لم يكن إصدار منظمة هيومان رايتس ووتش الأمريكية تقريراً خلص إلى أن إسرائيل تمارس جريمتي "الفصل العنصري والاضطهاد" حدثاً عادياً، ولا يجب أن يكون، وللعالم في تجربة جنوب إفريقيا عبرة وعظة.
ولم يكن تقرير هيومان رايتس ووتش – الصادر في أبريل/نيسان الماضي – يمثل المرة الأولى التي تواجه فيها إسرائيل اتهامات بارتكاب انتهاكات بحق الشعب الفلسطيني، لكن تفاصيل التقرير وطبيعته القانونية والتحول العالمي الواضح خلال حرب إسرائيل على قطاع غزة تضيف زخماً غير مسبوق لهذا التصنيف.
فقد خلص تقرير هيومان رايتس إلى أن الحكومة الإسرائيلية "تجاوزت الحد القانوني"، ويجب أن تواجه عواقب نتيجة انتهاجها سياسة "فصل عنصري" ضد الفلسطينيين.
هل حان وقت فرض العقوبات؟
وتناولت صحيفة The Guardian البريطانية هذه القضية في تقرير عقد مقارنة تفصيلية بين نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا وكيفية تعامل المجتمع الدولي معه ونتائج تلك السياسة، وبين ما يجب أن يكون عليه التعامل مع إسرائيل الآن.
بعد مرور 27 عاماً على نهاية حكم البيض في جنوب إفريقيا، يرى البعض في حملة مقاطعة جنوب إفريقيا دليلاً استرشادياً لتعبئة الدعم الشعبي ضد ما ينظر إليه كثيرون على أنه النسخة الإسرائيلية من الفصل العنصري.
ومثلما أظهرت تجربة جنوب إفريقيا، يستغرق بناء الدعم الشعبي والتحرك سنوات، ومن يدعمون هذه الحملة يواجهون خصماً أشد بأساً في الدولة الإسرائيلية، ورغم ذلك، فالتحولات الكبرى في المواقف تجاه إسرائيل، لا سيما في الولايات المتحدة وبين اليهود في الشتات، قدمت للناشطين أفضل الفرص حتى الآن لبناء حركة مقاطعة والاحتذاء بنموذج الحركة المناهضة للفصل العنصري.
وأحد أهم هذه التحولات يتمثل في إسقاط تحريم تشبيه الممارسات الإسرائيلية بالنظام العنصري في جنوب إفريقيا، إذ أصدرت منظمة حقوق الإنسان الإسرائيلية الرائدة (بتسيلم) تقريراً في يناير/كانون الثاني بعنوان: "نظام سيادة يهودية من نهر الأردن إلى البحر المتوسط: هذا فصل عنصري". وحذت منظمة هيومان رايتس ووتش الأمريكية حذوها في أبريل/نيسان، باتهامها إسرائيل بارتكاب "جرائم فصل عنصري".
ولسنوات، رفضت إسرائيل وأنصارها هذه المقارنات ووصفوها بأنها معادية للسامية على أساس أنها توحي بأن الدولة اليهودية مشروع عنصري. وتستمر إسرائيل في مزاعمها للعالم الخارجي بأن هذا الاحتلال مؤقت، حتى وهي تزيد من ترسيخ سيطرتها بدرجة لم يسبق لها مثيل، وأن الفلسطينيين وحدهم يتحملون اللوم لفشلهم في التفاوض على طريقهم لإنشاء دولة مستقلة.
لكن التركيز المتزايد على حملات العدالة العرقية في الولايات المتحدة ساهم في تحول التركيز من الجدل حول إقامة دولتين إلى انتهاكات حقوق الإنسان بحق الأفراد.
تجربة جنوب إفريقيا الناجحة
وتجدر الإشارة إلى أن حركة المقاطعة المناهضة للفصل العنصري كانت تتمتع بمصداقية في جزء كبير منها، لأن من دعا إليها جنوب إفريقيون حتى لو لم تحظَ بدعم كامل بين السكان السود في البلاد، ويعود ذلك جزئياً للخوف من فقدان الوظائف.
وكان رئيس حزب المؤتمر الوطني الإفريقي، ألبرت لوتولي، قد أعلن عن دعوة المقاطعة عام 1958، وفي العام التالي، بدأت "حركة المقاطعة"، التي تغير اسمها فيما بعد إلى "الحركة المناهضة للفصل العنصري"، في لندن، وكان من بين المتحدثين جوليوس نيريري، الذي أصبح رئيساً لتنزانيا.
وكان مما قاله: "نحن لا نطلب منكم شيئاً مميزاً أيها الشعب البريطاني. كل ما نطلبه منكم التوقف عن دعم نظام الفصل العنصري بالامتناع عن شراء بضائع جنوب إفريقيا"، وقال أيضاً: "حكومة جنوب إفريقيا تحارب التاريخ ومحكوم عليها بالخسارة. نحن نعلم أن نضال التحرير سينتصر في جنوب إفريقيا. وإن كانت لديكم ثقة، فسننتصر!". وكان نيريري محقاً. لكن هذا النصر استغرق 30 عاماً أخرى.
دور جيل الشباب الفلسطيني
أما الحملة الفلسطينية، حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS)، فلا يقودها زعماء سياسيون وإنما المجتمع المدني، الذي لا يحظى بالمكانة نفسها التي يحظى بها حزب المؤتمر الوطني الإفريقي في المنتديات الدولية.
وتبدو هذه نقطة ضعف في ظاهر الأمر. لكن غياب قيادة السلطة الفلسطينية قد أفسح المجال لجيل من الشباب هو في العادة أفضل كثيراً في توضيح كيف أن التجربة الفلسطينية تتوافق مع المطالب العالمية المتزايدة للعدالة العرقية، إضافة إلى موجة الاحتجاجات التي شنها جيل جديد من الفلسطينيين داخل إسرائيل والأراضي المحتلة، وحدّه الغضب من نظامين مبنيين على التمييز.
والمدافعون عن جنوب إفريقيا البيضاء، ومن بينهم ساسة محافظون على جانبي المحيط الأطلسي، كانوا قد وصفوا حزب المؤتمر الوطني الإفريقي بأنه حركة عنيفة مناهضة للديمقراطية وجبهة للاتحاد السوفييتي. أما الصحف الشعبية البريطانية اليمينية فتحدثت عن أجزاء أخرى من القارة الإفريقية وتساءلت عن سبب اختيار جنوب إفريقيا في الوقت الذي كانت فيه أوغندا بقيادة عيدي أمين أسوأ حالاً بكثير.
لكن الملايين من الناس العاديين رأوا في ذلك، ما كان عليه الفصل العنصري، جريمة بحق إنسانية كل جنوب إفريقي خاضع لقوانينه وممارساته العنصرية.
إسرائيل خسرت الحرب الإعلامية أخيراً
وقد عملت إسرائيل جاهدة لتركيز الانتباه على حماس والحط من قدر المنتقدين من حين لآخر بسؤالهم عن سبب "خص" الدولة اليهودية بانتقاداتهم في حين أن جيرانها العرب أقل ديمقراطية وأكثر قمعية. لكن الأحداث التي وقعت في الأسابيع الأخيرة أظهرت مدى فشل هذا الأسلوب، لا سيما وسط انتقادات دولية للتهجير القسري الفلسطينيين من منازلهم لإفساح المجال أمام اليهود في القدس الشرقية.
وفي الوقت الذي تزعم فيه إسرائيل أن حركة المقاطعة لا تتمتع بمصداقية ولا تحظى سوى بقليل من الدعم، تشير تصرفاتها إلى أنها ترى شيئاً آخر.
فقد عملت الجماعات الموالية لإسرائيل جاهدة لإقناع الولايات الأمريكية بتمرير قوانين مناهضة للمقاطعة وتقنين تعريف التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست لمصطلح "معاداة السامية"، بأمثلته الغامضة عن الظروف التي لا يكون فيها انتقاد إسرائيل مقبولاً.
والتاريخ الطويل والمريع لمقاطعات اليهود، خاصة في أوروبا، يضيف بُعداً للحملة لم يكن على مواطني جنوب إفريقيا مراعاته، لكنه وحده لم يعد كافياً لرفض العقوبات بشكل قاطع لأنها تذكرنا بثلاثينيات القرن الماضي.
وردت مجموعة مكونة من أكثر من 200 من الباحثين في الهولوكوست حول العالم بـ "إعلان القدس" الذي قال إن المقارنات بين إسرائيل والفصل العنصري، والدعوات إلى المقاطعة، ليست في حد ذاتها معادية للسامية.
ونتنياهو لم يساعد نفسه بتحالفه مع دونالد ترامب أو اليمين المتطرف في أوروبا مثل الرئيس المجري، فيكتور أوربان، الذي يتاجر منذ فترة طويلة بنظريات المؤامرة المعادية للسامية.
تحديات تواجه فرض عقوبات على إسرائيل
على أن التحديات التي تواجه حركة المقاطعة لا تزال واضحة. إذ رفض الاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا) -الهيئة الحاكمة لكرة القدم على مستوى العالم- المطالب باتخاذ إجراءات بحق ستة فرق في الدوري الإسرائيلي في المستوطنات اليهودية على أساس أن هذه المشكلة "سياسية بحتة".
وعلى غرار المقاطعة الثقافية لجنوب إفريقيا، رفض ممثلون ومخرجون التصوير في إسرائيل، ودعا البعض إلى سحب مسابقة الأغنية الأوروبية من تل أبيب عام 2019. وألغت المغنية النيوزيلندية لورد حفلاً موسيقياً في المدينة قبل ثلاث سنوات بعد أن حثها محبوها على الانضمام إلى المقاطعة الفنية لإسرائيل. ونشرت جماعة مؤيدة لإسرائيل إعلاناً في صحيفة الواشنطن بوست الأمريكية وصفتها فيه بـ"المتعصبة".
وقبل ثلاث سنوات، ألغت الأرجنتين مباراة ودية لكأس العالم مع إسرائيل بعد أن صوت اللاعبون لصالح مقاطعة المباراة، ويشير ظهور الأعلام الفلسطينية في مباريات الدوري الإنجليزي وكأس الاتحاد الإنجليزي مؤخراً إلى دعم مثل هذه الإجراءات.
وإقناع الشركات الكبرى بإظهار رفضها للسياسات الإسرائيلية يمثل تحدياً أكبر. ومع ذلك، وحتى في مواجهة ضغوط ترامب، وقفت أجزاء من القطاع الخاص الأمريكي ضد فرض المزيد من القيود على حقوق التصويت في الولايات المتحدة وسحبت التمويل عن الجمهوريين الذين دعموا الغوغاء الذين اقتحموا مبنى الكابيتول في يناير/كانون الثاني.
ولحركة المقاطعة أصدقاء مهمون أيضاً، من بينهم السود في جنوب إفريقيا الذين كانوا في طليعة النضال ضد الفصل العنصري. فيوم الأربعاء، قال الرئيس سيريل رامافوزا، وهو زعيم نقابي قاد مفاوضات حزب المؤتمر الوطني الإفريقي مع النظام الأبيض، إن الترحيل القسري للفلسطينيين لإفساح المجال أمام المستوطنين الإسرائيليين وتدمير المنازل في غزة "يعيد إلى أذهاننا ذكريات مروعة من تاريخنا والفصل العنصري"، وأضاف: "ونرى أن ما يحدث شديد الشبه بمعاناتنا في ظل نظام الفصل العنصري. وحين نرى هذه الصور، فلا يسعنا إلا الانحياز إلى جانب الفلسطينيين".
نعم الطريق نحو اصطفاف دولي خلف فرض عقوبات على إسرائيل كنظام "فصل عنصري" كما حدث مع جنوب إفريقيا من قبل، لكن المؤشرات التي سبقت حرب غزة الأخيرة وتبلورت خلالها تؤكد أن الدعم الذي كانت تحظى به إسرائيل قد بدأ يتآكل.