خلال الحرب الأخيرة بين غزة وإسرائيل التي أعلن عن وقف إطلاق النار فيها في الساعات الأولى يوم الجمعة 21 مايو/أيار 2021، برز العديد من المواقف التي تبدو غير معهودة مثل موقف بعض النواب الأمريكيين مثل بيرني ساندرز الذي طالب بوقف الحرب على غزة، وهذا أمر غير متكرر في الولايات المتحدة، كانت بعض المواقف الأوروبية مثيرة للجدل أيضا مثل الموقف الألماني الذي دعم وتضامن مع إسرائيل!
فما السبب في تغير موقف بعض الدول الأوروبية من القضية الفلسطينية بعدما كان الكثير من هذه الدول يتضامن مع الفلسطينيين وحقهم في أرضهم؟
في الأسبوع الماضي، اتَّخَذَ المستشار النمساوي سيباستيان كورتس قراراً غير عادي برفع العلم الإسرائيلي على المباني الرسمية تضامناً مع إسرائيل ضد حماس. وقال المستشار المحافِظ: "أدين بأقصى درجات الحزم الهجمات ضد إسرائيل من قطاع غزة. لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها ضد هذه الهجمات".
ومن المعروف أن كورتس كان يتملَّق إسرائيل في السنوات الماضية، على الأرجح من أجل أن يصرف النقد عن تحالفه مع حزب الحرية اليميني المتطرِّف في النمسا، بحسب تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية.
وفي يوم الأربعاء، 19 مايو/أيار، وافق المجلس الأوروبي، باستثناء المجر، على قرارٍ يدعو إلى وقف إطلاق النار، لكن المستشار النمساوي ليس بعيداً عن الزعماء الأوروبيين في الإعراب عن دعمهم لإسرائيل.
منذ بداية هذه الحرب، كان القادة الأوروبيون صريحين في التعبير عن دعمهم لحقِّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها. ووصفت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل صواريخ حماس بأنها "هجماتٌ إرهابية"، وردَّدَت الطبقة السياسية من اليسار واليمين، في خضم حملةٍ برلمانية، دعمها لإسرائيل. ووصفت مرشَّحة حزب الخضر أنالينا بربوك الأمن الإسرائيلي بأنه مرتبطٌ بـ"المصلحة الوطنية للدولة الألمانية الحديثة". واعترف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بهذه التصريحات الداعمة، ووجَّه الشكر للرئيس الأمريكي جو بايدن، إضافة إلى القادة الأوروبيين، وتحديداً "رئيس فرنسا، ورئيس الوزراء البريطاني، ومستشار النمسا، ومستشارة ألمانيا، وآخرين". وأضاف نتنياهو: "لقد أيَّدوا حقنا الطبيعي والثابت في الدفاع عن أنفسنا، والعمل دفاعاً عن النفس ضد هؤلاء الإرهابيين الذين يهاجمون المدنيين ويختبئون وراء المدنيين".
من البرود إلى التضامن!
وبحسب المجلة الأمريكية، لم يكن هذا هو الحال دائماً. اشتهرت علاقات الاتحاد الأوروبي بإسرائيل بالبرود منذ عقودٍ من الزمن. خلال الانتفاضة الثانية، بذل الاتحاد الأوروبي جهداً لموازنة احتضان إدارة جورج دبليو بوش لحكومة شارون. وكان الرأي العام معادياً. وفي استطلاعٍ للرأي عام 2003 أثار الكثير من الجدل، وصف 59% من الأوروبيين إسرائيل بأنها أخطر تهديدٍ للسلام العالمي. كانت الاحتجاجات والدعوات للمقاطعة شائعةً، ومع ذلك، يتغيَّر المزاج الآن.
في السنوات الأخيرة، عمل نتنياهو بنشاطٍ على تنمية العلاقات مع قادة أوروبا، وخاصةً على الجانب غير الليبرالي، إذ اعتبرهم حلفاءً طبيعيين. واستُقبِلَ رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان بترحيبٍ حارٍّ في القدس عام 2018، وهي الزيارة التي تعرَّضَت لانتقاداتٍ محلية بسبب التاريخ اليميني المتطرِّف لرئيس الوزراء في مغازلة معاداة السامية وإنكار الهولوكوست.
وزار قادةٌ شعبويون أوروبيون آخرون، مثل نائب رئيس الوزراء الإيطالي آنذاك ماتيو سالفيني، إسرائيل في عام 2018. وأدان المؤرِّخ الإسرائيلي زئيف ستيرنهيل ما اعتبره رغبةً لدى نتنياهو في تصوير نفسه كـ"جزءٍ لا يتجزَّأ من هذه الكتلة المناهضة لليبرالية". لكن اللهجة الأوروبية الأكثر ودية تجاه إسرائيل لا يمكن تفسيرها فقط من خلال علاقة نتنياهو الوثيقة مع عددٍ قليلٍ من القادة الأوروبيين غير الليبراليين مثل أوربان. كلُّ أوروبا تتحرَّك.
يمكن لمزيجٍ من الأسباب الاقتصادية والجيوسياسية والمحلية أن يفسِّر هذا التحوُّل التدريجي الذي لا يمكن إنكاره.
لماذا غابت القضية عن أوروبا؟
لم يغيِّر الأوروبيون موقفهم الرسمي من الصراع ولا يزالون يؤيِّدون استئناف عملية السلام وإنهاء الاحتلال وحل الدولتين ضمن حدود 1967 كطريقٍ للمُضي قُدُماً. والاتحاد الأوروبي هو أقدم مُزوِّدٍ للمساعدات لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، والسلطة الفلسطينية.
فقط جمهورية التشيك والمجر هما من اتَّبَعَتا خطوة إدارة ترامب السابقة بالاعتراف بالقدس عاصمةً لإسرائيل، بينما تعترف دولٌ أوروبية بفلسطين كدولة. لكن القضية الفلسطينية حُذِفَت من الأولويات في مجمل العلاقات.
هذا أولاً بسبب الطبيعة المتغيِّرة للشرق الأوسط. على الرغم من التصاعد الأخير في أعمال العنف، من النادر اليوم العثور على دبلوماسيٍّ أوروبي يدَّعي أن القضية الفلسطينية هي مفتاح حل جميع التوتُّرات والصراعات في المنطقة، وهي وجهة نظر شبه دينية في أنظمة الحكم الأوروبية في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. ولقد أدَّى الربيع العربي، والحرب الأهلية السورية (بما في ذلك الهجمات الإرهابية وزيادة الهجرة)، والملف النووي الإيراني إلى تغيير الأولويات في الشرق الأوسط.
وعلى الرغم من الاستقبال العام الفاتر، اعترف العديد من الدبلوماسيين الأوروبيين سراً بأن اتفاقات أبراهام أضافت مسماراً آخر في نعش تركيز أوروبا على إسرائيل وفلسطين. وبعد الاتفاقات في العام الماضي، دُعِيَ وزير الخارجية الإسرائيلي غابي أشكيناز لحضور المجلس الأوروبي في برلين، وهي المرة الأولى التي يُمنَح فيها هذا التكريم لدبلوماسيٍّ إسرائيلي.
ولطالما حفَّزَت اكتشافات الطاقة في شرق البحر المتوسِّط تعاوناً عميقاً بين اليونان وقبرص وإسرائيل ومصر ضد تركيا المجاورة. وفي أبريل/نيسان، أعلنت اليونان وإسرائيل عقداً دفاعياً قياسياً بقيمة 1.65 مليار دولار، بعد اجتماعٍ بين وزراء خارجية الإمارات واليونان وقبرص وإسرائيل.
في الوقت نفسه، بدأ الأداء الاقتصادي والتكنولوجي لإسرائيل في جذب الاهتمام الأوروبي، كانت إسرائيل أول دولة غير أوروبية ترتبط بسلسلةٍ من الهيئات العلمية في الاتحاد الأوروبي مثل البرامج الإطارية للبحث والتطوير التكنولوجي والمنظمة الأوروبية للأبحاث النووية.
وهي أيضاً جزءٌ من نظام الملاحة العالمي التابع للاتحاد الأوروبي. وبعد فترةٍ وجيزةٍ من انتخاب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عام 2017، زار وزيرا الاقتصاد والشؤون الرقمية الفرنسيان تل أبيب، حيث مهرجان الابتكار الإسرائيلي، قبل أشهرٍ من زيارة وزير الخارجية لإسرائيل.
وفي عام 2011، أعلنت فرنسا شراء طائراتٍ مُسيَّرة من طراز Herom بقيمة 500 مليون دولار، منتهكةً بذلك الحظر المفروض على الأسلحة لمدة 44 عاماً والذي بدأه الرئيس الفرنسي آنذاك شارل ديغول بعد حرب الأيام الستة عام 1967. وفي عام 2018، سارت ألمانيا في المسار نفسه بعد أن وافق البوندستاغ على استئجار طائراتٍ إسرائيلية مُسيَّرة لمدة تسع سنوات، وهو عقدٌ بقيمة 1.2 مليار دولار أشاد به نتنياهو باعتباره "يساهم في الأمن الأوروبي".
وفي عام 2020، كلَّف الاتحاد الأوروبي شركة إيرباص وشركتي طيران وفضاء إسرائيليَّتين بتحليق طائراتٍ مُسيَّرة فوق البحر المتوسِّط لمراقبة سفن تهريب المهاجرين.
وقف إطلاق النار
وفي الساعات الأولى من يوم الجمعة أعلنت حركة حماس الانتصار على إسرائيل في التصعيد الذي استمر 11 يوماً، مكذبة مزاعم تل أبيب بتدمير قدرات جهازها العسكري، وشبكة الأنفاق التابعة لها، فيما أعلن رئيس الوزراء الفلسطيني محمد اشتية تجهيز شكوى بهدف رفعها إلى المحكمة الجنائية الدولية حول الجرائم التي ارتكبتها تل أبيب في عدوانها الأخير على قطاع غزة.
وفي خطاب أمام المحتفلين الذين احتشدوا بالآلاف رافعين رايات حماس ومردّدين هتافات مؤيّدة للحركة ومناهضة لإسرائيل، قال القيادي خليل الحيّة: "نحن نحتفل بهذا النصر، ونقول للاحتلال إن عدتم عُدنا".
وأضاف كذلك: "نقول للعدو الذي يدّعي الانتصار، أيها العدو لقد انتصرت على أشلاء الأطفال والنساء".
وعن الدمار الذي خلفه القصف الإسرائيلي: "نقول لأهلنا الذين دُمّرت بيوتهم والذين شُرّدوا، سنبني البيوت التي دمّرها الاحتلال وسنعيد البسمة".
ومنذ 13 أبريل/نيسان الماضي، تفجرت الأوضاع في الأراضي الفلسطينية المحتلة، جراء اعتداءات "وحشية" ارتكبتها الشرطة الإسرائيلية ومستوطنون في مدينة القدس المحتلة، وخاصة المسجد الأقصى ومحيطه، وحي "الشيخ جراح" (وسط)، إثر مساعٍ إسرائيلية لإخلاء 12 منزلاً من عائلات فلسطينية وتسليمها لمستوطنين.
على الجانب الآخر، أطلقت الفصائل الفلسطينية ما يزيد على 4 آلاف صاروخ تجاه مدن جنوب ووسط إسرائيل، أسفرت عن مقتل 12 إسرائيلياً وإصابة نحو 330 آخرين، بحسب قناة "كان" الرسمية.
كما أدى إطلاق الرشقات الصاروخية من قطاع غزة إلى إدخال ملايين الإسرائيليين إلى الملاجئ ووقف حركة القطارات بين مدن وسط وجنوب البلاد، وتعليق هبوط وإقلاع الرحلات الجوية لفترات بمطار بن غوريون الدولي بتل أبيب.