كان موقف حزب الله من حرب غزة لافتاً، بدا الحزب صامتاً أكثر مما يتوقع منه، وفي الوقت ذاته يحاول إطلاق رسائل دعم للمقاومة الفلسطينية، دون أن يتورط في الحرب.
فمنذ حربهما الأخيرة عام 2006 تبادلت إسرائيل وحزب الله الوعيد بأن جولةً جديدةً بينهما أمرٌ لا مفر منه، ومع ذلك، مرةً أخرى، لم يسحب أحدٌ يده من على الزناد، حتى اليوم.
وترقبت تل أبيب موقف حزب الله من حرب غزة باهتمام، إذ كان احتمال دخول الحزب في الحرب بمثابة مصدر قلق كبيرٍ بالنسبة لإسرائيل، مع احتمال أن يطلق العنان لترسانته من الصواريخ -الأقوى بكثير من ترسانة حماس- لدعم الفلسطينيين، حسبما ورد في تقرير لوكالة Associated Press الأمريكية.
وفي المقابل، ظلَّ واضحاً أن حزب الله يريد ألا يتورط في المعركة، وأنه حتى مظاهر إبدائه للدعم والتعاطف مع المقاومة الفلسطينية بدت محسوبة.
ومع إعلان وقف إطلاق النار بين الجانبين تصبح هذه الحرب رابع حرب رئيسية تقوم بين إسرائيل وحماس دون تدخُّلٍ من حزب الله.
علاقة مركبة مع الحركات الفلسطينية
وتاريخياً، حزب الله وإيران داعم أساسي للمقاومة الفلسطينية، خاصة من خلال تهريب السلاح لها وتوفير بعض التدريب، ويعتقد أن لديه هو وطهران علاقة وثيقة أكبر مع الجهاد مقارنة بحماس.
وبعد حرب لبنان عام 2006، بدأت حركتا حماس والجهاد تطوير نموذج فلسطيني للمقاومة، يرتكز على فكرة الأنفاق والحرب بالصواريخ. وجدت إرادة فلسطينية قوية بهذا الاتجاه مع إمكانات عند إيران وحزب الله، فالتقت الرغبتان الفلسطينية والإيرانية وأنتجت منظومة الصواريخ الحالية"، حسبما قال المحلل السياسي وخبير الجماعات الإسلامية في غزة، الدكتور إبراهيم أبو سعادة، لموقع DW الألماني.
في الأعوام 2006 و2008 و2010، تدرب كثير من الشباب المنتمين إلى حركات المقاومة بإيران وسوريا ولبنان على تصنيع الصواريخ والدروع. أما المصدر الثاني فهو صواريخ "فجر 5" التي كانت تأتي إلى قطاع غزة، عبر شبكة الإمداد من السودان عبر الأحمر إلى مصر وحتى سيناء.
لكن بعد انهيار الربيع العربي، أصبحت الصناعة الداخلية هي المصدر الأهم للحركات الفلسطينية، فخطوط الإمدادات انقطعت، بسبب تضييق القاهرة في عهد الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، على غزة عكس ما كان يسمح به نظام مبارك ونظام الإخوان في مصر، حسب الدكتور إبراهيم أبو سعادة.
وتعافت العلاقة بين حماس وحزب الله خلال السنوات الماضية بعدما كانت ساءت جراء التوتر بسبب أحداث الثورة السورية التي تورط الحزب خلالها في دعم نظام بشار الأسد، فيما قررت حماس في المقابل الخروج من دمشق كرد فعل على مجازر الأسد بحق الشعب السوري.
ويرى الصحفي الفلسطيني عبدالباري عطوان أن غزّة بإعلانها الحرب على إسرائيل لم تكن فقط ترد على انتهاكاتها بحق القدس، بل كانت تنتقم لهجمات "الموساد" على مفاعل "نطنز"، وشنّ الجيش الإسرائيلي ألف غارة صاروخيّة إسرائيليّة على أهدافٍ في العمق السّوري.
لماذا لم تحدث حرب بين إسرائيل وحزب الله؟
كانت لدى كلا الجانبين أسبابٌ مُقنِعة لعدم الصدام، بما في ذلك الذكرى المريرة -بالنسبة لحزب الله- لحملة القصف الإسرائيلية عام 2006، تلك التي حوَّلَت مناطق من لبنان إلى أنقاض.
كما يقع لبنان في قبضة انهيارٍ اقتصادي ومالي لا مثيل له في تاريخه الحديث، ولا يمكنه تحمُّل مواجهةٍ ضخمةٍ أخرى مع إسرائيل.
أما بالنسبة لإسرائيل، فتظلُّ الجماعة المدعومة من إيران في لبنان تمثِّل التحدي الأمني الأصعب والأكثر إلحاحاً.
وشكلت هجمات الحزب الصاروخية خلال حرب 2006 مشكلة لإسرائيل، وكذلك التوغل البري داخل لبنان.
فحتى أكثر المُتزمتين الإسرائيليين باتوا يُقرون بأن مجزرة الدبابات في وادي السلوك بالجنوب اللبناني، (صيف العام 2006)، كانت معركة مفصليّة من الناحية الاستراتيجيّة في تاريخ الصراع العربي-الإسرائيلي، إذ تعرض عدد لافت من الدبابّات "الميركافا" الإسرائيلية للتدمير والإعطاب أمام صواريخ حزب الله، رغم أنها تعتبر واحدة من أفضل الدبابات في العالم.
وقال عاموس يادلين، رئيس الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية السابق، الذي يترأس الآن معهد دراسات الأمن القومي: "تحتاج إسرائيل إلى إدارة الصراع في غزة بعيونٍ مفتوحة للغاية تجاه ما يحدث في الشمال، لأن الشمال يمثِّل ساحةً أهم بكثيرٍ من غزة". وقال عاموس هذا قبل أن تسري الهدنة في الثانية من صباح أمس الجمعة.
موقف حزب الله من حرب غزة.. هل أُطلقت الصواريخ بموافقته؟
كان موقف حزب الله من حرب غزة التي قصفت فيها إسرائيل على مدار 11 يوماً القطاع مخلفة الموت والدمار صامتاً نسبياً، حسب وكالة Associated Press.
لم يدلِ زعيم حزب الله حسن نصر الله بأيِّ تصريحاتٍ علنية، حتى بعد مقتل أحد مقاتلي حزب الله برصاص جنودٍ إسرائيليين على الحدود خلال مظاهرةٍ نُظِّمَت الأسبوع الماضي.
وفي وقتٍ متأخِّرٍ من أمس الأول الخميس 20 مايو/أيار، وافق مجلس الوزراء الأمني لنتنياهو على وقف إطلاق النار من جانبٍ واحد لوقف عملية غزة، وهو القرار الذي جاء بعد ضغوطٍ أمريكية شديدة لوقف الهجوم، وسرعان ما حذت حماس حذوها وقالت إنها ستحترم الهدنة.
الهدوء اللافت في وقف حزب الله من حرب غزة، لم يمنع من بضعة رسائل، إذ يُعتَقَد أن إطلاق الصواريخ على إسرائيل من قبل فصائل فلسطينية متمركزة في جنوب لبنان تم بمباركةٍ من الحزب، وفقاً للوكالة الأمريكية.
فطوال جولة القتال الأخيرة بدا أن موقف حزب الله من حرب غزة يقوم على إظهار التضامن -بما في ذلك القصفٌ صاروخي الذي لم يدَّعِ أحدٌ مسؤوليته عنه خلال ثلاث مراتٍ منفصلة من جنوب لبنان على إسرائيل.
ولكن هذا التضامن قد ضُبِطَ بعنايةٍ ليكون ذا تأثيرٍ محدود.
مقاتل بالحزب يُقتل خلال تظاهرة داعمة لغزة
وقالت جويس كرم، الأستاذة المساعدة في العلوم السياسية بجامعة جورج واشنطن: "موقف حزب الله من حرب غزة كان يقوم على إرسال رسالة سياسية مفادها "نحن هنا"، وأن سلامة إسرائيل من حدودها الشمالية ليست أمراً مفروغاً منه، ولا الردع الذي برز في عام 2006 مفروغ منه هو الآخر"، حين تقاتَلَ الطرفان ضد بعضهما.
على الحدود الإسرائيلية اللبنانية المتوتِّرة، نظَّمَ أنصار حزب الله احتجاجاتٍ يومية خلال الأسبوع الماضي. وفي مرةٍ واحدة على الأقل، اخترق عشرات الأشخاص السياج وعبروا إلى الجانب الآخر، وأطلق الإسرائيليون طلقاتٍ أصابت شاباً يبلغ من العمر 21 عاماً وقتلوه. حُدِّدَ لاحقاً أن الشاب مقاتلٌ في حزب الله، وأُقيمَت جنازةً كاملة حضرها المئات.
ولكن رغم هذه الرسائل بدا موقف حزب الله من حرب غزة ضعيفاً من حزب يقدم نفسه كقائد للمقاومة، ويتحكم في مصير اللبنانيين ويتدخل في شئون الدول الأخرى استناداً لهذا الإرث.
أوضاع لبنان الاقتصادية والمفاوضات النووية منعته من التصعيد
وقال مُحلِّلون إن فرص انضمام حزب الله إلى القتال ضد إسرائيل منخفضة، لاسيما بالنظر إلى الانهيار السياسي والاقتصادي الراهن في بيروت، وجملة التحديات التي يواجهها الحزب داخلياً، مع تصاعد التوتُّرات الاجتماعية. وحتى بين مؤيِّدي حزب الله لا توجد رغبةٌ في المواجهة حالياً، إذ يعاني اللبنانيون من انهيارٍ اقتصادي دفع نصف السكَّان إلى الفقر.
علاوة على ذلك، فإن موقف حزب الله من حرب غزة مرتبط بالملف النووي الإيراني، فطهران راعية حزب الله، منخرطةٌ في محادثاتٍ نووية مع الغرب، مع تزايد الآمال في إمكانية التوصُّل إلى اتفاق. وأجرت طهران محادثاتٍ مع خصمها الإقليمي منذ فترةٍ طويلة، المملكة السعودية، ما يشير إلى احتمال خفض التصعيد بعد سنواتٍ من العداء الذي امتدَّ في كثيرٍ من الأحيان إلى الدول المجاورة.
وقالت كرم، التي تغطي شؤون الشرق الأوسط لصحيفة The National، إن "حزب الله حتى الآن لا يميل إلى إفساد محادثات إيران مع القوى العالمية على صعيد المحادثات النووية، لأنه يريد تخفيف العقوبات على داعمه السياسي والعسكري والمالي الأساسي".
وفي حديثه في تجمُّعٍ حاشد في جنوب بيروت، يوم الإثنين 17 مايو/أيار، تفاخَرَ هاشم صفي الدين، المسؤول الكبير في حزب الله، بقوة الجماعة، والتي قال إنها تضاعفت عدة مرات منذ حرب 2006، لكنه أشار إلى أن الوقت لم يحن لتدخُّل حزب الله.
وقال مخاطباً الفلسطينيين، في إشارةٍ إلى وجود إسرائيل في العالم العربي: "نحن في حزب الله نتطلَّع إلى اليوم الذي سنقاتل فيه معاً، جنباً إلى جنبٍ، وكتفاً بكتف، على جميع الجبهات لاستئصال هذه الخلية السرطانية".
وأضاف: "هذا اليوم قادم ولا مفر منه".
لديه 130 ألف صاروخ، ولكنه لم يعد يرد
وقال مسؤولو دفاع إسرائيليون إن حزب الله نما بشكلٍ أقوى في العقد الماضي، وحشد جيشاً هائلاً يتمتَّع بخبرةٍ قتالية مهمة في دعم قوات الرئيس السوري بشَّار الأسد في الحرب الأهلية في الدولة المجاورة.
وخلال الحرب التي دامت شهراً في عام 2006، أطلق حزب الله حوالي 4 آلاف صاروخ على إسرائيل، معظمها صواريخ غير مُوجَّهة وذات مدى محدود. واليوم يقول مسؤولون إسرائيليون إن حزب الله يمتلك حوالي 130 ألف صاروخ وقذيفة قادرة على ضرب أيِّ مكانٍ في إسرائيل تقريباً.
ومع ذلك، قال يادلين، رئيس الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية السابق، إن جميع التقييمات الاستخباراتية بشأن موقف حزب الله من حرب غزة تشير إلى أن الحزب لا يريد صراعاً كاملاً مع إسرائيل.
وقال يادلين: "نصر الله في موقفٍ لا يريد فيه تكرار خطأ عام 2006. إنه يعلم أنه لن يكون مدافعاً عن لبنان، بل سيكون مُدمِّراً له"، وهذا كان العامل الرئيسي وراء موقف حزب الله من حرب غزة الأخيرة.
وأضاف: "كان هناك العديد من المناسبات لو أراد إشعال حرب مع إسرائيل، ولكنه لم يستغلها". وأشار يادلين إلى الضربات الإسرائيلية التي استهدفت أصول حزب الله في سوريا، والتي تعهَّد الحزب بالردِّ عليها، لكنه لم يرد بعد.
واتفق قاسم قصير، المُحلِّل والخبير في شؤون حزب الله في لبنان، على أنه لا يبدو أن هناك نيةً لفتح الجبهة الجنوبية، لأنها "ستؤدِّي إلى حربٍ شاملة مع عواقب لا يمكن لأحدٍ التنبؤ بها".
وفي الوقت الحالي، تعتبر إسرائيل وحزب الله أن الردع الذي برز في أعقاب عام 2006 قائم، إذ يهدِّد حزب الله بضربٍ أعمق من أيِّ وقتٍ مضى داخل إسرائيل، بما في ذلك منشآته النووية، وتتعهَّد إسرائيل باستهداف البنية التحتية المدنية وإلحاق أضرار جسيمة.
وقالت كرم إن حزب الله وإسرائيل يقولان منذ عام 2006 إن الجولة التالية من القتال حتمية، لكن تكلفتها ارتفعت بالنسبة للطرفين. وفي الوقت الحالي، يبدو أن الطرفين راضيان عن استمرار التوتُّرات بينهما على الأراضي السورية، بدلاً من خوض حرب أخرى في لبنان.
لكن كلَّ يومٍ يقرِّب من احتمال نشوب صراعٍ غير مرغوب فيه. وأضافت كرم: "في الوقت الحالي يبدو أن هذا النموذج ثابت".
موقف حزب الله من حرب غزة الذي اتسم بالتأني، قد يكون أنقذ لبنان من كارثة محققة، ولكنه أيضاً، سيعزز الانتقادات الموجهة له عربياً بأنه تخلى عن مقاومة إسرائيل بينما أصبح جهده الأساسي مجنداً فقط لخدمة الأجندة الإيرانية للسيطرة على الدول العربية أو مشاكستها.