شن قادة إسرائيل نحو أربع حروب على قطاع غزة، إضافة إلى عشرات العمليات العسكرية الصغيرة، واعدين شعبهم بأنهم سيقضون على المقاومة الفلسطينية، في القطاع المحاصر، ولكن اليوم أصبحت هذه المقاومة تقصف تل أبيب العاصمة الفعلية لإسرائيل، وتتسبب في إغلاق مطارها.
وعلى مدى أكثر من عقد من الزمن، عندما كان المحللون يصفون الاستراتيجية التي تستخدمها إسرائيل ضد الفصائل الفلسطينية المسلحة في قطاع غزة، استخدم هؤلاء وصفاً مجازياً: في ظل توظيف تل أبيب قوة عسكرية هائلة، كان يقولون إن القوات الإسرائيلية "تجز العشب"، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Washington Post الأمريكية.
تشير هذه العبارة إلى الفصائل الفلسطينية المسلحة في قطاع غزة، وتشبّههم، هم وإمداداتهم وتجهيزاتهم من الأسلحة البدائية محلية الصنع، لكنها فعالة، بالعُشب الذي تكون هناك ضرورة لجزّه.
واجهت هذه التكتيكات انتقادات كبيرة من جماعات حقوق الإنسان الدولية، وفي الغالب بسبب الأعداد غير المتناسبة من الوفيات التي يتسبب فيها هجوم القوات الإسرائيلية، مقارنة بأعداد الوفيات التي تتسبب فيها الفصائل الفلسطينية المسلحة أثناء الصراع.
وبينما شنت إسرائيل غارات جوية مدمرةً، هذا الأسبوع، مستهدفةً الفصائل المسلحة في غزة وحشدت قواتها بالقرب من حدود القطاع، رداً على الصواريخ التي انطلقت من غزة في اتجاه إسرائيل -وبررت هجومها بذكرٍ متكرر لوجود تكنولوجيا صاروخية جديدة تُستخدم ضدها وأنفاق حماس والوفيات بين صفوف المدنيين الإسرائيليين- يبدو أن النتائج طويلة الأمد لاستراتيجية "جز العشب" صارت موضع تساؤل، لدى الإسرائيليين.
ولكن بينما يشير عديد من الليبراليين الإسرائيليين إلى أن تحقيق السلام عبر المفاوضات هو ما نحتاجه، يقول بعض المحافظين إنَّ تحرك الجيش الإسرائيلي، فقط هو ما سيحل الموقف.
لماذا انسحبت إسرائيل من قطاع غزة؟
صار قطاع غزة، الذي تبلغ مساحتة 140 ميلاً مربعاً ويطل على البحر المتوسط وتتاخم حدوده الحدود المصرية، تحت سيطرة إسرائيل في عام 1967 بعد نكسة 1967. ومع أن بعض المستوطنين الإسرائيليين انتقلوا للعيش في أراضي القطاع، لم تكن هناك حماسة كبيرة لدى بعض الساسة فيما يتعلق بالسيطرة على أراضي غزة.
نُقل عن رئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل إسحق رابين، قوله في عام 1992: "أود أن تغرق غزة في البحر، ولكن لن يحدث ذلك، ويجب العثور على حل".
بعد اتفاقات أوسلو في عام 1993، صارت أغلب أجزاء القطاع تحت سيرة السلطة الفلسطينية التي كانت جديدةً آنذاك. لكن المنطقة شهدت انتشار الاحتجاجات في أعقاب بدء الانتفاضة الثانية في عام 2000، وبدأت القوات الإسرائيلية بناء حواجز بين غزة وإسرائيل، وحدث ذلك أيضاً على الحدود مع مصر.
في عام 2005، قررت إسرائيل بقيادة رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك أرييل شارون، "فك ارتباطها" بغزة، ولم يقتصر الأمر على سحب قواتها العسكرية من المنطقة، بل نقلت كذلك إلى داخل إسرائيل 8 آلاف إسرائيلي كانوا يعيشون في معسكرات الاستيطان بالمنطقة.
أما حماس، التي ظهرت لأول مرة خلال الانتفاضة الأولى عام 1987، بوصفها الجناح الفلسطيني لجماعة الإخوان المسلمين في مصر، واستخدمت تكتيكات مقاومة عنيفة ضد الاحتلال الإسرائيلي، فقد فازت بالانتخابات في 2006.
وأعقب تشكيل حماس للحكومة فرض حصار دولي عليها، رغم الإشادة الدولية بنزاهة الانتخابات، وإضافة إلى الحصار الخارجي، تعرض وزراء حماس لمضايقات من قِبل موظفي السلطة.
أطلقت هذه الخطوة صراعاً على السلطة مع حركة فتح، وهي حركة موجودة منذ وقت طويل، أسسها الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، وتُوِّج هذا الصراع بسيطرة حماس على قطاع غزة، فيما أبقت فتح على سيطرتها على الضفة الغربية.
كيف نشأت استراتيجية "جز العشب"؟
فرضت إسرائيل حصاراً على غزة بعد سيطرة حماس على القطاع، فيما أطلق الجناح العسكري للحركة، المعروف بكتائب القسام، صواريخ بدائية في عمق الأراضي الإسرائيلية. وفي الأعوام الـ15 التالية، استعر العنف بصورة دورية بين الجانبين.
كتب الخبيران الإسرائيليان لدى مركز بيغن السادات للأبحاث الإستراتيجية، إفرايم إنبار وإيتان شامير، مقالاً في عام 2014، قالا فيه: "ضد عدو عنيد وراسخ غير ممثل بدولة، مثل حماس، تحتاج إسرائيل بكل بساطة إلى (جز العشب) مرةً كل مدة؛ لتجريد العدو من قدراته. لعل حرب الاستنزاف ضد حماس هي مصير إسرائيل على المدى الطويل".
دخلت إسرائيل وحماس في قتال واسع النطاق عدة مرات على مدى الأعوام السابقة، وهي حروب أطلقت عليها القوات الإسرائيلية عملية الرصاص المصبوب 2008-2009، وعامود السحاب في 2012، وعملية الجرف الصامد في 2014، حيث تخوض قوات المشاة الإسرائيلية أنشطتها في أعقاب غارات جوية مكثفة.
برر المسؤولون الإسرائيليون الغارات والغزو بالحاجة إلى تدمير مخزون الصواريخ الذي تستخدمه حماس وحركة الجهاد الإسلامي، وهي تنظيم عسكري أصغر بالقطاع. في عام 2001، كشفت إسرائيل كذلك عن منظومتها الدفاعية قصيرة المدى، المعروفة باسم "القبة الحديدية"، والتي تدّعي أنها تحقق نجاحاً بنسبة 90% في التصدي للصواريخ والقصف المدفعي القادم من قطاع غزة.
كذلك تستهدف الغارات الأنفاق التي حفرتها الفصائل الفلسطينية المسلحة للدخول إلى الأراضي الإسرائيلية، وذلك حسب المسؤولين الإسرائيليين. في عام 2014، قال المسؤولون إن مقاتلي حماس خرجوا من الأنفاق مرتدين ملابس الجيش الإسرائيلي وقتلوا جنوداً إسرائيليين.
ولكن مثل هذه التحركات تحمل تكلفة: بعد 6 أسابيع من الصراع في عام 2014، قالت الولايات المتحدة إن 2104 فلسطينيين قُتلوا، من بينهم 1462 مدنياً، ومنهم 495 طفلاً. وقُتل كذلك 66 إسرائيلياً من صفوف الجيش الإسرائيلي، بجانب 6 مدنيين إسرائيليين.
هل الأمر مختلفٌ هذه المرة؟
يبدو أن الموقف في غزة يسير على نمط مشابه، هذا الأسبوع: أطلقت حركة حماس وحركة الجهاد الإسلامي صواريخ على إسرائيل، بعد مساعٍ إسرائيلية لطرد مواطنين مقدسيين من حي الشيخ جراح بالقدس، إضافة إلى استعداد المستوطنين لاقتحام المسجد الأقصى.
وردَّ الجيش الإسرائيلي بغارات جوية عنيفة، مستهدفاً قادة حماس، لكنه تسبب في قتل مدنيين أيضاً. وأشارت التقارير إلى وجود إصابات ووفيات في كلا الجانبين، لكن الخسائر في صفوف الفلسطينيين كانت أكبر بكثير على نحو غير متناسب، حسب الصحيفة الأمريكية.
ويبدو أن حماس أدخلت تغييرات كبيرة على تكتيكاتها في السنوات الأخيرة، فقد أطلقت صواريخ طويلة المدى وصلت إلى تل أبيب هذا الأسبوع، وبدا أنها تكتسح لوقت قصيرٍ القبة الحديدية، وفقاً لـ"واشنطن بوست".
فضلاً عن أن انتشار العنف في المدن الإسرائيلية ذات الكثافة السكانية من العرب، أثار هو الآخر تساؤلات حول التكتيكات العسكرية التي تركز على قطاع غزة.
لكن إسرائيل يبدو أنها تتبع قواعدها المتمثلة في "جز العشب"، رغم عدم نجاحها في المرات السابقة.
في يوم الجمعة 14 مايو/أيار، قال المسؤولون الإسرائيليون إن أكثر من 60 طائرة ضربت في آن واحد، أكثر من 150 هدفاً تحت الأرض شمال قطاع غزة، تركزت حول مدينة بيت لاهيا.
ولم تغزُ إسرائيل، غزة حتى أمس الجمعة، مع أن المسؤولين قالوا مساءً إن هجوماً برياً على القطاع كان يجري حالياً إعداده. وأشارت وسائل الإعلام الإسرائيلية إلى أن الإعلان الزائف عن الغزو عبر متحدث يتحدث باللغة الإنجليزية، كان تكتيكاً تضليلياً متعمداً.
ولكن كثيرين في إسرائيل رأوه فضيحة كبرى، حسبما ورد في تقرير سابق لموقع عربي بوست.
هل نجح تكتيك "جز العشب"؟
السؤال: هل نجح تكتيك "جز العشب" في إضعاف المقاومة الفلسطينية أو بالأحرى منع نموها بشكل يمكن أن يكون أكبر في حال عدم تنفيذ مثل هذه العمليات؟
الأمر المهم الذي تجب ملاحظته لتقييم الوضع العسكري الحالي، هو أن حركات المقاومة تُخفي معظم بنيتها وأسلحتها (غالباً تحت الأرض)، مما يجعل تأثير العمليات العسكرية محدوداً عليها.
كما أن عمليات الاغتيال للقيادات رغم تأثيرها المعنوي، لم تؤدِّ على مدار السنوات، إلى إضعاف "حماس" و"الجهاد"، فقد تخلصت إسرائيل من قادة بارزين لكتائب عز الدين القسام، الجناح العسكري لـ"حماس"، وسرايا القدس الجناح العسكري لـ"الجهاد"، ومع ذلك تطور أداء الفصيلين بشكل لافت.
المقاومة الفلسطينية بدأت بالأسلحة البيضاء وانتهت بالصواريخ والطائرات المسيرة
وتتسم استراتيجيات حماس والجهاد بالقدرة على التكيف، فمع نجاح إسرائيل في اكتشاف الأنفاق وتدميرها، وتطور القبة الحديدية، بدأت حماس على سبيل المثال الاهتمام بالطائرات المسيرة، لأنها مصنوعة من مواد يصعب رصدها من القبة الحديدية، ومحركاتها لا تنبعث منها طاقة كبيرة، وهو ما يصعب اكتشافها.
لتقييم دقيق لمدى فعالية استراتيجية الجيش الإسرائيلي في غزة مقارنة بحركات المقاومة، يجب تذكُّر أن حركات المقاومة في غزة بدأت بإلقاء الحجارة والطعن بالسكاكين ثم العمليات الفدائية، ومنها لصواريخ بدائية كان يطلق عليها الرئيس الفلسطيني محمود عباس الصواريخ الكرتونية، اليوم هذه الصواريخ تسببت في إغلاق مطار تل أبيب مراراً.
وبدأت صناعة السلاح في قطاع غزة مع بداية الانتفاضة الثانية. في عام 2000 حدثت انتفاضة الأقصى التي جاءت على أنقاض الانتفاضة الأولى، وبدأت الجماعات الفلسطينية تطور منذ عام 2002 منظومتها العسكرية، خصوصاً منظومة الصواريخ، حسبما قال المحلل السياسي وخبير الجماعات الإسلامية في غزة، الدكتور إبراهيم أبو سعادة، لموقع DW الألماني.
وقد بدأت كاجتهادات فردية إلى أن تبنتها التنظيمات، وكانت عملية صناعة المتفجرات والصواريخ عملية بدائية ذهب ضحيتها كثيرون وفقد البعض أطرافهم بسببها. الصواريخ في البداية كانت تصل إلى بضع كيلومترات، لكن بعد عقد من الزمن تصل الآن إلى عشرات الكيلومترات.
حول الدعم الخارجي يقول أبو سعادة: "بالتأكيد، حركة حماس والجهاد الإسلامي وكل المقاومة الفلسطينية تستفيد من الحلفاء. فالثورة الفلسطينية قديماً استفادت من الاتحاد السوفييتي السابق والصين. واليوم تستفيد من إيران وحزب الله تحديداً. فبعد حرب لبنان عام 2006، بدأت المقاومة الفلسطينية تطوير نموذج فلسطيني، يرتكز على فكرة الأنفاق والحرب بالصواريخ. وجدت إرادة فلسطينية قوية بهذا الاتجاه مع إمكانات عند إيران وحزب الله، فالتقت الرغبتان الفلسطينية والإيرانية وأنتجت منظومة الصواريخ الحالية".
في الأعوام 2006 و2008 و2010، تدرب كثير من الشباب المنتمين إلى حركات المقاومة بإيران وسوريا ولبنان على تصنيع الصواريخ والدروع. أما المصدر الثاني فهو صواريخ "فجر 5" التي كانت تأتي إلى قطاع غزة، عبر شبكة الإمداد من السودان عبر الأحمر إلى مصر وحتى سيناء.
لكن الآن، الصناعة الداخلية هي المصدر الأهم فخطوط الإمدادات انقطعت، بسبب تضييق القاهرة في عهد الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، على غزة عكس ما كان يسمح به نظام مبارك ونظام الإخوان في مصر، حسب الدكتور إبراهيم أبو سعادة.
وأشار إلى أن إسرائيل قصفت بالصواريخ مرات عدة، مصانع تصنيع هذه الأسلحة خلال حرب غزة الماضية.
تل أبيب لم تعد آمنة
وأعلنت كتائب القسام، اليوم السبت، توجيه ضربة صاروخية لتل أبيب بعشرات الصواريخ؛ وذلك رداً على مجزرة مخيم الشاطئ.
وأفادت وسائل إعلام إسرائيلية، بأن 30 صاروخاً استهدفت تل أبيب وضواحيها الآن، مشيرةً إلى أن القبة الحديدية اعترضت صواريخ تم إطلاقها من قطاع غزة باتجاه تل أبيب ومناطق أخرى.
وأكدت أن صفارات الإنذار دوت في أسدود وشرق تل أبيب واللد وساحل تل أبيب.
وقالت إذاعة الجيش الإسرائيلي: "بسبب صواريخ غزة، تم إلغاء نحو 40 رحلة طيران، كان من المفترض أن تهبط السبت في مطار بن غوريون، قادمة من وجهات عديدة، منها نيويورك وباريس ولندن وفرانكفورت وشيكاغو".
ودوّت انفجارات متتالية في تل أبيب وقرب مطار "بن غوريون"، وفق ما ذكرته وسائل إعلام اسرائيلية، تحدثت عن أنباء عن سقوط صاروخ في منطقة "رامات غان"، فيما تحدثت وسائل إعلام إسرائيلية عن سقوط قتيل في هذا القصف.
وأعلنت كتائب القسام، الذراع العسكرية لحركة المقاومة الإسلامية "حماس"، السبت 15 مايو/أيار 2021، عن استعدادها لقصف مدينة تل أبيب لمدة 6 أشهر، وذلك في تحذير لإسرائيل التي تفشل في صد جميع الصواريخ المتجهة نحو المدن المُحتلة.
وقبل ذلك، أعلنت الكتائب، الخميس، أنها نفذت هجمات على أهداف إسرائيلية باستخدام طائرات دون طيار (درونز) مفخخة من طراز "شهاب" محلية الصنع.
وقالت الكتائب، في بيان، إنها "أدخلت سلاحاً جديداً إلى الخدمة في معركة سيف القدس، حيث استهدفت بعددٍ من الطائرات المسيرة الانتحارية من طراز (شهاب) محلية الصنع، منصة الغاز في عرض البحر قبالة ساحل شمال غزة ظهر الأربعاء الماضي، وتحشيدات عسكرية على تخوم قطاع غزة ظهر".
تشير هذه التطورات إلى أن استراتيجتي جز العشب والحصار كانت تمثلان- على ما يبدو- حافزاً للمقاومة الفلسطينية لتطوير نفسها، أكثر بكثير، من كونهما وسيلة لإضعافها، والمقارنة بين الحالة المقاوِمة في غزة، بحال الضفة الغربية تحت حكم السلطة الفلسطينية، والتي كانت قبل سنوات معقلاً مهماً للمقاومة تحت الاحتلال، تقدم مؤشراً على فشل الإستراتيجية الإسرائيلية.
بل التطور اللافت باشتراط المقاومة في غزة ضرورة عدم المساس بالأقصى، وهبَّة عرب الداخل يكشف عن فشل لأهم أهداف إسرائيل اللإستراتيجية وهي تقسيم مكونات الشعب الفلسطيني بين داخل ولاجئين وضفة وغزة.