كان يُفترض أن تتلقى وكالة أسوشيتد برس الأمريكية اعتذاراً عن قصف مكتبها بغزة، أو حتى يُفتح تحقيق في هذه الجريمة، ولكن بدلاً من ذلك وجدت الوكالة نفسها قيد الاتهام، واضطرت إلى فصل صحفية أمريكية كانت قد تسلمت وظفتها للتو.
فلقد خسرت الصحفية الأمريكية إميلي وايلدر، وهي يهودية الديانة، وظيفتها التي التحقت بها بتاريخ 3 مايو/أيار 2021، ضمن فريق عمل وكالة "أسوشييتد برس" الأمريكية بعد 16 يوماً فقط من التحاقها بالعمل.
فقد بدأ الأمر بقصفٍ إسرائيلي بقنبلةٍ على مكاتب وكالة أسوشييتد برس الأمريكية في غزة، وانتهى بطرد الصحفية الشابة من الوكالة، بسبب نشاطها المؤيِّد للفلسطينيين حين كانت طالبةً جامعية، حسبما ورد في تقرير لموقع Responsible Statecraft الأمريكي.
حملة على وكالة أسوشييتد برس الأمريكية من هذه الجهات
وبرَّرَ الجيش الإسرائيلي هجومه في 15 مايو/أيَّار على برج الجلاء -الذي استضاف العديد من المكاتب الصحفية الأجنبية في غزة- بادِّعاء أن حركة حماس لها مكاتب في المبنى. وقد نفت وكالة أسوشييتد برس هذا الادِّعاء، ولم تقدِّم إسرائيل أدلةً علنيةً لدعم روايتها لهذا الزعم.
لكن وسائل الإعلام الأمريكية اليمينية وموظفاً سابقاً ساخطاً في الوكالة الأمريكية حاولوا اختلاق تبريرٍ للقصف الجوي، من خلال تصوير على أنها مصدرٌ مؤيِّدٌ لحركة حماس.
ومُنِحَت هذه الادِّعاءات بعض الوقت على الهواء مباشرةً من قِبَلِ صحفيين بوسائل الإعلام السائدة في الولايات المتحدة، مِمَّا وضع وكالة أسوشييتد برس في موقفٍ دفاعي، بدلاً من الجيش الذي قصفها، حسب موقع Responsible Statecraft.
واجهت الحملة ضد الوكالة الأمريكية أخيراً تراجعاً حاداً هذا الأسبوع. ولكن بعد أن طُرِدَت الخريجة الجامعية، التي أنهت دراساتها الجامعية مؤخَّراً، إميلي وايلدر، من الوكالة يوم الخميس 20 مايو/أيَّار.
وجاء ذلك بعد أن اكتشف نشطاء يمينيون مشاركتها سابقاً في مجموعة "طلاب من أجل العدالة في فلسطين"، ومنظمة "الصوت اليهودي من أجل السلام"، وهما منظمتان مؤيِّدتان للفلسطينيين.
وبررت الـ"أسوشييتد برس" قرارها بإقدام وايلدر على "انتهاك سياسات وسائل التواصل الاجتماعي" التي تقرها الوكالة على العاملين بها، وهي الخطوة التي أثارت ردود فعل شديدة من الصحفيين بعد أن أصبح واضحاً أن وايلدر قد استُهدفت من قِبل وسائل الإعلام اليمينية داخل الولايات المتحدة.
وفي تصريح لصحيفة الغارديان البريطانية، قالت وايلدر، إنه تم فصلها بدعوى انتهاكها سياسات الوكالة دون توضيح، مؤكدةً أن إدارة "أسوشييتد برس" لم توضح أي تغريداتها أو منشوراتها على حساباتها خالفت اللوائح.
وتضمنت تغريدات وايلدر السابقة ما يفيد بأنها كانت عضواً نشطاً في الجماعات المؤيدة للفلسطينيين، مثل "الصوت اليهودي من أجل السلام" و"طلاب من أجل العدالة في فلسطين" بجامعة ستانفورد، التي تخرجت فيها عام 2020.
ويوم الأحد 16 مايو/أيار 2021، نشرت الصحفية في حسابها على تويتر انتقادها لكيفية تعاطي وسائل الإعلام للوضع في حي الشيخ جراح الذي يشهد محاولات لتهجير سكانه، وكتبت: "تبدو الموضوعية متقلبة عندما تحتوي المصطلحات الأساسية التي نستخدمها للإبلاغ عن الأخبار ضمنياً على ادعاءات"، عندما مصطلحات الحرب، وليس الاحتلال والحصار، فهذه خيارات سياسية تتخذها وسائل الإعلام طوال الوقت دون الإشارة إلى أنها "مصطلحات منحازة" حسب تعبيرها.
ثقافة الإلغاء
وانتُقِدَ طرد وايلدر على نطاقٍ واسع باعتباره مثالاً على "ثقافة الإلغاء"، خاصةً أن دور الصحفية المحلي حينما كانت طالبة في ولاية أريزونا الأمريكية علاقةٌ تُذكَر بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وركَّزت الهجمات على تصريحات وايلدر التي أدلت بها قبل سنواتٍ من أن تصبح صحفية.
وتعرَّضَت الوكالة الأمريكية لانتقاداتٍ، بسبب رضوخها لحملة ضغطٍ خارجية. وجاء الهجوم على سمعة الوكالة بعد هجومٍ مادي على مكاتبها خلال الحرب القصيرة هذا الشهر بين إسرائيل وحماس في غزة، والتي أسفرت عن مقتل أكثر من 200 شخص وانتهت بوقف إطلاق النار فجر الجمعة 21 مايو/أيار 2021.
الهجوم استند إلى مزاعم لم تقدم إسرائيل أدلة عليها
ووقع الهجوم الإسرائيلي المباغت على المبنى، بعد ظهر يوم 15 مايو/أيار، تلقَّى الصحفيون في برج الجلاء فجأةً مكالمةً من القوات الإسرائيلية تطلب منهم إخلاء المبنى على الفور. طالَبَ صاحب المبنى ببعض الوقت، وسارَعَ الصحفيون إلى جمع أكبر قدرٍ ممكنٍ من المعدَّات، وهربوا قبل أن تدمِّر ذخيرة الجيش الإسرائيلي أمريكية الصنع المبنى الذي كانوا يعملون فيه لسنوات.
وزعمت القوات الإسرائيلية أن المخابرات العسكرية التابعة لـ"حماس" كانت تعمل خارج المبنى.
لكن كان هناك كثير من الأسباب للشكِّ في روايات الجيش الإسرائيلي، حسب الموقع الأمريكي.
رواية زائفة روَّجها الجيش الإسرائيلي لخداع حماس
فقبل عملية القصف للمبنى الذي يضم مكاتب المؤسسات الإعلامية بيومٍ واحد، زوَّد الجيش الإسرائيلي الصحفيين الأجانب بمعلوماتٍ مُضلِّلة حول التحرُّكات الإسرائيلية؛ من أجل إغراء مقاتلي حماس للوقوع في الفخ.
وتضاربت المصادر في تقديرها لفعالية هذا الخبر الزائف في العملية العسكرية، فلقد اعتبره البعض فضيحة، وقال رئيس تحرير صحيفة Haaretz الإسرائيلية ألوف بن، إن الخدعة الفاشلة لم تنجح، لأنه على ما يبدو لم يكن هناك عدد كبير من مقاتلي حماس داخل الأنفاق التي قُصِفَت، في حين تحدثت صحيفة The Jerusalem Post الإسرائيلية، المحسوبة على اليمين الإسرائيلي، عن نجاح عملية القصف في استهداف عدد كبير من المقاومين.
في كل الأحوال يلقي هذا الخبر الزائف الضوء على إمكانية استخدام الجيش الإسرائيلي تقارير زائفة لتبرير أعماله العسكرية.
وتقول وكالة أسوشييتد برس، التي دعت إلى تحقيقٍ مستقل، إنها لم تر أيَّ مؤشِّرٍ على وجود حماس ببرج الجلاء على مدار 15 عاماً، منذ أن اتخذت الوكالة البرج مقراً لعملها.
أمريكا مرتاحة لعدم موت الصحفيين ولا تدين
وتزعم مصادر إسرائيلية أنها قدَّمَت تحذيراً لحكومة الولايات المتحدة. وأكَّد وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، الثلاثاء 18 مايو/أيار، أنه اطَّلَع على معلوماتٍ استخباراتية تتعلَّق بالقصف الجوي، لكنه امتنع عن التعليق على محتوى هذه المعلومات، وهل اقتنع بصحته أم لا.
واكتفى الرئيس الأمريكي جو بايدن، الذي كان مؤيِّداً في الغالب للحملة الجوية الإسرائيلية في تلك المرحلة، بالإعراب عن "مخاوف بشأن سلامة وأمن الصحفيين".
كما أعرب وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، عن دعمه الثابت للصحفيين المستقلين ووسائل الإعلام بجميع أنحاء العالم، مؤكداً أهمية ما ينقلونه في مناطق الصراع، وذلك خلال اتصال هاتفي أجراه مع جاري برويت رئيس وكالة الأنباء الأمريكية "أسوشييتد برس"، وذلك بعد تدمير مقرها بغارة جوية إسرائيلية.
وأبدى بلينكن، وفقاً لقناة "الحرة" الأمريكية، ارتياحه لأن فريق الوكالة في غزة لم يُصب بأذى.
ولكن كليهما لم يلُم إسرائيل مباشرة.
في المقابل، أعرب رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي، بوب مينينديز (ديمقراطي من ولاية نيوجيرسي)، عن توبيخٍ نادرٍ لإسرائيل رداً على القصف الجوي.
صحفي سابق في وكالة أسوشييتد برس يردد ادعاءات بلا أدلة
لكن المدافعين عن أفعال إسرائيل كانوا مستعدين لشنِّ هجومٍ إعلامي مضاد. في عام 2014، بعد ثلاث سنوات من مغادرته وكالة أسوشييتد برس، أعلن الصحفي السابق برس ماتي فريدمان علناً أن تقارير وكالة الأنباء عن إسرائيل كانت مدفوعةً بـ"هوس عدائي إزاء اليهود".
فريدمان، الذي خدم بالجيش الإسرائيلي قبل أن يصبح مراسلاً صحفياً، زعم أن وكالة الأنباء الأمريكية ألغت العديد من السرديات المؤيِّدة لإسرائيل أو غير المواتية لـ"حماس"، ومن ضمنها سردياتٌ لشهود عيان عن إطلاق صواريخ حماس بالقرب من مكتب الوكالة.
وأشار ستيف غوتكين، الرئيس السابق لفريدمان في وكالة الأنباء الأمريكية، وهو نفسه يهودي، إلى أن وكالة أسوشييتد برس نشرت بالفعل العديد من الحقائق التي ادَّعى فريدمان أنه تم التستُّر عليها.
وعلى أيَّة حال، فإن التقارير العدائية لا تحوِّل مكاتب الأخبار إلى أهدافٍ عسكرية مشروعة، حسب قول موقع Responsible Statecraft الأمريكي.
لكن المزاعم وضعت وكالة الأنباء الأمريكية في موقفٍ دفاعي، لذا أعادت العديد من وسائل الإعلام اليمينية إحياء هذه المزاعم هذا الأسبوع. وفي يوم الأحد 16 مايو/أيار، ذكرت صحف ومواقع Epoch Times وNew York Post وThe Blaze ادَّعاءات فريدمان القديمة في مقالاتٍ حول الهجوم على برج الجلاء، وانضمَّت إليها في ذلك صحيفتا National Review وThe Daily Mail ومجلة National Interest في اليوم التالي.
فريدمان نفسه ألقى الوقود في النار، إذ كتب على منصة تويتر: "عكس ما رأيته يُنسَب إليّ اليوم، لم أكتب (في عام 2014) أن حماس تعمل من المبنى نفسه، ولا أعرف ما إذا كان هذا صحيحاً". لكنه ادَّعى بعد ذلك أن "محادثةً مع صديق على درايةٍ وثيقة بعملية صنع القرار العسكري في الوقت الحالي، تشير إلى وجود مكاتب لحماس في البرج بالفعل".
بدأت الفكرة تكتسب زخماً في الصحافة السائدة. وتحدَّث مراسل شبكة CNN الأمريكية، براين ستيلتر، عن ادِّعاءات فريدمان، دون أن يذكر من أين أتت هذه الادِّعاءات، في مقابلةٍ أُجرِيَت يوم الأحد مع سارة بوزبي، المحرِّرة التنفيذية في وكالة أسوشييتد برس.
وقال ستيلتر: "الصواريخ ستنطلق من غزة باتِّجاه إسرائيل، وسوف ينظر مكتب غزة في الاتِّجاه الآخر. كانت هناك تساؤلاتٌ في الماضي حول مكتب غزة".
وشارك جيك تابر، زميل ستيلتر في CNN، لاحقاً في موضوع فريدمان دون تعليق.
التحقيق مع الصحفيين بدلاً من إسرائيل
واكتسبت الحملة ضد الوكالة الأمريكية زخماً إلى درجة أنها فرضت وجودها في قاعات الكونغرس. وبدلاً من التدقيق في القوة العسكرية الأجنبية التي طردت الصحفيين الأمريكيين من مكاتبهم بالقذائف، كان أعضاء الكونغرس وقطاعاتٌ من الصحافة السائدة يطلبون من الصحفيين أنفسهم إنكار ارتكابهم أيَّ مخالفات مزعومة.
وفي ظلِّ كل هذا الجدل، رأى جمهوريو جامعة ستانفورد فرصةً لتصفية بعض الحسابات القديمة. كان للنادي المحافظ في الحرم الجامعي تاريخٌ طويلٌ من التفاعلات السلبية مع الصحفية الأمريكية المفصولة إميلي وايلدر، التي عُيِّنَت مساعدةً في الوكالة الأمريكية لتغطية أخبار ولاية أريزونا.
وفي عام 2019، ساعدت وايلدر في تنظيم محاضرة بجامعة ستانفورد لرسام الكاريكاتير اليهودي إيلي فالي، ووزَّع جمهوريو الجامعة منشوراتٍ تقارن عمل فالي المؤيِّد للفلسطينيين بالدعاية النازية، مِمَّا أثار غضباً واسع النطاق.
وفي وقتٍ لاحق من العام نفسه، جلب الجمهوريون بالجامعة المتحدِّث المحافظ بِن شابيرو إلى الحرم الجامعي، وصاغت وايلدر مقالاً وصفته فيه بأنه "مفكِّرٌ مُزيَّف" و"غبيٌّ تافه".
والآن، مع أجواء الشكِّ حول الوكالة الأمريكية، قفز جمهوريو ستانفورد إلى الميكروفون، ونشروا سلسلةً من التغريدات على منصة تويتر يتَّهمون فيها وكالة الأنباء الأمريكية بتوظيف "مُحرِّضة سابقة في ستانفورد على مناهضة إسرائيل"، مِمَّا يسلِّط الضوء على الانتقادات التي وجَّهتها وايلدر على وسائل التواصل الاجتماعي بشأن إسرائيل وشخصياتٍ مُحافِظة مؤيِّدة لها.