"بلطجي صغير"، و"قزم أيديولوجي"، و"ضبع مجنون". هل يمكن تصديق أن هذه الشتائم تصدر عن دبلوماسيين؟ نعم أصبح هذا حال الدبلوماسية الصينية في ظل عقيدتها الجديدة المعروفة باسم "دبلوماسية المحاربين الذئاب الصينية".
فهذه الكلمات كانت ضمن خطاب ألقاه السفير الصيني لدى فرنسا لو شاي، وكان يستهدف به أكاديمياً انتقد الصين، ولكن الأغرب أن الدبلوماسي الصيني تجاهل طلب استدعاءٍ رسمي من قبل باريس، بعد احتجاجها على هذه الكلمات، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Times البريطانية.
وقعت حادثٌة مماثلة في ألاسكا، تجلت فيها دبلوماسية المحاربين الذئاب الصينية".
ففي أول اجتماعٍ لإدارة بايدن مع المسؤولين الصينيين، عندما امتدَّت جلسةٌ مدتها أربع دقائق فقط إلى ساعةٍ من تبادل الشائعات، بعد أن ردَّت الصين على مخاوف بشأن انتهاكات حقوق الإنسان في شينجيانغ بأن الأمريكيين من أصل إفريقي يجري "ذبحهم" في الشوارع.
وفي براغ، طالب السفير الصيني عمدة المدينة بطرد ممثِّل تايوان من حفل ليلة رأس السنة، وهي حادثةٌ بلغت ذروتها بإلغاء جولةٍ في الصين من قِبَلِ أوركسترا براغ الفيلهارمونية، ونهاية توأمة بكين وبراغ.
واتهم السياسيون السويديون السفير الصيني في السويد بتهديد أحد الصحفيين برسالة بريد إلكتروني تطالبه بالكف عن انتقاده لسياسات بكين، أو "مواجهة عواقب أفعالك".
وبعد أن أعلنت اليابان عن خطط لإطلاق مياه الصرف الصحي في فوكوشيما، التي شهدت كارثة نووية، في المحيط، تجرأ دبلوماسي صيني على نائب رئيس الوزراء الياباني لشرب المياه المعالجة، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Washington Post.
لماذا تحولت الصين من الدبلوماسية المملة إلى شتائم الشوارع؟
مثل هذه المشاحنات العامة بعيدةٌ كلَّ البعدِ عن أسلوب دبلوماسية المدرسة القديمة، والالتزام الصارم بالبروتوكولات التي تحكم التفاعلات بين دولةٍ وأخرى، مثل الانصياع لاستدعاءٍ رسمي، وتعد تحولاً كبيراً عن الدبلوماسية الصينية التي كانت متحفظة من قبل.
كان الدبلوماسيون الصينيون من قبل من بين أكثر الدبلوماسيين حرصاً على الإطلاق، وكانوا متمسِّكين بشدة بنصوصهم الرسمية المتقلِّبة إلى درجة أن الصحفيين كانوا يلعبون لعبة البينغو لتمضية الوقت خلال إلقائهم الإحاطات الرسمية التي لا تنتهي.
كلُّ ذلك تغيَّر في غضون خمس سنوات، إذ بدأ الرئيس الصيني في تغيير مكانة بلاده في العالم، بمساعدة "دبلوماسية المحاربين الذئاب" الذين يمثِّلون الأمة في الخارج.
تمثَّلَ النموذج القديم للدبلوماسية الصينية في قول منسوب لـ"دنغ شياو بينغ" مهندس نهضة الصين الحديثة بـ"إخفاء نورنا والتكتُّم على زماننا".
ولكن الآن بدلاً من مجرد الدفاع عن بلاده ضد النقد الأجنبي، يتنافس المحاربون الذئاب الآن على شنِّ هجماتٍ استباقية على أيِّ دولةٍ يبدو أنها تشير إلى أن الأنظمة الغربية قد تكون متفوِّقةً على الحكم الاستبدادي في الصين.
يُقتَبَس مصطلح دبلوماسية المحاربين الذئاب الصينية" أو "المحارب الذئب" من سلسلة أفلام الأكشن القومية الصينية لعام 2017، والتي تصوِّر مقاتلين من القوات الخاصة أشبه برامبو، يقاتلون ضد أباطرة مخدرات يحميهم مرتزقة أمريكيون.
وفي حين أن الصين درَّبَت دبلوماسييها منذ فترةٍ طويلة على أن يكونوا "جنوداً بملابس مدنية"، وُلِدَت دبلوماسية المحاربين الذئاب الصينية، من حثِّ الرئيس الصيني المستمر على "الجرأة في القتال" نيابةً عن الصين.
ودعا شي إلى روح "الجرأة على القتال" في الدفاع عن المصالح الأساسية للصين. بالإضافة إلى السيادة والأمن، شدد شي على الكفاح من أجل أن يكون للصين رأي في الخطاب الدولي. وسرعان ما ردد وزير الخارجية وانغ يي هذه اللغة، متعهداً "بالتطبيق الكامل واتباع توجيهات فكر شي بشأن دبلوماسية المحاربين الذئاب الصينية".
يجادل بيتر مارتن، مؤلِّف كتاب "الجيش المدني الصيني: صنع دبلوماسية المحاربين الذئب"، بأن التغيير مدفوعٌ بقدرٍ كبيرٍ من عبادة شخصية شي أكثر من أيِّ دليلٍ على فاعليته. ويقول: "الدافع وراء الدبلوماسيين الصينيين لاتِّباع خطى شي متجذِّرٌ في الخوف والطموح. أسهل طريقة للدبلوماسيين للعمل على تحقيق رغبات شي هي تأكيد المصالح الصينية بقوةٍ على الصعيد العالمي".
المتحدث الذي اتهم الجيش الأمريكي بجلب كورونا للصين نموذج للدبلوماسيين الذئاب
ربما لا يجسِّد أحدٌ هذه الروح الجديدة بقدر تشاو ليجيان، المتحدِّث باسم وزارة الخارجية وأحد دبلوماسيي المحاربين الذئاب، وأحد روَّاد هذه الدبلوماسية على المستوى الرقمي.
كان من أوائل الدبلوماسيين الصينيين الذين فتحوا حساباً على منصة تويتر، المحظورة داخل الصين. عاد إلى بكين بعد مشادةٍ علنية مع مضيفيه الباكستانيين والشكوك حول انتهاء مسيرته المهنية، لكنه عاد بعد ذلك إلى الظهور كصوتٍ عام للوزارة، وبدأ في حثِّ الدبلوماسيين الآخرين على التواجد على تويتر.
وحتى الآن، لدى 189 دبلوماسياً صينياً رفيع المستوى حسابات نشطة على المنصة الاجتماعية، وينشرون مئات التغريدات كلَّ شهرٍ، وهو مستوى نشاطٍ لا يضاهيهم فيه سوى نظرائهم الروس.
استخدم تشاو تويتر لإطلاق بعض اتهاماته الأكثر شراسة على الولايات المتحدة، بما في ذلك التأكيد على أن جيشها جلب فيروس كورونا المستجد إلى الصين، أثناء حضوره مسابقةٍ رياضية. وفي إيجازٍ شخصي في بكين، حذَّرَ تشاو شبكة العيون الخمس الاستخباراتية من "توخي الحرص حتى لا تتعرَّض للتوبيخ وأن تُترَك دون معلومات"، بعد انتقاداتٍ للحملة القمعية في هونغ كونغ.
دبلوماسيون جدد قادمون من الحزب الشيوعي
صاحَبَ صعود تشاو استيلاءٌ متزايد على وزارة الخارجية من قِبَلِ أولئك الذين ارتقوا في صفوف الحزب الشيوعي وحلوا محل الدبلوماسيين المهنيين التقليديين، وغالباً ما كان يُنظَر إليهم بريبةٍ من جانب كوادر الحزب الموالية بسبب الوقت الذي يقضونه في الخارج في الارتباط بالأجانب.
يشير تشارلز بارتون، الدبلوماسي البريطاني السابق في الصين، إلى أنه، بدلاً من كبح جماح المحاربين الذئاب، فإنهم يُشاد بهم ويُمنَحون الترقيات. قال: "لم يُعاقَب أحدٌ جرَّاء ذلك"، رغم العديد من الحالات التي أدَّت فيها تدخُّلاتهم بشكلٍ واضح إلى الإضرار بالعلاقات مع البلدان المضيفة لهم.
خصَّ تشارلز بالذكر لو شاي، السفير الصيني في فرنسا، باعتباره أحد أكثر رماة القنابل على هذا النحو نشاطاً في الدائرة الدبلوماسية. في عام 2016، دعا شاي زملاءه الدبلوماسيين إلى خوض معركةٍ مع الغرب لفرض قبول "وقوف الصين على قمة العالم". وبعد إرساله سفيراً إلى كندا في العام 2018، اتَّهَمَ الحكومة هناك بـ"الأنانية الغربية والإيمان بتفوُّق البيض" بعد أن ألقت الشرطة القبض على مسؤولٍ تنفيذي في شركة هواوي كان مطلوباً تسليمه إلى الولايات المتحدة.
سفير صيني يتهم فرنسا بترك السكان يموتون في دور الرعاية
بالانتقال إلى باريس العام الماضي، لم يهدر لو شاي الكثير من الوقت في خوض معركةٍ ضد الفرنسيين، ونشر مقالات تتهم دور الرعاية الفرنسية بترك السكَّان ليموتوا، ومهاجمة باحث خاص بشكلٍ شخصي كان قد دَعَمَ العلاقات مع تايوان. ويصرُّ على أنه يبرز ثقة الصين وليس عدوانيتها. وقال لصحيفة L'Opinion الفرنسية: "إنه شكلٌ من أشكال الدبلوماسية الاستباقية".
تردَّد صدى موقفه في صحيفة Global Times، الصحيفة الناطقة باللغة الإنجليزية للحزب الشيوعي الصيني، إذ اقترحت أن الوجه الحازم الجديد للصين كان مناسباً لموقفها العالمي الجديد. وطرحت افتتاحية الصحيفة أن "ما وراء دبلوماسية المحارب الذئب هو تغيُّر نقاط القوة بين الصين والغرب". وأضافت الافتتاحية: "لقد ولَّت الأيام التي كان يمكن فيها وضع بكين في موقفٍ خاضع منذ زمنٍ بعيد. إن مكانة الصين المتصاعدة في العالم تتطلَّب منها حماية مصالحها الوطنية بطريقةٍ صريحة".
هل تنجح "دبلوماسية المحاربين الذئاب الصينية"؟
يميل المحللون ووسائل الإعلام إلى النظر إلى دبلوماسية محارب الذئب على أنها رد فعل على تزايد النزعة القومية داخل الصين، ويعتقدون أن الاستراتيجية محكوم عليها بالفشل، على الأقل فيما يتعلق بتعزيز صورة الصين حول العالم.
ولكن تحليلاً نشرته Washington Post يشير إلى أن هذا النوع من الدبلوماسية قد ينجح بمعنى مختلف، السماح للدبلوماسيين الصينيين باسترضاء القوميين المحليين ودعم دبلوماسية الرئيس شي جين بينغ، بينما لا يزالون يتركون مجالاً للحكومة الصينية للسيطرة على تصعيد القضايا المتنازع عليها.
تشير الأبحاث الحديثة إلى أن النقد الغربي للصين، الذي تم تأطيره على أنه صدام جيوسياسي "نحن" مقابل "هم"، يساعد في الواقع على تعزيز الدعم المحلي للحكومة الصينية. في الوقت نفسه، قد تساعد المواقف القاسية وزارة الخارجية الصينية على تقديم نفسها للداخل على أنها تتخذ مواقف قوية، مما يرضي المواطنين ذوي المشاعر القومية القوية، ومع ذلك لا تزال الخارجية الصينية تترك مجالاً لمزيد من الدبلوماسية المحسوبة.
وجدت إحدى الدراسات الحديثة، على سبيل المثال، زيادة في القبول الشعبي بعد أن أصدرت الحكومة الصينية تهديدات غامضة ولكنها فارغة في نهاية المطاف، حتى في غياب إجراءات صارمة.
تعمل لغة المواجهة أيضاً على إعادة توجيه انتباه الجمهور المحلي بعيداً عن مواطن الضعف التي يوجه لها النقد الأجنبي للصين.
فبعد المحادثات بين الولايات المتحدة والصين في ألاسكا، أشاد مستخدمو الإنترنت الصينيون بالرد من الفريق الصيني باعتباره انتصاراً: أشار أحد مستخدمي Weibo إلى أن الصين فقط "تجرؤ على وضع الولايات المتحدة في زاوية كهذه على الأراضي الأمريكية". يُرضي الخطاب القاسي مستخدمي الإنترنت، ويعزز التقديرات المبالغ فيها لتأثير الصين العالمي بين المواطنين الصينيين.
وفيما يتعلق بالمواقف الشعبية العالمية حول هذا الجدل، تظهر نتائج استطلاعات الرأي في عام 2019 أن الدول المتقدمة والنامية قد انقسمت في المواقف تجاه الصين، إذ يميل المواطنون في البلدان ذات الناتج المحلي الإجمالي المنخفض إلى أن تكون وجهات نظرهم أكثر إيجابية تجاه الصين.