايو/أيار بعودته إلى واشنطن من عمَّان- تناقضاً جوهرياً في نهج إدارة بايدن للسياسة الخارجية، إذ بينما تعهدت الإدارة بوضع حقوق الإنسان في القلب من عملية صنع القرار، فإن تعاملها مع الأزمة الأخيرة كشف بوضوح عن استعدادها لغض الطرف عن ذلك ودعم أنظمة معروف عنها انتهاكها لحقوق الإنسان ما دام يخدم ذلك المصالح الأمريكية.
وهذا هو الحال مع مصر، على سبيل المثال، فالولايات المتحدة وافقت على صفقة لبيع صواريخ بقيمة 197 مليون دولار لمصر، التي لا تزال شريكاً مهماً للولايات المتحدة على الرغم من انتهاكات حقوق الإنسان، التي شملت اعتقال العديد من المواطنين الأمريكيين. وقد زار بلينكن القاهرة يوم الأربعاء 26 مايو/أيار، وصرَّح بأنه أثار موضوع حقوق الإنسان مع الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي.
وقال بلينكن للصحفيين يوم الأربعاء: "أنتم تعلمون أن الرئيس بايدن يأخذ قضية حقوق الإنسان والتزامنا بها بجدية شديدة. وفي الواقع، لقد طلب منا أن نضعها في موضع مركزي من سياستنا الخارجية، وهذا بالضبط ما نفعله".
من ناحية أخرى، وفي الوقت الذي كان بلينكن يخوض جولة زياراته في المنطقة، كان العمل على المسألة ذات الأولوية الأكبر لإدارة بايدن في الشرق الأوسط يجري بعيداً عن القاهرة والقدس. ففي النمسا، كان مسؤولون أمريكيون وإيرانيون وأوروبيون منهمكين في العمل على إحياء خطة العمل الشاملة المشتركة، أو الاتفاق النووي مع إيران الذي انسحب منه ترامب في عام 2018. وتعارض إسرائيل بشدة محاولة الولايات المتحدة للعودة إلى الصفقة، وخلافهم بشأن هذه المسألة مصدرُ توترٍ كبير.
وقد أوضح نتنياهو ذلك عندما التقى بلينكن يوم الثلاثاء 25 مايو/أيار، قائلاً إنه لا توجد قضية ناقشها الطرفان أهم من إيران. وقال نتنياهو: "ما يمكن قوله إني آمل ألا تعود الولايات المتحدة إلى خطة العمل الشاملة المشتركة السابقة، لأننا نعتقد أن هذه الصفقة تمهِّد الطريق لإيران للحصول على ترسانة أسلحة نووية بشرعية دولية".
ورداً على سؤال حول الخلاف الأمريكي الإسرائيلي بخصوص هذه المسألة، قال بلينكن إن الولايات المتحدة ستتشاور مع حلفائها مثل إسرائيل. لكنه لم يقدم أي ضمانات ولم يحاول تهدئة مخاوف نتنياهو.
وفي لقاء آخر لوزير الخارجية الأمريكي، أجراه مع القناة 12 الإسرائيلية قال: "نتحدث حديثاً مباشراً للغاية، وبصراحة شديدة مع بعضنا، وفي النهاية نحاول التفكير في حلٍ للمشكلات معاً. وأظن أنه عندما يأتي الرئيس الأمريكي إلى هنا، فإنه سيواصل محادثة طويلة وقائمة منذ فترة طويلة كان قد بدأها [مع الإسرائيليين] قبل بضع سنوات".
الخلاصة هي أن إدارة بايدن، وإن اضطرتها معركة "سيف القدس"- وهي تسمية المقاومة لحرب غزة- إلى أن تعيد النظر في قضية الشرق الأوسط الأساسية، يبدو وأن تلك الإدارة لم تستوعب الدرس بشكل كامل وكل ما تسعى إليه هو إبقاء الأوضاع في فلسطين على ما كانت عليه قبل المعركة، مع التركيز على إعادة إحياء الاتفاق النووي وكأنه العصا السحرية لمشكلات المنطقة.