مع اضطراب القيادة الإسرائيلية في تعيين أهداف محددة لحرب غزة، يمكنها التباهي بتحقيقها مثل اغتيال قائد الجناح العسكري لـ"حماس" محمد الضيف، ركزت بعض المصادر الإسرائيلية على تأكيد نجاح تل أبيب في إلحاق ضرر جسيم بشبكة أنفاق المقاومة في غزة، التي تسميها "مترو حماس".
وتزعم إسرائيل أنها دمرت كثيراً من شبكة أنفاق المقاومة بقطاع غزة في قصف مكثفٍ، ليل الخميس 14 مايو/أيار 2021.
إذ قصفت المروحيات والطائرات النفاثة والزوارق الحربية والمدفعية، الأجزاء الشمالية والشرقية من غزة بأكثر من 1000 قنبلة وقذيفة كجزء من عملية "معقدة" لتدمير أنفاق حماس تحت مدينة غزة.
ودفع أطفال غزة ثمن هجوم إسرائيلي خاطف على مترو حماس، وقع في بداية الحرب، واستخدمت فيه إسرائيل كمّية هائلة من القنابل، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Times البريطانية.
بينما يؤكد يحيى السراج، رئيس بلدية مدينة غزة، أن الضربات الإسرائيلية لم تستهدف المواقع العسكرية وبدلاً من ذلك أصابت الطرق والبنية التحتية المدنية، مما أرجع الاقتصاد لسنوات إلى الوراء. ووصف الضربات بأنها عقاب جماعي، وطالب المجتمع الدولي بوقف الاعتداءات على البنية التحتية الحيوية في غزة.
وجاء هذا الهجوم العنيف بعد صدور خبر زائف من قيادة الجيش الإسرائيلي في بداية حرب غزة، بأن قواته قد دخلت إلى القطاع، والهدف كان حسب المصادر الإسرائيلية، هو خداع مقاتلي حماس؛ لدفعهم إلى الاختباء في الأنفاق، وبالتالي توجيه ضربة لهم سواء خلال دخولهم وخروجهم من الأنفاق أو خلال وجودهم فيها، (حيث تختلف الروايات الإسرائيلية في هذا الشأن).
كما تختلف الروايات الإسرائيلية بشأن نجاح هذه الخدعة، فتحدث البعض عن فضيحة تسبب بها هذا الخبر الزائف، في حين تحدث تقرير لصحيفة The Jerusalem Post الإسرائيلية، المحسوبة على اليمين الإسرائيلي، عن نجاح عملية القصف في استشهاد عدد كبير من المقاومين.
بينما قال رئيس تحرير صحيفة Haaretz الإسرائيلية اليسارية، ألوف بن، إن الخدعة الفاشلة لم تنجح، لأنه على ما يبدو لم يكن هناك عدد كبير من مقاتلي حماس داخل الأنفاق التي قُصِفَت.
وأضاف ألوف بن، أن تدمير أنفاق مترو حماس بقنابل قوية كشف القدرات الاستراتيجية لإسرائيل دون أن يتسبب في أي ضرر كبير لقدرات القتال لدى الحركات الفلسطينية.
وفي غارة أخرى، قال المقدم جوناثان كونريكوس، المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، إن 160 طائرة، لإضافة إلى المدفعية والوحدات المدرعة (من خارج القطاع)، شاركت فيما وصفه بأكبر عملية قصف ضد هدف محدد منذ بدء القتال.
وقال في إفادة صحفية: "ما كنا نستهدفه هو نظام متطور من الأنفاق يمتد تحت غزة، ومعظمها في الشمال".
فما قصة شبكة أنفاق مترو حماس؟ ولماذا تخشاها إسرائيل لهذا الحد؟ وما الحقيقة في الروايات الإسرائيلية المتضاربة حول إلحاق ضرر كبير بها؟
تخشى إسرائيل هذه الأنفاق لأسباب عدة، منها:
أولاً: أنفاق المقاومة في غزة هي الوسيلة الأساسية للحصول على السلاح من الخارج، بل تعد وسيلة مهمة لغزة للحصول على البضائع في ظل القيود المفروضة على القطاع من مصر وإسرائيل، ولكن يُعتقد أن دور الأنفاق كمصدر للسلاح والسلع قد تراجع في ضوء الجهود المصرية لتدميرها، كما تحسنت العلاقة بين حماس والقاهرة؛ مما أدى إلى تخفيف القيود المصرية على القطاع، إضافة إلى تزايد اعتماد حماس على نفسها في تصنيع السلاح، إلى جانب تقارير تفيد بتزايد الاعتماد على البحر في الحصول على السلاح، حيث يتم إلقاء الأسلحة معبّأة في أغلفة قبالة ساحل غزة، بحيث يتم حساب حركة الأمواج والرياح والتيارات البحرية لتصل إلى القطاع، وهي طريقة يكاد يستحيل على إسرائيل وقفها، حسبما ورد في تقرير لموقع Al-monitor.
ثانياً: الأنفاق أداة المقاومة الرئيسية لحماية أسلحتها لاسيما الصواريخ، وحتى قادتها وقواتها ومراكزها من غارات الطيران الإسرائيلي.
ثالثاً: الأنفاق وسيلة للهجوم على الجيش الإسرائيلي في حالة توغله داخل غزة، في ظل تفوق إمكاناته العسكرية، لاسيما الدبابات.
رابعاً: الأنفاق وسيلة بإمكان المقاومة التسلل عبرها إلى الداخل الإسرائيلي؛ للقيام بعمليات عسكرية مباغتة قد تشمل الهجوم على مواقع إسرائيلية أو القبض على أسرى كما حدث من قبل مع جلعاد شاليط، ويعد هذا السبب واحداً من أكثر عوامل القلق لدى إسرائيل من الأنفاق، رغم أنها بذلت جهداً كبيراً لمنع ذلك عبر تشييد حائط في باطن الأرض على الحدود مع قطاع غزة مزود بمستشعرات؛ لكشف حفر الأنفاق.
وفي هذا الإطار، زعم رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، أن حركة المقاومة الإسلامية "حماس" قامت بإنشاء بنى تحتية واسعة النطاق تحت قطاع غزة، واستخدمت مناطق مأهولة لتخزين أسلحة وشن هجمات على إسرائيل.
وبصفة عامة، على الرغم الجهود الإسرائيلية التي نجحت أحياناً في التصدي لـ"مترو حماس"، فإن الأنفاق تمثل واحدة من أهم استراتيجيات حماس العسكرية، وبينما تسمى إسرائيل شبكة الأنفاق "مترو حماس" أو "مترو غزة"، يسميها البعض في القطاع "غزة التحتانية".
كيف بدأت فكرة الأنفاق؟
ظهرت الأنفاق لأول مرة في غزة رداً على الحصار الإسرائيلي المفروض بعد تولي حماس السلطة.
في البداية، تم استخدامها لتهريب البضائع إلى الجيب وتمييز المشاريع غير المشروعة بدلاً من النزعة العسكرية، حسبما ورد في تقرير لصحيفة Washington Post الأمريكية.
لكن سرعان ما تم استخدامها لأغراض أخرى.
ففي عام 2006، استخدمت حماس نفقاً لأسر الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط. واحتُجز شاليط لمدة خمس سنوات قبل إطلاق سراحه في إطار صفقة تبادل أسرى عام 2011.
وكانت الأنفاق من بين أكثر أدوات حماس فاعلية خلال حرب 2014 مع إسرائيل، حيث استخدمها المسلحون لنقل الأسلحة، ودخول إسرائيل، ونصب الكمائن لجنود الجيش الإسرائيلي، وفي بعض الأحيان حتى العودة إلى غزة عبر ممرات تحت الأرض.
حددت إسرائيل شبكة الأنفاق تحت الأرض باعتبارها تهديداً خلال الجولة الأخيرة من القتال في عام 2014؛ مما دفع الجيش الإسرائيلي إلى شن غزو بري لغزة؛ للعثور على الممرات المؤدية إلى الأراضي الإسرائيلية وتدميرها.
وكان توغل إسرائيل وقصفها لهذه الأنفاق أحد أسباب مجزرة الشجاعية التي راح ضحيتها نحو 74 فلسطينياً، كما أن التوغل كان كارثة للجيش الإسرائيلي.
وقال اللفتنانت كولونيل بيتر ليرنر، المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، في عام 2014: "عندما دخلنا الشجاعية استقبلتنا صواريخ مضادة للدبابات وقذائف آر.بي.جي ونيران أسلحة ثقيلة كثيفة أُطلقت على القوات من المنازل ومن المباني المحيطة".
وآنذاك نزح عشرات الآلاف من الحي، وتعرض الجيش الإسرائيلي لأكبر خسارة بشرية له منذ حرب لبنان 2006، ولكن لم يقضِ ذلك لا على المقاومة ولا أنفاقها.
أين تقع هذه الأنفاق؟
تتفرع شبكة الأنفاق أو ما تسميه إسرائيل مترو حماس الآن عشرات الكيلومترات عبر قطاع غزة، لتصل إلى مدن خانيونس وجباليا ومخيم الشاطئ. ويعتقد أنها تمتد أيضاً إلى إسرائيل.
وتستخدم الجماعات الفلسطينية شبكة الأنفاق لإخفاء الصواريخ والذخائر الأخرى، وتسهيل الاتصال داخل منظماتها، وإخفاء المسلحين، وشن الهجمات.
ويُعتقد أن بعض الأنفاق الأكثر تكلفة يصعب اكتشافها، وتركز إسرائيل على أنفاق مترو حماس الواقعة في شمال غزة لأنها تمثل خطراً أكبر في حال توغل الجيش الإسرائيلي أو أنها قد وسيلة لاختراق الأراضي الإسرائيلية.
والأنفاق داخل مترو حماس معززة بالخرسانة؛ لحمايتها من الضربات الجوية ومن الانهيار، حسب صحيفة Dailymail البريطانية.
حماس تستخدم آلات حفر ثقيلة واكتشاف نفق يمتد كيلومترات تحت إسرائيل
في عام 2015، بدأت حماس باستخدام الآلات الثقيلة، وضمن ذلك الجرافات والجرارات، وكذلك الأدوات الهندسية؛ لتسريع بناء الأنفاق.
وذكرت صحيفة صنداي تلغراف البريطانية في ذلك الوقت، نقلاً عن مصادر استخباراتية، أن إعادة الإعمار موَّلتها إيران إلى حد كبير. كما قدمت طهران الصواريخ والقذائف؛ لتجديد ترسانة حماس.
في عام 2018، أعلن الجيش الإسرائيلي أنه اكتشف ودمَّر أطول وأعمق نفق حفرته حركة حماس، ويُزعم أن النفق، الذي تقول إسرائيل إنه تكلف الملايين من أجل بنائه، بدأ أسفل قطاع غزة وامتد "لعدة كيلومترات" حتى داخل الأراضي الإسرائيلية.
وتقول إسرائيل إنَّ هذا النفق جاء من المنطقة الشمالية من جباليا، وكان يتم حفره في اتجاه مجتمع ناحال عوز بإسرائيل، وكان مرتبطاً بالعديد من الأنفاق الأخرى داخل غزة.
أكبر مما كان لدى الفيتناميين
تفاخر مسؤولو حماس بحجم شبكة الأنفاق الخاصة التي يحويها مترو حماس، حيث قال زعيم حماس، إسماعيل هنية، في عام 2016 (قبل أن يصبح رئيس المكتب السياسي لحماس)، إن الحركة لديها ضعف عدد الأنفاق التي استخدمتها القوات الشيوعية ضد القوات الأمريكية في حرب فيتنام.
تُعلق صحيفة الواشنطن بوست قائلةً: "قد تكون هذه مبالغة، لكن أولئك الذين درسوا النظام يشيرون إلى أنه معقد".
ففي ورقة حديثة، قال رامي أبو زبيدة من المعهد المصري للدراسات، إن المقابلات مع المسلحين كشفت عن مجموعة متنوعة من الأنفاق المستخدمة لأسباب استراتيجية، من ضمنها تلك المستخدمة للقتال، وتلك التي يمكن أن تتجمع فيها قيادات المقاومة، وغيرها حيث يتم تخزين الصواريخ والأسلحة، كما أن هناك أيضاً أنفاقاً أصغر تُستخدم للنقل السريع.
كيف تتعامل إسرائيل مع الأنفاق؟
إنها تبني حائطاً مضاداً
حاولت إسرائيل منذ حرب 2014 البحث عن وسائل أكثر فعالية للتصدي لأنفاق حماس في غزة وتدميرها، منها بناء جدار طيني ضخم تحت الأرض على طول القطاع؛ لمنع المقاومين من بناء أنفاق "هجومية".
بدأ بناء المشروع الذي تبلغ تكلفته ثلاثة مليارات شيكل (640 مليون جنيه إسترليني) في منتصف عام 2017 وانتهى في مارس/آذار 2021.
ورفض المسؤولون الإسرائيليون الإفصاح علانية عن مدى عمق الجدار، ولكن يُعتقد أن عمقه نحو ثمانية أمتار ويمتد لمسافة 41 ميلاً على طول الحدود بين إسرائيل وغزة، وهو مزود بأجهزة استشعار الحركة المصممة للكشف عن عمليات حفر الأنفاق.
في أكتوبر/تشرين الأول 2020، رصدت أجهزة استشعار للحركة مثبتة على الجدار نفقاً من مدينة خانيونس جنوبي غزة يمتد عشرات الأمتار داخل الأراضي الإسرائيلية.
وتستخدم أسلحة سرية، بعضها مخصص لإيران
قال مسؤول إسرائيلي إن سلاح الجو الإسرائيلي كان يضرب "نقاط الاختناق" (النقاط المفصلية) في مترو حماس وليس نظام الأنفاق بأكمله.
وقال مسؤول ترأس قسم الحرب السرية في الوحدة التكنولوجية للجيش الإسرائيلي، للصحفيين، متحدثاً على هامش مؤتمر لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية (إيباك) في واشنطن عام 2018، إن إسرائيل لديها تقنيات جديدة متطورة للعثور على الأنفاق لكنه رفض الحديث عن التفاصيل.
كما تمتلك إسرائيل العديد من الأسلحة القادرة على ضرب ما تحت الأرض، وقد تم تطوير العديد منها في الأصل للتعامل مع المخابئ الإيرانية.
هل نجحت إسرائيل في إفساد استراتيجية حماس؟
تجب ملاحظة أن حماس تنبهت مبكراً إلى أن إسرائيل استطاعت التصدي للأنفاق التي تخترق أراضيها، ولهذا، وحسب تقارير إسرائيلية، فإنها باتت تركز على تطوير الطائرات المسيَّرة والصواريخ؛ لعلمها بصعوبة استخدام الأنفاق كسلاح هجومي.
أما أنفاق المقاومة في غزة نفسها كوسيلة للحماية والتحصن، فكما سبق الإشارة، فإن التقارير الإسرائيلية متضاربة بشأن نجاح عمليات قصف الأنفاق خلال الحرب الحالية، والأهم أن هناك تقارير تفيد بأن حماس لم تبتلع الطعم (حماس نفت وجود غزو بري وقتها).
كما أنه من الواضح أن تأثير الغارة التي أعقبت خدعة الغزو، كان محدوداً، بسبب قلة مقاتلي حماس الموجودين في الأنفاق، وفي الوقت ذاته أدت الغارة إلى كشف قدرات القنابل الإسرائيلية في القصف، حسب تقرير صحيفة هآرتس. المشار إليه سابقاً، وبالتأكيد، ستدرس حماس قوة هذه القنابل؛ لتحصين الأنفاق لتحمُّلها.
كما أن مصادر الجيش الإسرائيلي عندما تتحدث في التفاصيل في عمليات قصف مترو حماس، فإنها تقر بأنها تستهدف نقاطاً معينة في الأنفاق، وليس كلها (على الأغلب مَواطن الخروج والدخول)، ومن ثم يمكن ترميم الأنفاق.
الأهم أن مسؤولاً في سلاح الجو الإسرائيلي قال إن حماس ما زالت تملك صواريخ كافية والقدرة على مواصلة مهاجمة إسرائيل فترة طويلة، وهذا يعني اعترافاً إسرائيلياً بأن المقاومة مازالت تخبّئ صواريخ في الأنفاق، وهو ما يعني اعترافاً غير مباشر بمحدودية الضرر الذي لحِق بأنفاق المقاومة في غزة أو ما تسميه إسرائيل بـ"مترو حماس".